استنتج سايرس أن زيارته المُجهدة لقصر الأرشيدوق كريسميل كانت قرارًا صائبًا.
“كان يمكننا اللقاء غدًا، الوقت تأخر، فلمَ انتظرتِ؟”
كان يشهد مشهدًا غير متوقعٍ ومُحيّرٍ في آنٍ معًا.
ذلك الرجل الذي ألحّ عليه بالرحيل فور الغد كان يهدئ ابنته قائلًا أن اليوم ليس الفرصة الوحيدة.
“انظري، عيناكِ مغمورةٌ بالنعاس.”
حمل الأرشيدوق آردين لوسي بنبرةٍ رقيقة، متجاهلًا سايرس كأنه شبحٌ لا وجود له، وبدأ يسير مبتعدًا.
“كانت تنتظرني أنا!”
لم يكن لديه دليلٌ قاطع، لكن نظرة لوسي الخاطفة نحوه جعلته يتيقن.
كانت تنتظره هو، حتى وإن غلبها النعاس.
لكن الأرشيدوق آردين لم يسمح حتى بهذا، إذ ضغط وجه لوسي على كتفه بحزم، كأنه يمنعها من النظر إلى غيره.
“إن أحسستِ بالنعاس، فعليكِ النوم. هيا، نامي.”
ربت الأرشيدوق على ظهر لوسي وهو يبتعد في الممر.
كانت لوسي، المختفية خلف قامته الضخمة، تظهر فقط برأسها الأسود الصغير.
تسمّر سايرس في مكانه، عاجزًا عن تحريك قدمٍ واحدة أمام هذا المشهد المربك.
كان قد لاحظ منذ نزوله من العربة كيف يحمي الأرشيدوق لوسي ويتعامل معه بحذر، لكنه لم يتوقع هذا التجاهل الصارخ.
كان الأمر مذهلًا، لكن جانبه الجديد لم يكن مُزعجًا، فابتسم سايرس وأطلق ضحكةً خافتة وهو يقف وحيدًا في الفضاء الخالي.
***
بعد الإفطار، توجه ديرموت مباشرةً للبحث عن الأرشيدوق آردين.
كان قد طلب منه مهلةً مدتها أسبوع، لكنه، مدركًا أن الأرشيدوق سيترقب النتائج أكثر من أي أحد، اتخذ قرارًا سريعًا.
بدت السيدة إيسيل وكأنها شفيت تمامًا، فلمَ تشعر بالألم؟ قضى الأيام القليلة الماضية يسهر مع زملائه مفكرًا في هذا اللغز.
كثر المتشككون فيما رآه بعينيه، مما أدى إلى نقاشاتٍ عقيمة.
كيف يمكن لمريضةٍ بالنوم القسري أن تستيقظ بفعلٍ بشري؟
فوجئ ديرموت بهذا الأمر كما لم يفاجأ من قبل، لكن صرخات السيدة إيسيل آنذاك جعلت هذه الحقيقة تبدو تافهةً مقارنةً بألمها المرعب.
منذ خروجه من الجناح المنفصل، لم يشغل بال ديرموت سوى الآنسة لوسي التي أيقظت مصابة بمرض النوم.
ما هي تلك القدرة؟
لم يُطلعه الأرشيدوق آردين على شيء، فلا بد أنها سرٌ يهمس به الجميع.
لولا إقامته في هذا القصر، لما شهد تلك اللحظة المذهلة.
حتى زملاؤه لم يصدقوا ذلك.
لم تُثمر مناقشات الأطباء حول قدرة الآنسة لوسي عن أي نتيجة.
لذا، ركزوا على إيجاد طريقةٍ آمنة لإيقاظ السيدة إيسيل.
وبعد التوصل إلى قرارٍ واحد، وقف ديرموت أمام الأرشيدوق آردين.
‘مهما فكرت، يبدو أن مرض وافورد قد شفي تمامًا، لكن غرابة الأمر تكمن في شعور السيدة بالألم.’
لم يجرؤ ديرموت على مواجهة عيني الأرشيدوق آردين مباشرة، فمجرد الجلوس أمامه كان كافيًا ليجعله يشعر بالتوتر.
كان يعرف سمعته جيدًا، لكنه لم يعتده في القصر كثيرًا، مما جعله يشعر بالغربة.
والأكثر من ذلك، كانت قصص الفوضى التي سمعها عنه في الحفل تجعله أمام جسده يتصلب تلقائيًا.
قيل إن خمسين نبيلًا كادوا يموتون في ليلةٍ واحدة، مضغوطين بقوةٍ غريبةٍ من الأرشيدوق منعتهم من التنفس.
لم يرَ تلك القوة بعينيه، لكنها كانت مخيفةً بما يكفي.
تلك الليلة، امتلأت غرفة العلاج بالنبلاء الذين تدفقوا كالموج، بعضهم ينزف دمًا غزيرًا، مما جعل ديرموت يدرك عظمة قوة الأرشيدوق من جديد.
خشي أن يزعجه حديثه، فنظر إليه خلسةً.
حين رأى الأرشيدوق يرمش بعينيه ببطء، انتفض ديرموت.
كان ذلك يعني أنه يستمع جيدًا، لكن عينيه البنفسجيتين الحادتين جعلتا ظهره ينقبض رغم دفء الطقس.
تساءل عما إذا كان قراره سيُرفض، وهل سيتعين عليه اختبار قوة الأرشيدوق بنفسه إن حدث ذلك.
خفض ديرموت عينيه وواصل.
“بعد مشاورة زملائي، نرجح أن السيدة تعاني من ألمٍ وهمي.”
لم يأتِ رد، فأخطأ ديرموت برفع رأسه مجددًا.
“ثم ماذا؟” كانت عينا الأرشيدوق تطالبان بالمزيد من التوضيح.
“لذا، خططنا لحقنها بمهدئ قبل إيقاظها المرة القادمة.”
“هل هذا آمن؟”
كان ردًا متوقعًا، لكن ديرموت ارتجف.
كان سؤالًا مشروعًا، لكنه جعل ديرموت يتساءل عما إذا كان يجب إعادة اختبار الدواء، رغم أنه مُثبت منذ زمن.
فكر للحظة في أدويةٍ أقوى من المهدئ، كالمخدرات أو المُسببة للشلل، لكنه هز رأسه رافضًا الفكرة.
“أعتقد أن استخدام جرعةٍ أقل من المعتاد ومراقبة رد فعلها سيكون الأفضل.”
حتى بعد التفكير، بدا المهدئ الخيار الأمثل، فقرر ديرموت تقليل الجرعة.
مهما كانت قدرة الآنسة لوسي، فقد أسكتت صراخ السيدة إيسيل في لحظة.
إذا كان هناك حلٌ آمنٌ قريب، فحتى لو فشل المهدئ، ستكون هناك وسيلة.
لكن إذا سمعت صرخات السيدة إيسيل مجددًا، فسيُلام على الحل الذي اقترحه.
وبدون بديلٍ واضح، أطبق ديرموت فمه منتظرًا قرار الأرشيدوق.
“لنفعل ذلك بعد يومين.”
غدًا ينتهي المهرجان، والنبلاء الذين تباطأوا في القصر بدأوا يحزمون أمتعتهم.
مهما كانوا فاقدي الحس، لن يبقوا بعد انتهاء المهرجان.
يبدو أن الأرشيدوق آردين ينوي إيقاظ السيدة إيسيل مجددًا عندما يعود الهدوء ليعم القصر كالمعتاد.
أومأ ديرموت برأسه بإيجاز، ثم غادر المكتب، متخلصًا من الضغط الذي كاد يسحق قلبه.
***
كانت لوسي تجوب الحديقة مع الأرشيدوق آردين.
كانت تتبعه فقط دون أن تعرف إلى أين يتجهان.
إلى اليسار، كان الجناح المنفصل يلوح من بعيد، وأمامهما مباشرةً كانت الغابة المتصلة بجبل فلابيس.
هل تسأله عن وجهته؟ كانت تنظر إليه خلسةً دون أن توقف خطواتها.
كانت هذه المرة الأولى التي تمشي فيها مع الأرشيدوق آردين.
ورغم غياب الحديث بينهما، لم يكن الوقت سيئًا.
كانت الشمس دافئةً والنسيم عليلًا.
عبير الزهور المنتشر في الحديقة ورائحة العشب المنعشة كانتا مبهجتين.
كان الأرشيدوق يسير ببطءٍ متناغمٍ مع خطواتها، ثم أشار فجأةً بأصبعه إلى ركنٍ في الحديقة.
كان هناك بناءٌ يشبه المظلة.
هل كانت تلك وجهته؟
اتجه إليها مباشرةً.
كان هناك جدارٌ أبيض ضخم، وأمامه مساحةٌ واسعةٌ مرصوفةٌ بالرخام تتسع لعشرات الراقصين.
على جانبٍ، وُضعت طاولةٌ وكراسٍ لتناول الشاي.
على جانبي الجدار الأبيض، كانت أشجار الكرمة مزروعةً، وقد امتدت أغصانها كسقفٍ طبيعي.
كانت أزهار الكرمة في أوج تفتحها، تفوح برائحةٍ عميقة.
“هنا أقمت خطوبتي مع إيسيل.”
“يا إلهي!”
صاحت لوسي بحماسٍ رغم قصر التوضيح.
كانت قد رأت المكان في ذكريات والدتها.
لكن نظرات أمها آنذاك كانت متجهةً إلى الأرشيدوق أكثر من المكان، لذا بدا الموقع جديدًا في عيني لوسي.
كانت أشجار الكرمة والجدار الأبيض أكبر مما في ذاكرتها.
وبفضل العناية الجيدة، كانت الطاولة خاليةً من الأغصان أو الأوراق المتساقطة.
جلس الأرشيدوق آردين أولًا.
تأملت لوسي أزهار الكرمة المتدلية بغزارة قبل أن تستقر على كرسيها.
عندما أقيمت الخطوبة، لم تكن أزهار الكرمة مزهرةً.
لذا زُينت الأغصان بقماشٍ أبيض وأزهارٍ ملونة.
لكن اليوم، مع أزهار الكرمة وحدها، كان المكان أكثر إشراقًا.
الظل الناتج عن حجبهم للشمس جعل المكان يبدو كملاذٍ دافئ.
“أنوي إيقاظ إيسيل غدًا مجددًا…”
هل وجد طريقةً آمنةً لإيقاظ والدتها؟ توقفت لوسي عن هز ساقيها، التي كانت تتأرجح من الفضول، ونظرت إلى الأرشيدوق.
“الطبيب أكد أن مرض وافورد قد شفي، لكنه قال إنهم سيعطونها مهدئًا قبل إيقاظها.”
لم تعرف لوسي ما هو المهدئ، فمالت رأسها قليلًا بحيرة.
“ادّعى أن ذكريات الألم السابق لا تزال عالقةً في جسدها، مما يسبب لها ألمًا وهميًا.”
“همم…”
لم تكن لوسي تعرف شيئًا عن الألم الوهمي.
كل ما أرادته هو ألا تصرخ والدتها أو تعاني عندما تستيقظ مجددًا.
هل المهدئ يحقق ذلك؟
إذا كان ألمًا وهميًا، فهل يعني أن تشعر بألمٍ دون أن تكون مريضة؟ نظرت لوسي إلى الفراغ للحظةٍ، تتأمل.
كلمة “وهمي” أعادت إلى ذهنها جبل فلابيس.
قالت احدى الجنيات إنها ألقت سحرًا على الجبل لتمنع الغرباء من التطفل عليه.
كان نوعًا من الحماية لأمها، لها، وللجنيات.
بالنسبة للآخرين، ستبدو مجرد غابةٍ عادية.
هل الألم الوهمي مشابهٌ لذلك؟ منزلٌ صغيرٌ وجنياتٌ موجودة، لكنها غير مرئيةٍ للغرباء.
ربما تتذكر والدتها ألم مرض وافورد بعمق، فتشعر به رغم شفائها.
“لكن إن شعرت أمي بالألم، سأجعلها تنام فورًا.”
استعدت لوسي لاحتمال فشل المهدئ.
كانت تعتقد أنه ليس دواءً ممزوجًا بسحرٍ خاص كما لدى الجنيات.
ابتسم الأرشيدوق آريدن بصمت، كأن إجابتها أرضته.
“قدرتك على رؤية الذكريات… أحسدكِ عليها.”
اتسعت عينا لوسي بدهشةٍ أمام هذا التصريح المفاجئ.
التعليقات لهذا الفصل "39"