بينما ينظر إلى الأرشيدوق آردين الذي يهز رأسه بنزق، عض سايرس شفتيه بقوة.
كان يخشى أن يفلت ضحكة لو أرخى حذره ولو للحظة.
منذ أن نزل من العربة برفقة لوسي، وهو يشهد جانبًا غير مألوف من الأرشيدوق آردين.
كان من المتوقع أن يعتني بابنته، التي التقاها بعد ثماني سنوات، أكثر من أي أحدٍ آخر.
ربما كانت لوسي طفلةً لم يعلم بوجودها حتى.
تقول الشائعات إن خطيبته غادرت المنزل، فلم يكن مؤكدًا ما إذا كان آردين على علمٍ بوجود طفلٍ منها.
كيف يُشعر المرء بلقاء ابنته البالغة؟ لم يستطع سايرس حتى تخيل ذلك.
بسبب السنوات التي قضياها منفصلين، قد يشعران بالغرابة والإحراج، أو ربما يغمره الأسف لعدم تمكنه من التواجد معها حينها.
ومع ذلك، لا بد أن قلبه يفيض بالفرح والمحبة.
على الرغم من أن سايرس تخيل علاقة لوسي وآردين قبل وصوله إلى هنا، إلا أن ما أظهره الأرشيدوق فاق توقعاته.
كان يحتضن لوسي بطريقةٍ متعثرة لكنها حازمة، ويعبر عن مشاعره بكل جسده بأسلوبٍ يختلف تمامًا عن الأرشيدوق آردين الذي عرفه سايرس.
ما زاد من دهشته هو أن تلك المشاعر تحمل عداءً موجهًا نحوه.
كان آردين دومًا شخصًا لا تُقرأ أفكاره إلا إذا أراد هو ذلك، لكن الآن، كان يحدق في سايرس بعينين مفعمتين بالاستياء، وهو أمرٌ بدا له عجيبًا بحق.
ما الذي يزعجه إلى هذا الحد؟
هل هو قدومه المفاجئ؟
أم معرفته بلوسي؟
ربما كلاهما، لكن بدا أن الأخيرة تحمل نصيبًا أكبر من انفعاله.
“اسألني عما يحيرك.”
ابتسم سايرس بهدوء وهو يخاطب الأرشيدوق آردين.
إذا كان قد خصص وقتًا للجلوس معه بعد العشاء، فلا بد أن لديه الكثير من الأسئلة حوله، هو الذي لم يكن يبدي أدنى اهتمام به من قبل.
كان يعلم جيدًا من السبب، ولهذا كان يجد صعوبةً في كبح ابتسامته.
لم يشعر يومًا بقربٍ من الأرشيدوق آردين، الذي طالما نظر إليه بإعجابٍ وسعى لمحاكاته، كما شعر به اليوم.
كان توتره الظاهر يجعله يبدو بشريًا أكثر.
كان بإمكانه الإجابة عن تساؤلاته الواضحة دون انتظار السؤال، لكنه لم يرد تفويت هذه الفرصة.
فرصة رؤية الأرشيدوق آردين يتذمر أمامه.
“لوسي، متى التقيتها؟”
نظر آردين إلى سايرس بنظرةٍ حادة، كمن يرى ابن عرسٍ صغيرًا، جميلًا لكنه قد يعض أصبعك إن اقتربت منه.
لم يُعجبه تظاهره بالجهل رغم علمه بما يشغل باله، لكنه لم يستطع منع نفسه من السؤال، وإن كان يعلم أنه سيُقابل بإجابةٍ مزعجة.
كان فضوله حقيقيًا لمعرفة متى بدأت علاقتهما، ولماذا لم يُخبره عنها.
وكما توقع، ارتسمت ابتسامةٌ سلسة على شفتي سايرس، كأنه كان ينتظر هذا السؤال.
كانت تلك الابتسامة تجعل المرء يرغب في تعليقه رأسًا على عقب في زنزانةٍ تحت الأرض لاستجوابه.
لو لم يكن من العائلة الإمبراطورية وصغير السن، لفعل آردين ذلك دون تردد.
“سنة ونصف؟ لقد مر وقتٌ طويل بالفعل.”
فاجأت المدة آردين لدرجة أنه لم يستطع التحكم في تعابير وجهه.
لكن لا، ربما كانت هذه المدة هي ما جعل سايرس يتعرف على لوسي الحالية.
ألا يقولون إن الأطفال يكبرون بسرعة؟ في ليلة الأمس بالحفل، شعر آردين أن لوسي نمت أكثر، فاحتضنها عمدًا، مدركًا أن ذراعيه لن تكفياها يومًا ما، فقرر أن يعانقها كثيرًا قبل ذلك اليوم.
“كيف التقيتما؟”
بدأ التحقيق رسميًا.
لو أن سايرس أجاب دون انتظار الأسئلة لكان أفضل.
شبك آردين يديه ووضعهما على ركبته.
كان يزعجه رؤية تلك العينين الحمراوين المركزتين وهما تستعيدان الذكريات، كأنما يتباهى سايرس بامتلاكه ذكرياتٍ مشتركة مع لوسي.
“هل تتذكر ذلك؟”
كان يُفترض أن يكون المحقق، لكن السؤال عاد إليه.
عبس آردين متجهمًا.
“قبل سنة ونصف، عندما طلبتُ مساعدتك، يا سمو الأرشيدوق.”
“مساعدة؟”
لم يتذكر شيئًا، فسأل آردين مستفسرًا.
كان الأمير قد طلب منه أن يكون معلمه في المبارزة من قبل، لكن طلب مساعدة؟ لم يكن ذلك في ذاكرته.
ما الذي قد ينقص أمير الإمبراطورية ليطلب مساعدته؟ نظر آردين إلى الأمير بعينين متسعتين قليلًا، فصطدم بنظرةٍ تتوقع ألا يتذكر.
“خادمي رالف، هل تتذكره؟”
سؤالٌ آخر يتبع سابقه.
ليس هذا بمسابقة تخمين! عبس آردين أكثر، لكنه كان يعرف من يقصده.
كيف لا يعرف خادمًا ظل بجانب الأمير لسنواتٍ طويلة؟ لم يتذكر اسمه تحديدًا، لكنه لم يكن غريبًا عنه.
“اتضح أنه كان من رجال الإمبراطورة. قضى عشر سنواتٍ إلى جانبي.”
دهش آردين من كلام سايرس لدرجة أنه فتح فمه قليلًا ثم أغلقه.
الإمبراطورة كاساندرا، التي أدخلها الإمبراطور قبل تسع سنوات، كانت قد وضعت خطتها قبل أن تصبح جزءًا من العائلة الإمبراطورية.
هل عرفت مسبقًا أنها ستصبح إمبراطورة؟ دقة تخطيط عائلة آراسيليس، مسقط رأس الإمبراطورة، كانت مذهلة.
“كشف عن وجهه الحقيقي خلال مسابقة الصيد.”
كانت هذه قصةً جديدةً بالنسبة لآردين، فاستمع باهتمامٍ، ناسيًا أسئلته السابقة.
كاساندرا، التي دخلت كمحظية للإمبراطور، أنجبت ابنًا خلال عامٍ واحد، ثم صعدت إلى مرتبة الإمبراطورة.
يبدو أنها خططت لكل ذلك، بما في ذلك زرع جاسوسٍ بجانب الأمير الأول سايرس.
“عندما بلغ آوساريس التاسعة، بدأت تشعر بالقلق. كان عليّ أن أختفي حتى يصبح آوساريس ولي العهد.”
توقف آردين للحظة ليفكر من يكون آوساريس.
لم يكن قد التقى بالأمير الثاني شخصيًا، لذا لم يكن اسمه مألوفًا.
كما قال سايرس، لم يكن للإمبراطورية ولي عهدٍ رسمي بعد.
لم يستطع آردين تخمين ما يفكر فيه الإمبراطور آزاد.
كان من غير المفهوم أن يتردد حتى الآن مع وجود سايرس، ابن الإمبراطورة إيلينا.
بل الأصح أن يقال إنه لم يكن مهتمًا بكيفية إدارة العائلة الإمبراطورية أو بما يدور في ذهن الإمبراطور.
كانت تلك شؤونًا بعيدة عنه، ولم يكن لديه نية للتدخل.
لكن عدم تتويج سايرس وليًا للعهد لم يكن بسبب نقصٍ في قدراته أو أصله، بل بدا أن ذلك جزءٌ من مؤامرة الإمبراطورة.
منذ رحيل إيسيل، ابتعد آردين عن العائلة الإمبراطورية أكثر، فلم يكن يعرف تفاصيل ما حدث خلال العشر سنوات الماضية.
وأن يطرح سايرس هذه القصة الآن، بينما يسأله عن لوسي، كان أمرًا غريبًا.
نظر آردين بصبرٍ إلى سايرس، الذي كان على شفا الموت، منتظرًا تكملة حديثه.
“كنت أشك فيه، لكن لم تكن لدي أدلةٌ قاطعة، فطلبت مساعدتك، سمو الأرشيدوق، أن تشارك في مسابقة الصيد تلك.”
“آه…”
أدرك آردين أخيرًا ما قصده سايرس بطلب المساعدة.
كانت مسابقة الصيد التي تُعقد كل سنتين ترسل له دعواتٍ دائمًا رغم عدم مشاركته.
كان سايرس يرسل أحيانًا رسائل يسأل فيها عن أحواله، ومن بينها رسالةٌ غريبة تطلب منه حضور المسابقة.
لم يكن آردين يرى أهميةً في تلك الألعاب التي يمارسها النبلاء للتسلية، مفضلًا توغلاته ضد الوحوش، فتجاهل طلب سايرس دون اكتراث.
“أُقيمت مسابقة الصيد في جبل فيتولا.
طُردت من هناك حتى وصلت إلى جبل فلابيس.”
كانت تلك اللحظة التي حصل فيها آردين على إجابةٍ لسؤاله.
كان جبل فيتولا مكانًا خطيرًا تظهر فيه الوحوش أحيانًا.
بدا غريبًا أن يعقدوا مسابقة صيدٍ هناك، لكن إذا كان الأمير الأول هدفًا، فالأمر منطقي.
لكن المسافة بين فيتولا وجبل فلابيس ليست بالهينة.
يبدو أن هذا الفتى لم يكن مجرد صبيٍ مدلل.
“لولا لوسي، لكنتُ قد مت.”
عندما لامست عيناه نظرةً تحمل شيئًا من اللوم، رفع آردين حاجبيه باستغرابٍ خفيف.
هل أصيب بجروحٍ بالغة؟
لقد وقع في فخ خادمه الذي اعتبره حليفًا، فلم يكن الهروب سهلًا، ولا بد أنه لم يطارده شخصٌ أو اثنان فقط.
ومع ذلك، كان من المتوقع أن ينجو أميرٌ مثله.
بالنسبة لآردين، الذي لم يواجه تهديدًا لحياته من أحدٍ قط، كان ذلك أمرًا بديهيًا.
“إذن لوسي هي من أنقذت…”
قطع آردين كلماته فجأة، ليبتلعها قبل أن يتفوه بها.
لوسي منقذة حياة سايرس؟ شعر أنه إذا نطق بهذا، فلن يستطيع فك تلك الرابطة القوية بينهما.
“نعم، لوسي هي منقذة حياتي.”
ابتسم سايرس بمرحٍ، كأنه لم يلم آردين قبل لحظات، مكملًا ما عجز آردين عن قوله.
أمسك آردين بقبضته اليسرى بقوة.
كانت ابتسامةً تجعل المرء يرغب في صفعه من فرط استفزازها.
لوسي، بطبعها، لم تكن لتترك سايرس المصاب دون مساعدة.
ابنةٌ تمتلك القدرة على إنقاذ والدتها من مرضين نادرين، كانت بالتأكيد قادرةً على إنقاذ سايرس مهما كان على شفا الموت.
‘كان يجب أن تموت قبل أن تصل إلى جبل فلابيس.’
فكر آردين بهذا في سره، وهي كلماتٌ كانت ستثير غضب سايرس لو سمعها.
كان ذهنه مرتبكًا أصلًا، لكن كلمات سايرس التالية جعلته يكشف عن اضطرابه دون قصد.
“هناك التقيت بالأرشيدوقة أيضًا.”
“……..!”
حدق آردين في الأمير للحظة، ثم أحنى رأسه وأطلق تنهيدةً ثقيلة.
كانت إيسيل في الجناح المنفصل، لكنه لم يقابلها بعد.
لم يتبادل معها نظرات عينيها الخضراوين البراقتين، ولم يتحدث إليها.
لهذا، رغم أنه يستطيع رؤيتها في أي وقت، كان يشعر بفراغٍ كأنها ليست إلى جانبه بعد.
عادت إليه بعد تسع سنوات، لكن أن يلتقيها سايرس قبله جعل مشاعره تعصف به بلا هوادة.
كيف كانت إيسيل قبل سنة ونصف؟ هل كانت غارقةً في مرض النوم آنذاك؟ أم كانت تعاني ذروة مرض وافورد؟
كان لديه الكثير ليسأله، لكنه لم يستطع نطق أيٍ منها.
شعر أن السؤال سيكون بمثابة هزيمةٍ أمام سايرس.
ليست مباراةً، لكنه شعر أنه خسر مرةً بالفعل لأن سايرس التقى بـ لوسي أولًا.
التعليقات لهذا الفصل "37"