“بوجودكِ، ستستيقظ قريبًا.”
ربت سايرس برفقٍ على رأس لوسي التي كانت منحنيةً بحزنٍ واضح.
كان ذلك أفضل ما يستطيع تقديمه من عزاءٍ في تلك اللحظة.
“أليس كذلك؟ الطبيب يتابع حالتها، فستتحسن قريبًا، صحيح؟”
على الرغم من تعثر كلمات تعزيته، بدا أنها أصابت الهدف، إذ رفعت لوسي رأسها فجأةً وأجابت بحماس.
فكرت لوسي في ديرموت، الذي بات يزور والدتها أكثر من ذي قبل.
ما دام يبحث عن المشكلة، فسيكتشفها عما قريب.
لقد قال أيضًا إن مرض وافورد ربما لم يشفَ بالكامل، على عكس ما يبدو ظاهريًا.
ومع ذلك، فإن كلمات سايرس جعلت قلبها الثقيل يخف قليلًا.
كانت لوسي نفسها تزور والدتها باستمرارٍ لا يقل عن ديرموت.
“يبدو أنك كنت قلقًا.”
تمتم سايرس وهو ينظر من النافذة.
ظنت لوسي أنه يتحدث عن والدتها، فأومأت برأسها قبل أن تتبع نظراته إلى الخارج.
منذ أن شعرت بتباطؤ العربة، أدركت أنهم اقتربوا من قصر الأرشيدوق.
تساءلت عمن يقصده، لكن حينئذٍ فتح الأرشيدوق آردين باب العربة.
“الأرشيدوق آردين، لم نلتقِ منذ زمن.”
“هه.”
ردَّ الأرشيدوق آردين بضحكةٍ ساخرة على تحية سايرس الودودة.
دون اكتراثٍ باضطراب الأرشيدوق، مدَّ سايرس يده لمساعدة لوسي على النزول من العربة.
“سأعتني بابنتي بنفسي.”
“هاه؟”
تدخل الأرشيدوق آردين بخطوةٍ واسعة وحمل لوسي بين ذراعيه.
تفاجأت لوسي بهذا الاحتضان المفاجئ، فقد كانت تجربتها الثانية منذ الليلة الماضية، لكنه لم يكن مألوفًا بعد.
بينما كانت تتلوى من المفاجأة، ضمها الأرشيدوق آردين إليه بقوةٍ أكبر.
ظلت يد سايرس، التي لم يمسكها أحد، تتأرجح في الهواء قبل أن تستقر خلف ظهره.
“تبدو غير مرتاحة.”
“ما الذي أتى بكَ إلى هنا؟”
تبادلا كلماتٍ متضاربة.
كبح سايرس ضحكةً كادت تفلت منه وهو ينظر إلى الأرشيدوق آردين، الذي بدا كقطةٍ منفوشة الفراء من شدة قلقه وحدته.
هل كان الأرشيدوق آردين هكذا من قبل؟
منذ أن كان في الخامسة، شاهد سايرس هذا الرجل.
ربما التقاه قبل ذلك، لكن ذاكرته تبدأ من تلك السنة.
في طفولته، كان الأرشيدوق يتمتع بهيبةٍ تجعل مجرد تحيته تُشعر سايرس بالرهبة.
كانت الشائعات التي تقول إنه الأقوى في إمبراطورية بيراكا تبدو حقيقةً جليةً من النظرة الأولى.
كان مخيفًا لدرجة يصعب معها مخاطبته بجرأة.
عيناه الحادتين بدتا مهيبتين وخطيرتين في آنٍ واحد.
وبعد ثلاث سنوات، عندما زار قصر الأرشيدوق كريسميل، لم يجد سايرس ذلك البطل المهيب الذي في ذاكرته.
وجد رجلًا فقد إرادة الحياة، كشجرةٍ ذابلةٍ على وشك الموت.
عندما سمع سبب تغيره، اضطر سايرس، الذي جاء ليتعلم فنون السيف منه، إلى العودة أدراجه.
لاحقًا، رآه بين حينٍ وآخر في القصر الإمبراطوري، وتبادلا علاقةَ معلمٍ وتلميذٍ قصيرة، لكن انطباعه عن أن الأرشيدوق مهيبٌ وخطرٌ ازداد وضوحًا.
ورغم ذلك، ظل أقوى مبارز في الإمبراطورية، محافظًا على مسؤولياته.
لكن أن يظهر بهذا الشكل المفرط من العاطفة؟
هل لأن تلك المرأة في الشائعات عادت؟ أم لأنه اكتشف للتو أن له ابنة؟
لم يحتج سايرس إلى تفكيرٍ طويل ليعرف أن السببين معًا هما الحقيقة.
“أيُعقل أن يُعامل أحدٌ من العائلة الإمبراطورية بهذا الشكل؟”
لا ترحيب، ولا حتى دعوةٌ للدخول.
بل إن الابنين بالتبني اللذين يقفان خلف الأرشيدوق آردين كانا في حالة تأهبٍ تام، فبادر سايرس بسلاحه الأقوى.
ثم انتبه فجأةً ونظر إلى لوسي بعينٍ مترددة.
لم يكن قد أخبرها بعد بهويته الحقيقية.
حتى في الغابة، لم يكشف عنها.
كان فقط يتمتم كلما كلفته بأعمالٍ صغيرة أنه ليس شخصًا يُعامل باستخفاف.
“سايرس، أنتَ من العائلة الإمبراطورية؟ إذن أنتَ أمير؟”
“نعم. لكنه من العائلة الإمبراطورية التي لم نكن، ولن نكون، بحاجةٍ للتقرب منها، لا الآن ولا في المستقبل.”
نظرت لوسي باستغرابٍ إلى الأرشيدوق آردين ثم إلى سايرس، مترددةً بينهما، فيما كان تفسيره الممزوج بالضغينة يثير حيرتها.
سايرس أمير؟ كان ذلك مفاجئًا، لكن عندما رأت ملابسه الجديدة والعربة، بدا الأمر منطقيًا.
حتى عندما التقيا أول مرة في جبل فلابيس، كانت ملابسه الممزقة بالسيف تبدو فاخرةً نوعًا ما.
معرفته الواسعة، وأسلوبه المختلف عن عامة الناس، كل ذلك يُفسر الآن.
بينما شعرت لوسي أن تساؤلاتها القديمة قد وجدت أجوبة، كان سايرس في حالةٍ من القلق.
دارت عيناه مضطربةً قبل أن يستقر نظره على الأرشيدوق آردين كهدفٍ له.
“ألا يُعتبر الرابع في ترتيب العرش قريبًا بما يكفي؟”
“همف. لم أطمع يومًا بالعرش، فلا علاقة لي بذلك.”
همف؟ ضحكةٌ لا تليق برجلٍ يقتل الوحوش بيديه العاريتين.
توقف سايرس عن الكلام للحظة، مذهولًا من رد الأرشيدوق.
“كيف تعقدون حفلًا بعد عشر سنوات ولا ترسلون دعوةً للعائلة الإمبراطورية؟”
“هذا يعني أنني لا أريد التقرب من العائلة الإمبراطورية. ألا يُفترض أن تكون قد اكتسبت بعض الحكمة بعمرك هذا؟”
“لكنك تعلم أن قطع العلاقات مع العائلة الإمبراطورية مستحيل!”
“ها، يبدو أنك بدأت تفهم معاناتي ولو قليلًا.”
“لا تتظاهر بالجهل. كلما دعاك الإمبراطور، تهرع إليه!”
مع استمرار هذا الجدال الصبياني، فتحت لوسي عينيها بدهشةٍ كبيرة.
لم تكن قد رأت الأرشيدوق آردين يتحدث بهذا القدر من قبل، ولا أن يتعامل مع أحدٍ براحةٍ كهذه.
كانا يتبادلان الإهانات في الحديث، لكنه بدا كمشاجرةٍ بين طفلين.
كما أن مثل هذه الأحاديث لا يمكن أن تكون إلا بين من يعرفان بعضهما جيدًا.
“يبدو أنكما… مقربين؟”
سألت بدهشةٍ حقيقية، فجاء الجواب متزامنًا.
“لستُ مقربًا منه.”
“لستُ مقربًا منه!”
تطابق الردان، سواء في الوقت وكلمات، فلم يبقَ لـ لوسي سوى التعجب.
***
“يبدو أنكَ تعيش بسلام.”
استلقى آردين باسترخاء، متقاطع الساقين، محدقًا في الشاب أمامه بعينين ناعستين.
شعوره المضطرب، الذي جعلته يتوق إلى سيجارةٍ كان قد تخلى عنها منذ زمن بسبب إيسيل، كان يثقل كاهليه.
كيف عرف هذا الفتى لوسي؟
قالت إنها عاشت في جبل فلابيس فقط.
ربما أقامت في مكانٍ آخر في طفولتها المبكرة، لكن لو كانت تتذكر سايرس، فلا بد أن اللقاء كان خلال السنتين أو الثلاث الماضيتين.
لقد وجد سايرس إيسيل قبل أن يعثر عليها هو بنفسه.
هذا وحده كافٍ ليثير استياءه، لكن أن يرى لوسي تتعامل معه بتلك الطبيعية زاد الطين بلةً.
تذكر آردين ليلة العشاء حين كانت لوسي تقدم الطعام له قائلةً “هذا لذيذ، وذاك لذيذ”، وهو تصرفٌ لم تفعله حتى مع إيركين وماريليو اللذين بديا مقربين منها.
أن تعتني لوسي بأحدهم…
والأكثر إثارةً للغضب أن ذلك الشخص هو أميرٌ لا يحتاج إلى رعاية!
حتى لو لم تكن لوسي من تفعل ذلك، فهناك الكثيرون ممن يخدمونه.
‘كيف أصبحت لوسي قريبة من سايرس…’
أمسك آردين قبضته اليمنى بقوة، محاولًا كبح الأفكار التي تجتاحه.
حتى فكرة أنهما “مقربان” أثارت نفوره.
تنفس بعمقٍ، ومرر يديه على وجهه محاولًا إخفاء توتره أمام هذا الشاب، لكن دون جدوى.
شعره الرمادي الغامض وعيناه الحمراوان اللتان ترمزان إلى الشمس…
مظهره وحده كان كافيًا ليثير استياء آردين.
على الرغم من اختفاء الإمبراطور المتكرر وتدهور إدارة العائلة الإمبراطورية، ظل النبلاء يمجدون السلالة الملكية، ويرجع ذلك إلى مظهرها المتميز.
قيل إنها سلالة اختارتها الحاكمة آفا.
لهذا استطاعوا وضع تاج بيراكا على تلك الرؤوس الرمادية لقرونٍ طويلة.
خشي آردين أن تكون لوسي قد انبهرت بهذا القناع الخارجي، فلم يستطع إبقاء نفسه متماسكًا.
لو كان المظهر هو كل ما يملكه، لكان بإمكانه طمأنة نفسه.
يمكنه تعليم لوسي، وهي لا تزال صغيرة، أن العالم مليء بأشخاصٍ وسيمين وغامضين.
‘ألم يكن سيد السيف؟’
لم يهتم آردين كثيرًا بمهارات الآخرين في المبارزة.
فلا أحد يتفوق عليه، وفي عينيه لا فرق بين مبتدئٍ وسيد سيف.
كان يعلم أن الجهد يحدد سرعة التقدم، وأن لكل شخص مرحلةً يتوقف عندها، لذا لم يكن يحب تقييم الآخرين.
الاستثناء الوحيد كان ابنيه بالتبني، إيركين وماريليو.
أما فرقة الفرسان التي يقودها، فلم تكن بحاجةٍ إلى اهتمامه الخاص، سواء في التوغل أو الحروب، فكل شيء كان تحت سيطرته.
عندما تفوق ماريليو عليه في إظهار الهالة مبكرًا، أثنى عليه بكلمة “ممتاز”.
لعل ذلك كان عبئًا، إذ لم يتقدم ماريليو في مهارته بعد، لكن آردين كان واثقًا أنه سيؤدي دوره يومًا ما، فلم يضغط عليه.
نظر آردين بعينين ضيقتين إلى سايرس وهو يضع فنجان الشاي برشاقة.
ذلك الفتى الذي كان يطارده يومًا لتعليمه المبارزة أصبح الآن سيد سيف.
لم يمضِ وقتٌ طويل منذ أظهر الهالة، لكن نموه كان سريعًا بشكلٍ لافت.
حتى مع موهبة العائلة الإمبراطورية الفطرية في القوة البدنية، كان سايرس استثناءً.
‘فتى بلا مانا…’
تلك سمةٌ مميزة لسلالة العائلة الإمبراطورية.
على عكس الفرسان الآخرين، يستطيعون إظهار الهالة دون امتلاك المانا.
منطقيًا، لا يمكن إظهار الهالة دون مانا، لكن…
على أي حال، من مظهره إلى مهاراته في المبارزة، لم يكن هناك شيءٌ عادي فيه، وهذا ما جعل آردين يشعر بالامتعاض الشديد.
كل ذلك بدا كأنه سيثير فضول لوسي ويجذبها، مما زاد من توتره.
“مع تعدد المناسبات السعيدة لأرشيدوق الإمبراطورية الوحيد، كان من الطبيعي أن أزوركم.”
“لكن لا أحد يرحبُ بك هنا.”
“يكفيني أن لوسي فرحت برؤيتي.”
“تسك!”
هل أضربه؟ فكر آردين اليوم أكثر من أي وقتٍ مضى بأفكارٍ جريئة، فتنهد بعمقٍ محاولاً التمسك بصبره.
التعليقات لهذا الفصل "36"