كان إدغار ينهض من فراشه غارقًا في عرقٍ بارد، فاندفع بخطواتٍ متخبّطة نحو الحمّام وضرب جبينه في المرآة.
“اللعنة……….”
تصاعد بخار على سطح المرآة الشفافة مع أنفاسه اللاهثة.
سكب ماءً باردًا كالثلج على وجهه، فاستعاد ملامحه الجافة وأزاح شعره عن جبهته.
كان على جبينه الواضح أثرٌ أسود أشبه بكدمة.
ولم يلبث أن أدرك في لمحة أنّه أثر من آثار قوى الشيطان. غير أنّها لم تكن إلا علامة تهديد عابرة، إذ سرعان ما تلاشت من تلقاء نفسها. عضّ على أسنانه وتمتم:
“إذن لم يمت بعد…؟”
رغم أنّه لا يزال مقيّدًا داخل القصر لعدم اكتمال فكّ الختم، إلا أنّ تأثيره امتدّ آلاف الكيلومترات حتى بلغ جسده.
راح يفرك جبينه الذي كان يلسعه بالألم، ثم خرج من الحمّام متأوّهًا يجرّ قدميه خطوة بعد خطوة.
وخطر بباله الأمر الذي تلقّاه:
“أحضر لي ابنتي… إلى إقليمي الذي وطِئتَه يومًا، وتنفّست فيه، وذُقت فيه الموت.”
“اللعنة… اللعنة…….”
تفجّرت اللعنات من فمه كما يخرج النفس، ومسح وجهه المبتلّ بالعرق البارد. ورغم غضبه وحقده وكثرة ما اعتمل في صدره من مشاعر، إلا أنّ الخوف كان أعظمها.
لقد استعاد وعيه.
والأسوأ أنّه عثر عليّ.
وقف إدغار أمام سرير إستيل مستحضرًا صورة المرأة التي تختبئ وراء الستار.
ارتسمت على شفتيه ابتسامة مائلة وهو يهمس:
“………ما الذي عليّ فعله الآن؟”
كان قائد فرسان الهيكل غائبًا عن مكانه. وهو يعرف موقع الأرض التي عاش فيها يومًا، كما أنّ رسم دائرة سحر الانتقال ليس بالأمر الصعب عليه. فابتسم بسخرية، ثم غرق في التفكير بملامح باردة.
لم يعد في هذه الأرض ساحرٌ عظيم.
لم يبقَ أحد، لا أحد على الإطلاق قادر على هزيمة المتعاقد.
إستيل بلانشيه؟ للأسف، إن نظرنا للأمر ببرود، فلا فرصة لها. ليست المشكلة في قدراتها، بل في عامل الوقت.
“كن حكيمًا… تحرّك بعقلانية…”
ضحك من نفسه ساخرًا، كأنّه يوبّخ ذاته.
تجمّدت عيناه الخضراوان الغامضتان في الفراغ، قبل أن يبدأ بخطوات بطيئة.
والوقت كان مثاليًّا الآن مع غياب الفارس المقدّس. وكعادته دائمًا… سيخضع للقوة ويزحف ذليلًا ليبقى حيًّا.
لكن أحدًا جذبه فجأة.
“ما الذي تفعله؟”
لقد عاد الفارس المقدّس دون أن يشعر، وأمسك بياقته بكل قوّة.
ارتطم ظهر إدغار بالجدار بقوّة، غير أنّه لم يتجمّد أمام تلك المهابة، بل قهقه مخنوقًا وقال بين أنفاسه:
“آه… ولماذا كلّ هذا؟ ماذا تظنّ أنني أفعل؟”
“أنت………”
تقلّصت ملامح سيدريك بقلق وهو يرى إدغار يتظاهر بالمزاح بأسلوبه المعتاد. لكن إدغار تخلّص من قبضته بابتسامة جانبية وقال ببرود:
“ولمَ هذه العصبيّة؟ ألست الآن في صفّكم وقد أصلحت أمري؟”
بقي مثيرًا للحنق كما عهدوه، لكن الجو هذه المرة كان أثقل وأكثر قتامة. وهو ما جعل سيدريك يسأله متردّدًا:
“هل حدث أمر ما؟”
تجمّد إدغار لحظة عند السؤال النافذ، لكنه سرعان ما هزّ رأسه مبتسمًا بتكلف، ثم تمتم بين شفتيه:
“انتهى… انتهى.” وبعدها استدار مغادرًا.
“فقط أردت أن أتأكّد إن كانت تلميذتي العزيزة تنام بهدوء.”
“…..”
“والآن بعد أن حضر فارس العدالة في وقته المناسب، فسأخرج إلى نزهة صباحية.”
اختفى إدغار في لمح البصر، بينما ظلّ سيدريك يراقب ظهره المتلاشي. ثم اتّجه ببطء إلى السرير، وأزاح الستار بحذر.
رغم الضوضاء التي حدثت، كانت إستيل ولوتشي نائمتين بسلام.
‘ما الذي كان يفعله هنا إذن؟’
لا، إن تذكّر ملامحه الشاردة، فربّما لم يكن يخطو إلى فعل، بل كان غارقًا في التفكير.
انعقد جبين سيدريك باستياء.
ما الذي كان يشغل باله؟
ثم ما لبث أن أطلق زفرة طويلة وهزّ رأسه.
‘يكفي.’
صحيح أنّه كوّن بعض الثقة به، لكنه لم يرفع حذره قط. ومع كلّ التعقيدات الجديدة، لا ضرورة لإرهاق عقله أكثر.
لكن حين خطرت في ذهنه صورة إستيل وهي ترتجف مرتعبة والسيوف مسلّطة إلى عنقها، تجمّد وجهه بصرامة.
هدّأ دقّات قلبه العاصفة وهمس مع نفسه:
“سأكون حذرًا. سأحميها تمامًا… ولن أسمح لأحد أن يؤذيها.”
غير أنّ رأسه بدأ ينبض بألم حاد، كطعنةٍ مفاجئة.
***
في صباح اليوم التالي، تلقّى الثلاثة خبرًا غير متوقّع.
“صاحبة السمو الأميرة قادمة؟”
برقت عينا إستيل بدهشة ممتزجة بالفضول.
أمّا إدغار فبدا غير مبالٍ تمامًا، فيما ظهر على وجه سيدريك توتّر وانزعاج.
كان من الواضح أنّه شخص لا يروق له هذا الخبر. لكن إستيل اعتادت أن تعتبر قلقه المفرط أمرًا طبيعيًا لا أكثر.
“واو، هذا مثير! لم أرَ الأميرة من قبل.”
كان سيدريك على وشك أن يعلّق:
“لكنّك رأيتِ الإمبراطور وهو أرفع مقامًا.” إلا أنّ إدغار سبقه بالسؤال:
“أيّ أميرة؟”
“على الأرجح، ستكون الأميرة الثانية.”
“آه، فهمت.”
وتوقّف اهتمامه عند هذا الحد، كأن لا حاجة لطرح المزيد. اكتفى بهزّ كتفيه وعاد إلى كتابه.
في تلك الأثناء، كانت لوتشي تفتح فمها ليُعاين إدغار حلقها، ثم تمتمت متذمّرة:
“إلى متى يجب أن أبقى هكذا؟”
“انتهيت.”
“هلا قلت ذلك منذ البداية؟”
قفزت الفتاة من مقعدها برشاقة، والتقطت إحدى قطع الكعك التي جاءت كهدية اعتذار، وبدأت تقضمها. فيما كان إدغار يجيب بهدوء وقد لمح نظرة إستيل المتطلّبة.
“نتائج الفحص؟ لا شيء مقلق. صحيّة تمامًا. انظري لكمية ما تأكله — إن لم يكن صحيًّا لكان ذلك أغرب.”
“إذًا لقد نَمَت فقط. كما توقعت.”
لم يرغبا في أخذها إلى الطبيب، فاقتصروا على فحوصٍ بسيطة هناك. ولوتشي كانت في حالة حيوية ممتازة لدرجة أزالت كلّ سبب للقلق.
تنفست إستيل الصعداء، واسترخى جسدها المتوتر قليلًا، لكنها ما زالت تنظر إلى لوتشي بعينين مليئتين بالشك.
“دعينا نتركها الآن كما هي. أولويّةٌ لنا إيجاد دائرة السحر.”
ستتضح نيّة أمّها شيئًا فشيئًا. أما الآن فكاكتشاف أنّ لوتشي هي مفتاح فكّ المأزق كان كافياً.
المشكلة الحقيقية كانت في العثور على دائرة السحر… حين التقت إستل بعيني سيدريك وسألها كما لو كان ينتظر، بدت ملامحها مرتبكة بعض الشيء.
“هل عنقكِ بخير؟”
“بخير! لكن الدائرة السحرية….”
“حسنًا. نكتفي لليوم بهذا القدر. عُدوا للراحة.”
“لكن، لقد مرّت ساعة فقط منذ أن استيقظت!”
التعجّب ظهر على وجهها عندما همّ سيدريك فورًا بإعادتها إلى الفراش بعد فحص حالة لوتشي.
“آه، لا، أنا بخير تمامًا. أريد فقط أن نكمل عملنا…”
“على أي حال، لن تتمكني من النشاط الخارجي لفترة. نخطط اليوم لبدء مرحلة الترتيب الأوّلية.”
‘ترتيب؟ بماذا يَرتّبون؟’
صدمت الكلمة القاسية صدرها فبردت ملامحها، ثم هدأ وجه سيدريك كأنّه أدرك شيئًا وقال بلطف:
“علينا أن نكشف من سرب المعلومات من الداخل.”
‘وماذا سيفعلون حين يجدونه؟’
همّت إستيل بالسؤال لكنّ الجواب جاء إلى ذهنها قبل أن تطرحه، فهمست:
“آه… فهمت. قصدك بــ ‘الترتيب’.”
“بالضبط. سنكنس الأمر ليكون نظيفًا.”
بشكل مفاجئ وقف إدغار إلى جانب سيدريك في هذا الرأي. إذا تذكّر المرء، فقد اكتفى بإلقاء تعليقات ساقطة بعد الهجوم بدلاً من معارضة خيار سيدريك صراحة.
تذكّرت إستيل هذه الكلمة القاسية فهزّت رأسها بحيرة.
آه، لم أعد أعلم.
فكرة قتل شخص للحفاظ عليها أزعجتها بعض الشيء، لكن عندما فكّرت أكثر أدركت أن من يشرع في قتل آخرين يجب أن يتوقع أن حياته قد تكون في خطر أيضًا، هذا أمر بديهي.
مع هذا الإدراك ارتعشت بحذر.
‘يا إلهي، يبدو أن مواقف قاتلة كهذه صحيحة إلى حدٍ ما.’
على أيّة حال، لا بأس.
هي نفسها تُدرك قيمة حياتها. لم تكن ستقف كما البطلة الملائكية تقول “مهلاً، لا نقتل أبداً” فقط لأجل المبدأ.
الحياة واقع.
لكن قلقها الجديد كان من نوعٍ آخر.
“إذًا ماذا أفعل الآن؟”
“استريحي.”
ردّ سيدريك بسرعة كما لو كان ينتظر الفرصة، فتثاءبت إستيل باستياء ورجت رأسها.
“أقدّر قلقك، لكني لا أحب إضاعة الوقت.”
“لن يحصل مكروه لو استرختِ يومًا واحدًا.”
كان عنيدًا بطبعه. والمشكلة أن إستيل كذلك.
نظرت إليه بدهشة وكأنّها لا تفهم، مفكرةً أنه كان ينبغي أن يصفها بالمدح لو أنها تعمّلت بجد.
“إصابة الرقبة لم تشفى تمامًا بعد.”
“حتى لو لم أغتسل بعد أن أقضي حاجتي، لا أشعر بانزعاج كبير. أنا بخير!”
شهقت حاجبا سيدريك قليلاً كما لو أن شيئًا ما لم يرق له.
“بخير؟ كدتِ تفقدين رقبتك!”
حدّق بها سيدريك بدهشةٍ مندهشة. لكن إستيل لم تتراجع وأومأت بعزم.
كانت مستعجلة. على الرغم من أنها قضت أمورًا داخل البحر، إلا أن الوقت المتبقّي انقضى أسرع مما توقعت.
بقي نحو ثلاثة أشهر قبل الدمار، وباقٍ ثلاث دوائر سحرية يجب تفكيكها.
لم تشأ إضاعة وقت في الصحراء التي تظنّ أن واحدة منها قد تكون هناك. وهو تفكير جعلها تبتسم في سرّها.
‘المكان يصنع الإنسان بالفعل.’
لم تكن تتوقع أن تمتلك هذه الحزم.
هل هي نفس الفتاة التي كادت رقبتها تُقطع بالأمس؟ حقًا تبدو الآن أكثر جاذبية…؟ اندفعت بتلك الثقة فقبضت يدها محاولةً أن تؤكد عزيمتها.
“لا تعلم كم ستتراكم الأعمال لاحقًا. لا تنفق وقتًا على تفاهات…”
“أنتِ لا تدركين خطورة الأمر. من أين سربت المعلومات حتى انكشفت مكانتكِ وموقعكِ؟ كيف تمّ أختراقنا؟ لم نكتشف شيئًا بعد. هل تودين أن نضع حياتكِ مرة أخرى على المحك؟”
قالها بصوتٍ صارم كعادته. وفي تلك اللحظة نطقت إستيل قبل أن تفكر:
“ألم أضع حياتي على المحك دائمًا؟ أخاطر بها في كلّ مرة، أليس كذلك؟ أنت تعلم ذلك يا سيدريك.”
“……..”
“أنا الآن شخص لا يمكن أن أكون آمنة. التأخير لا يضمن السلامة… للأسف.”
قالت ذلك بهدوءٍ رغم النظرة القلقة التي لازمت ملامحها، وصوّرت الخطر بصراحة، حتى أنّه أبكا سيدريك بصمتٍ مندهشًا إذ لم يجد كلماتٍ يرد بها.
لم تكن كلماتها خاطئة. في غلاسيوم حيث واجهت الشيطان أول مرة عند تفكيك دائرة السحر، وفي البحر أيضًا، راهنت بحياتها.
والآن سيتعيّن عليها أن تخاطر بحياتها ثلاث مراتٍ أخرى.
لم يجد سيدريك ما يرد به، فقالت هي:
“كلما تعرّفت أكثر على أمّي، أصبح خوفي أقل.”
شعورٌ غريب اجتاحها: هذا نموٌّ واضح.
إستبل بلانشيه لم تعد تلك الفتاة الضعيفة التي ترتعد من الخوف طوال الوقت.
لكن بينما شعرت بهذا التقدّم، لاح شعورٌ آخر — غضبٌ خافت.
“أعتقد أن أمّي كانت تملك خطة محكمة. بالطبع ليس كل شيء خالٍ من الأخطاء، لكني أظنّ أنّها رأت أن حياتي تستحق المخاطرة.”
“مثير للاهتمام. أنا لا أوافق.”
جاء الرد بصوتٍ محمّل بغضبٍ قاتل، فبلغت إستيل ذروة الحيرة وارتسمت على وجهها ملامح الصدمة.
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات