كانت الحكاية عن الشيطان، غير أنّ تبادلها الحديث مع شخص آخر بدا أنه قد أفادها.
شيئاً فشيئاً أخذ التوتر يتلاشى، فتثاءبت إستيل بخفة. وعندما رأى ملامحها تستعيد سكينتها، ابتسم هو ابتسامة لطيفة وأجاب:
“لذلك في ذلك اليوم، ولأول مرة لم أستطع النوم، فألححت على استدعاء الخادمة كي تسمح لي بالنوم في غرفة والديّ. كنت أخشى أنّه ما إن أغمض عينيّ حتى أرى المشهد المروّع الذي حُكي لي عنه، وكنت أخاف أن يسقط أبي، الذي كنت أؤمن بأنه سيحميني ما حييت.”
خطر ببال إستيل فجأة صورة الصبي الصغير التي رأتها في غرفته.
صحيح أنّ الخوف كان طبيعياً في تلك السن، لكن أن يكون لهذا الرجل المتماسك دوماً ماضٍ كهذا أمر يبعث على شعور غريب.
وبينما كانت تحرّك أصابعها بصمت، قال سيدريك من وراء الستار:
“أما والدَي فتعرفينهما. كانا دائماً يتقبلان دلعي. وهكذا قضيت شهراً كاملاً نائماً بقربهما، إلى أن استدعاني أبي ذات يوم.”
‘لعل صبره بلغ حدّه إذ ذاك.’
فكرت إستيل، ثم أصغت بتركيز إلى تتمة كلام سيدريك:
“قال لي إنني لا أستطيع أن أظل أرتجف خوفاً طوال حياتي، وأمرني أن أفكر كيف يمكنني ألّا أخاف.”
“همم…”
“ألا ترين أنّك إن حاولتِ ذلك، قد يكون حالك أفضل أيضاً؟”
رفّت جفنا إستيل من وقع النصيحة التي قلبت مجرى الحديث فجأة، ثم ابتسمت ابتسامة باهتة.
بدا أنّه شعر بالحرج من قوله فلم يُكمل.
أطلقت هي صوتاً خفيفاً أشبه بالهمهمة ثم سألته:
“وماذا فعلتَ أنت؟”
“…الأمر بسيط بعض الشيء.”
وبعد تردد قال:
“تعلمتُ السيف حتى أستطيع أن أفعل شيئاً أمام الخوف. ثم ترددت بين السحر والقوة المقدسة، فاخترتُ الثانية… وكان اختياري معقداً بعض الشيء. فقد أوصت والدتك بذلك أيضاً.”
كان هذا أول ما تسمعه عن الأمر، فسألت باهتمام:
“أمي أنا؟”
“نعم، قالت إنّ السحر ممل، ونصحتني بالقوة المقدسة. ولعله كان لذلك تأثير غير مباشر في اختياري.”
ابتسم هو ابتسامة خفيفة وأضاف مازحاً:
“في النهاية، من الصعب رفض الطريق الذي يوصي به عراف.”
أصبح الأمر ذا مغزى فجأة.
فلولا أنّ إستيل قد تُركت قبل عشر سنوات في غلاسيوم على يد إيلين تعيش هناك كسارقة صغيرة لما التقت بسيدريك.
بل إن إيلين نفسها لمّحت حينها إلى “الأخطاء البسيطة”، ما يعني أنّ مسار حياتها ربما كان تحت تأثير والدتها أيضاً.
‘آه، مجرد التفكير بهذا يصيبني بالقشعريرة. إلى أي مدى كانت أمي ترى المستقبل؟’
تملكتها رهبة من قدرات والدتها، ثم سرحت بأفكارها.
وإذا كان حتى اختيار سيدريك لمهنته في غلاسيوم متأثراً جزئياً بنفوذ أمها… ثم هناك تلك النبوءة المزعجة:
—”إنه سيكون صهري، ألا يثير فضولك؟”
لطالما حاولت تجاهلها، لكن شعور الضيق بقي.
أخذت تتساءل ‘أي مستقبل كانت أمها تراه تحديداً؟’
شعرت أنّها بدأت تدرك، لكنها لم تصل إلى الجواب بعد.
قطعت استرسالها وسألت:
“…كيف أستطيع أن أقُل خوفي؟ أنا بصراحة الآن لا أستطيع النوم. لا أهدأ على الإطلاق…”
“كنت أتوقع ذلك.”
سعلت إستيل بخجل وقالت:
“تستمر في إصابتي بالدهشة منذ قليل. هل الأمر واضح جداً عليّ؟”
“لا شك أنّ إدغار لاحظ أيضاً. فأنتِ لستِ من النوع الذي يمكن أن يخفي قلقه لمجرد أنه لم يصرّح به.”
في الأصل لم تكن سوى إنسانة عادية.
لم تعتد قط على أن تتعرض لهجوم أو أن يُسلّط سيف على عنقها.
حدّق سيدريك من وراء الستار بظلها بعين مشفقة ثم اقترح:
“هناك فرق بين المرة التي هوجمتِ فيها وبين ما نحن فيه الآن، أليس كذلك؟ فلنبدأ بالتفكير في ذلك.”
“مثل ماذا؟”
“أولاً، نحن الآن ثلاثة معاً، وبالتالي فاحتمال أن تتعرضي لهجوم أقل بكثير.”
‘حقاً… هذا صحيح.’
وهي تعيش معهم في غرفة واحدة، ومع قدرة سيدريك العجيبة على الاستشعار، فإن أي طَرق على النافذة كفيل بأن يجعله ينتفض مستيقظاً.
تابع صوته الهادئ:
“ثم إن إدغار قد نصب قبل قليل عدة دوائر سحرية للكشف عن الدخلاء والتعامل معهم. وبالطبع، أنا موجود أيضاً.”
لم تتمالك نفسها فضحكت من حرصه على أن يذكّرها بوجوده.
مدت يدها من بين الستائر.
ارتبك سيدريك وحدّق بها مشدوهاً، ثم سارع فرفع ذراعه ووضع يده فوق يدها.
راودته رغبة في أن يشبك أصابعه بأصابعها الدافئة، لكنه قاوم.
صافحته إستيل بخفة شاكرة وقالت:
“صدقت. الأمر مختلف الآن. على الأقل، في هذه الغرفة لا داعي للقلق فعلاً. لقد فاجأتني حين هرعت إليّ بسرعة البرق حين ناديتك، وظهرت بمظهر مخيف جعلني أرتعب أنا أيضاً.”
“…لم أُحسن ضبط قوتي فحسب.”
أغمض عينيه متذكراً تعابير وجهها المذعور حين اقتحم الغرفة. لا شك أنّ شكله كان مرعباً.
لحسن الحظ، لم تكن هذه الفتاة ضعيفة إلى هذا الحد.
ويبدو أنّ كلماته كانت عزاءً لها، إذ قالت بنبرة أكثر ثباتاً:
“نعم، أظن أنّ عليّ أن أتعلم شيئاً ما أنا أيضاً! اكتشفت أنني في المواجهات القريبة لا أستطيع أن أفعل الكثير.”
ابتسم سيدريك ابتسامة خفية وقد أعفته الستارة من عناء إخفاء ملامحه.
‘حقاً… يبدو أنها تحسنت كثيراً في مزاجها.’
وكان من حسن الحظ أنّ وجهه الصارم المعتاد أصبح يتوهج بدفء جديد. وبصوت لين قال:
“السحر ليس قوة مثالية للهجوم القريب… لكنه ممكن. لن يضرّ إن تعلمتِ شيئاً منه.”
“ممتاز. أظن أنني أستطيع النوم الآن.”
لكنها ترددت إذ بدا أنّ ظله وراء الستار لا ينوي المغادرة. تنحنح سيدريك بخفة وقال:
“سأجلس هنا حتى تنامي.”
‘هل حقاً هناك داعٍ لذلك؟’
همّت بالاعتراض، لكنه عاجلها:
“كنت أنوي السهر على كل حال.”
“آه.”
هكذا إذن… مع أنها اقتنعت، مالت إستيل برأسها مترددة. لكن، هل من الطبيعي أن ينتظر أحدهم حتى تغفو هي؟ في تلك اللحظة عاد إلى ذهنها نبوءة أمها التي كانت قد نسيتها وسط الارتباك.
ترددت قليلاً قبل أن تفتح فمها من جديد.
“لكن…”
“قلت لكِ أن تنامي.”
“آه، حاضر. حازم جدّاً…”
‘أم أنني أتوهّم؟’
لا، يبدو أنّ الأمر كذلك…!
أغمضت عينيها بشيء من الانزعاج، لكنها سمعت صوت تقليب صفحات كتاب، ففتحت عينيها ثانية.
مع أن الستائر مسدلة ومن المستحيل أن ترى، إلا أن الرجل كأنه قرأ ما يجول في خاطرها، فبادر إلى الشرح بنفسه:
“لن أنهض قبل أن أنهي الكتاب. لذا اطمئني ونامي.”
“آه… حسناً.”
لم تقل شيئاً، لكن بدا جليّاً أنّه على طريقته أراد أن يراعيها.
قلبها بدأ يخفق مجدداً، لكن هذه المرة بدافع آخر.
إن كان خفقانه قبل قليل بفعل الخوف الذي يخنق الأنفاس، فها هو الآن بنغمة مريحة، لذيذة بعض الشيء…
‘ما هذا؟’
صار الجو مشحوناً بغرابة. والمشكلة أنها لم تكن وحدها من شعر بذلك؛ فالرجل خلف الستار بدا وكأنه التقط الإحساس ذاته.
وقع صمت ثقيل ومحرج. ارتبكت إستيل، وأدارت ظهرها بسرعة، إذ لم تعد قادرة على تحمّل الأجواء بعقل صافٍ.
“حـ، حسناً! لننم إذن! طبعاً، كلٌّ في مكانه! أنا هنا، وسيدريك هناك!”
“طبعاً، فلا داعي لرفع الصوت وإلا أيقظتِ الآخرين.”
“نـ، نعم…!”
كانت على وشك أن تضرب الفراش بقبضتها من فيض مشاعرها المتخبطة، لكنها أغمضت عينيها بقوة. وأقنعت نفسها بأن خفقان قلبها الشديد سببه ما حدث اليوم لا غير.
—”إنه سيكون صهري، ألا يثير فضولك؟”
لا بد أن يكون الأمر هكذا، وإلا ستتحقق نبوءة أمها المزعجة!
عضّت إستيل شفتها بشدة وهي تحاول أن تغفو.
***
تطفو في الهواء شموع لا تُحصى.
جلس رجل أمام كتب كثيرة انتزعها من رفوفها وتركها معلّقة أمامه، يحدّق فيها بهدوء حتى أغمض عينيه ببطء.
صحيح أنّ هزيمته أمام الساحرة العظيمة حوّلت قواه إلى جسد بشري ضعيف، لكن ما يختبئ في عيني تريستان من ‘ذلك الشيء’ كان كيانًا أرعب الكثيرين.
الخوف مما لا نعرفه سرعان ما يتحول إلى اعتقاد قوي بوجوده. أما الكائنات التي تتغذى على مخاوف البشر، فلا يوجد غذاء أقوى من هذا الخوف.
البشر في أصلهم ضعفاء.
صحيح أنّ بعض الكائنات كالتنانين، اختارت التعايش مع البشر حفاظاً على بقائها، لكنهم كانوا مخطئين.
فالعبادة تتلاشى أمام الخوف. ولذا أطلق البشر على “ذلك الشيء” اسماً: “الشيطان”، وصاروا يفكرون فيه بلا انقطاع.
وهذا ما جعله يسلك درب البقاء، وجرّ سائر الأجناس غير البشر إلى طريق الفناء.
استحضر “ذلك الشيء” ذكريات طقوس العبودية التي انتزعها، ثم ابتسم ابتسامة عريضة.
وهكذا سيظفر بالنصر مرة أخرى.
كل عين من أعين البشر التي ترى الشيطان وتخافه… كانت عينَه.
كل ما يراه هؤلاء البشر، يُنقل مباشرةً إلى الشخص المتعاقد معه.
مرّت أمامه صور سريعة: الأراضي التي تحولت إلى أنقاض بعد المجزرة، شواهد فلاسيوم وقد نُقشت عليها عبارات تمجيد الساحرة العظيمة، والعالم الذي تغيّر وهو نائم.
وفجأة، لمح تريستان شخصاً غريباً مألوفاً في الوقت نفسه، فارتجفت أصابعه.
كان صوت هادئ، لكن في نبرته حدة تكاد تطحن الأسنان، يدوي في أذنه:
“ابنة الساحرة العظيمة في طريقها لتقتلك.”
امرأة ذات شعر فضي ناصع تبتسم ببشاشة وهي تتحدث إلى من يقف بجوارها.
شعرها بلون شعره ذاته، وعيونها الذهبية تشبه تلك العيون الذهبية التي يفتقدها حدّ الألم.
حدّق الرجل مسحوراً بصورة ابنته، وتمتم:
“تلك الفتاة… أحتاج إليها.”
“نعم، نحن بحاجة إلى بشر يحمل دم الساحرة العظيمة.”
“يجب أن أحضرها.”
لهث وهو يمسح بعينيه محيط ابنته.
إلى جانبها رجل متجهّم الملامح، أحسّ منه بطاقة مقدسة، فحوّل نظره عنه بسرعة.
ليقع بصره على آخر، ساحر بشعر وردي، يحمل ملامح لا مبالية.
تلألأت عينا المتعاقد بالحمرة.
تسلّل طبيعياً إلى عقل الساحر. وما إن التقط بعضاً من أفكار إدغار لوران حتى ابتسم باستهزاء:
“أنه ذلك الإنسان الذي كان في الإقليم قبل عشر سنوات. لِم لا تحاول إغواء الفارس المقدس بدلاً منه؟”
“لا. هذا أسهل.”
أجاب بوجه بارد، كأنّ الأمر لا يستحق أي قلق.
“من شهد ما جرى قبل عشر سنوات، يستحيل أن يقاوم.”
عاث “ذلك الشيء” في لاوعي الساحر النائم المستسلم، ثم ابتسم ابتسامة عريضة، وهمس:
أحضر ابنتي.
إلى إقليمي… الذي وطئته قدماك، وتنفسّتَ فيه، وعاينت فيه الموت.
***
بعيداً جداً عن هناك، في الصحراء.
انتفض جسد رجل كان مسجّى على السرير فجأة كما لو أصيب بصرع.
****
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات