وكأنها كانت قد تصفّحتها من قبل، التقطت إستيل من جديد مذكّرات الساحرة العظيمة الموضوعة على المكتب وأطلقت تنهيدة.
وقالت:
“همم، يُقال لها مذكّرات، لكنها في الحقيقة أقرب إلى مواد بحثية. ثم إنك قد ذكرت لي سابقًا أنّ أمي… لم تكن من النوع الذي يُجيد ترتيب بحوثه بعناية، أليس كذلك؟”
فتحت الصفحات الوسطى من المذكرات المليئة بالكلمات المتشابكة وأرتْها لسيدريك، ثم أطلقت ضحكة ساخرة.
“أنظر، أهذا خط أم ديدان تزحف؟”
فأجابها سيدريك مبتسمًا:
“مع أنك تبدين متعثّرة في القراءة، إلا أن مزاجك جيد. هل لديكِ فكرة ما؟”
“لا؟ لكن… ربما إذا ابتسمتُ سارت الأمور على ما يرام.”
‘إذن، لم يكن إشراق ملامحها دليلًا على وجود خطة واضحة…’
وضعت إستيل مذكّرات التجسد الخاصة بالساحرة العظيمة على المكتب بصفقة خفيفة ثم سألت:
“على كلٍّ، هل تَعلم أين تقع أعمق نقطة في هذه الصحراء؟”
“لا أحد يعلم.”
“ماذا؟! أليس اجتمع هناك علماء نابغون، وحتى خريطة لم يستطيعوا أن يرسموا؟”
تمتم إيدغار متذمّرًا، فأومأ سيدريك موافقًا على غير عادته وقال:
“قد يصعب تصديق الأمر، لكن يُقال إن تضاريس الصحراء تتغيّر. فالعواصف العاتية قد تُزيح الجبال، فيتحوّل الوادي الذي كان بالأمس إلى قمة جبل في الغد.”
“ليس هناك ما هو سهل إذن!”
صرخت إستيل ثم همّت بضرب رأسها على المكتب، لكن في اللحظة نفسها امتدت يدا الرجلين إليها.
فبدلًا من أن تصطدم جبهتها بالمكتب، اصطدمت بكفّيهما.
عندها انتفضت مذعورة، بينما سحب الرجلان أيديهما بسرعة بعد أن تبادلا نظراتٍ متوترة.
أخذت إستيل تنظر إليهما بعينين مرتابتين، ثم سألت باستغراب:
“ما بالكما؟ ما الذي يجري؟”
سكتا معًا، فابتسمت مازحة وقالت:
“تُحبّاني أكثر مما ينبغي على ما يبدو.”
أطلقت ضحكة خفيفة، ولم يكلّف أيّ منهما نفسه عناء الإنكار. وقبل أن تشعر إستيل بغرابة الموقف، غيّر إيدغار الموضوع وسأل:
“أين تقع إذن الآثار التي يظن العلماء أنّ لها صلة بالشياطين؟”
فأجاب سيدريك:
“في الحقيقة، منذ الكارثة التي تسبّب فيها تريستان بلانشيه، تغيّرت الآراء. لم يعد يُعتقد أنّ الشياطين دمّروا الحضارات القديمة، بل ظهرت آراء تقول إنهم ربّما ساهموا في ازدهارها. صحيح أن النظرية لم تُعتمد رسميًا، لكن… إذا وجب أن أذكر موقعًا، فسيكون القصر القديم.”
“وأين يقع؟”
“في قمة جبل صخري. أي أنه لا يستوفي أبدًا شرط كونه في أعمق مكان. المشكلة أنّ أفعال الساحرة العظيمة تتناقض مع نظريات العلماء.”
لقد بات الأمر جليًّا، كانت الساحرة العظيمة لا تُلقي بالًا لآراء الأكاديميين، بل تتصرّف وفقًا لمعرفة لا يعرفها سواه.
‘يا له من أمر مزعج…’
ابتسمت إستيل بسخرية، وأسندت ذقنها إلى يدها قائلة:
“إن من كلّفنا بالمهمة ليست جماعة العلماء، بل أمي. لذلك سنتّبع كلامها.”
فأجاب سيدريك:
“أتفق معك، لكن المشكلة: كيف سنجد المكان؟”
“بسيطة… لنجرّب الذهاب إليه أولًا.”
كان اقتراحًا يخلو من أي خطة حقيقية، لكنه على طريقة إستيل المعتادة.
وفي الأوضاع العادية لكان سيدريك قد اعترض، غير أنه أدرك أن لا سبيل حاليًا سوى البحث الميداني.
هزّ رأسه مستسلمًا، ثم نهض وقال:
“إذن فلنطلب أن يجهّزوا لنا غدًا دليلًا إلى قلب الصحراء.”
***
وفي حين كان كلّ واحد منهم منشغلًا بمهمّته، كانت لوتشي في أسوأ حالاتها.
صحيح أن لقاء زملاء الأكاديمية يحمل جانبًا شخصيًا، لكنه في النهاية لقاءٌ رسمي. لذا لم يكن بوسعها أن تلازم سيدريك في لقائه مع الماركيز هايدل، ولا أن ترافق إستيل وإيدغار إلى المكتبة المليئة بالمخطوطات.
فوجدت نفسها وحيدة مع العالِم العجوز.
وكان العالم العجوز مرتبكًا من وجود طفلة صغيرة لم يلتق بمثلها منذ زمن طويل.
أخذ يراقبها بحذر، ثم مدّ يده بتردد قائلاً:
“أتريدين حلوى…؟”
“أكرهها!”
صرخت الصغيرة بصوتٍ عالٍ فاجأه حتى ارتدّ إلى الخلف.
كانت الفتاة على جمالها تملك طبعًا شرسًا.
‘أوَهذه طفلة أم وحش صغير…؟ بل يمكن القول إنها مزيج من الاثنين.’
أخذت لوتشي تحدّق بباب الغرفة المغلق بغيظ شديد:
‘أنا عديمة الفائدة إذن؟ لذلك تخلّوا عني؟ أيها البشر التافهون! أنسيتُم أنني تنين؟! صحيح أنني صغيرة السنّ، لكنني على طريقتي ما زلت الأروع!’
دفنت وجهها في كفيها، ثم رفعت رأسها فجأة، وإذا بالشرر يتأجّج في عينيها.
‘حسنًا! سأُثبت لهم أنّني قادرة على المساعدة. وإذا عثرت على شيء مهم، فلن يعاملوني بعد اليوم كمن لا يفهم شيئًا!’
ضغطت شفتها بعزم، ثم التفتت نحو العالم العجوز الذي جعله سيدريك حارسًا عليها، فرأته عدوًّا يحاول عزلها عن رفاقها.
‘لقد أرعبه صراخي قبل قليل. إذن سيخضع لي…’
نظرت إليه نظرة متعالية وقالت بوضوح:
“أيها العجوز، أريد ماءً.”
“ماء؟ إن جلستِ هادئة، سأجلبه لك.”
“حسنًا! أحضره!”
تنهّد العالم في نفسه:
‘أيُعقل أن أركض في هذا العمر وراء طلب طفلة صغيرة؟’
لكنه ابتسم بغير شعور، وخرج ليحضر الماء.
لم يكن طاعة بقدر ما كان حنوًّا على طفلة لم يرَ مثلها منذ زمن، لكن لوتشي شعرت أنها انتصرت.
‘جيد! لقد خضع لي. حان وقت الفرار!’
قفزت فوق مكتبه، فتحت النافذة على مصراعيها، ثم اختفت خارجه في لمح البصر.
وبعد خمس دقائق، عاد العالِم وهو يحمل الماء ومعه بعض كتب الحكايات لتسلية الصغيرة، فإذا بالغرفة فارغة والنافذة مشرعة.
“مـ… ما هذا؟!”
أمسك بما تبقّى له من شعر وهو يهتف مذعورًا، وأخذ يركض نحو النافذة ليُطلّ خارجها، لكن لم يكن هناك سوى الرياح تعصف في المكان، بلا أثر للفتاة.
وهنا تذكّر فجأة لمَن تكون هذه الطفلة: وريث دوقية إيرنيست، البيت الذي أنجب قائدَيْ فرسان مقدّسين عبر جيلين، والحليف المقرّب من البلاط الإمبراطوري…
لا بد أن يجدوها سريعًا، فهي مهما يكن طفلة صغيرة، لن تكون قد ابتعدت كثيرًا.
وهكذا اندلعت حالة طوارئ غير متوقّعة في أرجاء المعهد.
***
“…اختفت؟!”
لم يصل خبر اختفاء لوتشي إلى مسامع إستيل إلا بعد مرور ساعة كاملة.
وكان لتهاون العالِم دور كبير في تفاقم الموقف.
وربما بدا تهاونًا مفهومًا؛ فالمعهد ذو بنية مغلقة، وإن خرجت طفلة فلن يكون العثور عليها صعبًا بمجرد أن ينتشر الباحثون للبحث عنها. غير أنّ ما لم يخطر بباله أنّ لوتشي لم تكن “مجرد طفلة”.
مظهرها بشري فحسب، أما حقيقتها فهي كائن أسطوري.
وما إن بلغ إستيل الخبر في المكتبة حتى انتفضت واقفة وأخذت تجمع الأوراق في عجل.
‘اختفت الطفلة؟ أيّ أوراق وأيّ بحوث الآن؟ هذا أهمّ!’
اندفعت للتحرك مسرعة، لكن سيدريك أوقفها وأومأ للباحث الذي جاء بالخبر.
“يبدو أننا سنبحث عنها بأنفسنا. رجاءً رتّب هذه الأوراق بدلًا عنا.”
“آه، نعم! أعتذر! كنتُ واثقًا أننا سنعثر عليها بسهولة…”
‘لكن من تكون تلك الصغيرة؟ هل يمكن أن تكون ابنة مخفية للورد الشاب؟’
لم يستطع الباحث المصدوم أن يستوعب، حتى أنّه بالكاد تذكّر عمر الدوق الشاب الذي بدا أصغر من أن يكون له ابنة في العاشرة.
عندها رماه سيدريك بنظرة صارمة وتحذير خافت:
“إن لم تجدها… عندها نتحدث.”
رنّ ناقوس الخطر في رأس الباحث.
‘انتهيت… لا بد أنها بالفعل ابنته!’
وهكذا أخذت أوهامه تتفاقم، فيما ارتسمت ابتسامة ساخرة على وجه إدغار الذي لمح ارتباكه.
فكّر للحظة في تصحيح خطئه، لكنه فضّل أن يتركه يغرق في سوء الفهم، ثم لحق باستيل وسيدريك اللذين سبقاه.
وحين التفتت إستيل خلفها، همس إدغار مبتسمًا:
“وكيف تنوين أن تجديها؟”
“ألا تملك تعويذة ما؟”
“حقًا؟ بكل بساطة تستعملينني!”
“هيه~ وأنت ستساعدني على كل حال.”
أجابته بابتسامة مشرقة، فما كان منه إلا أن أطلق ضحكة قصيرة غير مصدّق.
تردّد للحظة، ثم مدّ يده وعبث بشعرها، وقال:
“لو كانت تملك شيئًا ملازمًا لها دائمًا، لتمكّنت من تتبّعه بسحر التتبّع.”
رفعت إستيل بصرها إليه متأمّلةً نظراته التي بدت هذه المرة أرقّ وأكثر هدوءًا، فابتسمت هي الأخرى.
والآن بدا وجهه متناسقًا مع ملامحه الوسيمة بحق.
‘هل أصبح أكثر وُدًّا بعد كل ما مرّ بيننا؟’
لكن إن قالتها صراحة لربما تغيّر وجهه فجأة وأنكر غاضبًا.
لقد أصبحت تعرف طباعه إلى حدّ لا بأس به.
قالت بعد تفكير:
“شيء تلازمها دائمًا…؟ لا أظن كان لديها شيء كهذا.”
“لابد من شيء ما. ثوب مثلاً يحمل رائحتها، أو أي شيء من هذا القبيل.”
“ثيابها؟ هي تغيّر شكلها بنفسها فلا يظل شيء منها. أما الرائحة… الرائحة…”
صحيح أن لوتشي اتخذت هيئة طفلة وتصرّفت ببراءة صبيانية، لكنها تظل تنينًا.
لم تكن من النوع المتعلّق بالأشياء.
‘لو كنتُ أعطيتها دمية لتمسّكت بها؟ لا، حتى لو فعلتُ، ما كانت لتحبّها.’
وبينما كانت إستيل تفكّر بقلق، نظر إليها سيدريك وقال بهدوء:
“لكنها كانت تلازمك أنتِ.”
“…أنا؟”
“بلى. ألم تكن تنام بجوارك كل ليلة؟”
“آه… نعم، هذا صحيح.”
فعلاً، كانت إستيل هي الوحيدة التي تعلّقت بها لوتشي أكثر من غيرها.
صحيح أنّ الرجلين كانا يحملانها حين تتعب من المشي، لكن حين يأتي الليل كانت تصرّ على أن تنام بجانب إستيل وحدها.
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات