كان سيدريك يطرق بأصابعه على الطاولة بقلق، ثم تنهد وقال:
“ابحث لي في السجلات. أي كتب أو أبحاث استعارتها أو نشرتها الساحرة العظيمة.”
فأجابه يوهان:
“يمكنني المحاولة، لكن لمَ تبحث عن هذا أصلًا؟”
“لأنني أحتاج إليه.”
إجابة لم يكن وجودها كعدمها سواء.
‘يا للغرابة! يأتي فجأة يطلب الاطلاع على سجلات عمرها يقترب من العشرين عامًا، ولا يذكر حتى السبب؟’
ومع ذلك، فهذا الصمت الصلب كان من طباع سيدريك دائمًا، فمنذ أيام الأكاديمية حين كان الجميع يتصرفون بخفة الطيش لصغر سنهم، بقي هو على وقاره وطبعه الهادئ.
أخرج يوهان من الدرج مجموعة مفاتيح، ثم فتح الخزنة الواقعة خلف مكتبه. وهو يتمتم كأنه يسترجع ذكرى:
“الساحرة العظيمة زارت هذا المكان، إن لم تخنّي الذاكرة، في سنة…”
“772.”
“عجيب! صحيح… لكن كيف عرفت هذا؟ ألعلّك قرأت سيرته الذاتية؟”
ارتبك سيدريك قليلًا، وأمال رأسه وهو يتمتم:
“… شيء مثل ذلك.”
“مثل ذلك؟ وهل تركت تلك الأمرأة أي مذكرات أصلًا؟ على كل حال، نعم، 772، 772…”
وبينما كان يكرر الرقم، عثر يوهان أخيرًا على كتاب قديم شاحب الاصفرار، أزاح الغبار المتراكم فوقه، وأخذ يقلب صفحاته بحثًا عن أثرٍ للساحرة العظيمة.
“هل يمكن أن نعرف ما الذي استعارته بالضبط؟”
سأله سيدريك.
“إذا استعارت من الوثائق ذات التصنيف الأمني العالي، فمجرد الاطلاع يُسجَّل في السجلات.”
“هل هناك شيء؟”
أومأ يوهان برأسه، وأخرج ورقة بيضاء، ثم دوّن عليها ما ورد في دفتر السجلات.
“ها هو ذا… سجلّ الاستعارة بتاريخ 26 أغسطس سنة 772، كتاب واحد فقط: الخصائص الجغرافية لصحراء فويغيل.”
“الجغرافية؟”
كان سيدريك يتوقع أن يكون الكتاب متعلقًا بآثار عبادة الشياطين في الدول القديمة، لا موضوعًا كهذا.
سلّم يوهان الورقة لسيدريك وهو يضع نظارته على طرف أنفه ويبحث عن أي استعارات أخرى، لكن إلى آخر الكتاب لم يظهر اسم الساحرة العظيمة مجددًا.
لقد كان الكتاب الوحيد الذي قرأته من بين آلاف المؤلفات حول الممالك القديمة كتابًا جغرافيًا!
تجهم سيدريك متفاجئًا، ثم خطر في ذهنه كلامٌ كانت إستيل قد قالته:
‘قالت أمي الحلم عليها أن تذهب إلى أعمق مكان.’
‘هل كان المقصود “الأعمق” بمعناه الحرفي لا المجازي؟’
نهض سيدريك مترددًا، وسأل يوهان الذي كان يحدق به متسائلًا عما إذا كان سيطلب شيئًا آخر:
“أين يقع أعمق مكان هنا؟”
كانت أحلام إستيل دائمًا ما تحمل دلالات واقعية، تمامًا كما كان دفتر إيلين يوجّه رحلتهم. لذا لا بد أن لتلك العبارة أيضًا دلالة مهمة. وكان لا بد من البحث عن أكثر المناطق انخفاضًا.
وبما أن السؤال ليس عسيرًا، توقع سيدريك إجابة مباشرة. غير أن يوهان تردد قائلًا:
“لا أدري…”
فنظر إليه سيدريك متعجبًا من حيرته، فقال يوهان بعد أن خلع نظارته وزفر بعمق:
“الصحراء ليست ثابتة يا صديقي.”
“ماذا تعني؟”
“قد يكون هناك تل رملي شاهق، ثم تأتي عاصفة فتجرفه ليصبح بعد أيام واديًا عميقًا… وهكذا. فما كنا نعدّه عميقًا قد يغدو مرتفعًا بعد أشهر، والعكس بالعكس.”
ثم ضغط عينيه بيده، كأن الصداع داهمه، وأضاف:
“لهذا نواجه صعوبات كثيرة. فكلما أردنا استكشاف موقع، تغيّر شكل الأرض من جديد.”
قطّب سيدريك حاجبيه وهو يحدّق عبر النافذة في الصحراء الممتدة بلا نهاية.
كان عليه أن يعثر في هذه الرمال على الدائرة السحرية التي دُفنت قبل عشر سنوات والتي أُخفيت بإحكام حتى لا يعثر عليها أحد.
لقد غمره شعور بالتيه والاختناق، مختلف عن الذي عاشه في معركة البحر.
عضّ على شفته بغيظ، وهو يتمتم في داخله:
‘لماذا ايتها الساحرة العظيمة، ترمي بابنتك وسط كل هذه المهالك؟’
***
وفي مكان آخر…
كانت إستيل تحدق في الكتب الموضوعة أمامها بحذر شديد، ثم مدت يدها تسحبها واحدة تلو الأخرى.
لم يكن ما فعلته سوى لعبة، إذ نجحت في رصّ خمسة كتب فوق بعضها كأنها قطع من لعبة الأطفال.
رفعت ذراعيها مهللة بالنصر، بينما كان إدغار يبتسم بخفة وهو يسألها:
“أتستمتعين؟”
“… أعتذر.”
أسرعت إستيل بانحناءة مرتبة الكتب من جديد.
أما إدغار فقد خلع نظارته ورماها بإهمال فوق الطاولة، ثم قال بلهجة جادة:
“فلنجرِ مراجعة لما وصلنا إليه.”
حدجته إستيل بدهشة وهمست متبرمة:
“تتصرف وكأنك أستاذ جامعي.”
“كنت أستاذًا بالفعل. لماذا؟ كدتِ تعجبين بي؟”
“… هيا بنا نجري المراجعة إذن!”
تجاهلته ببرود متعمد وهي تدور عينيها، مما جعله يبتسم في داخله. ثم أحضر ورقة وبدأ يخطّ عليها بقلمه المغموس في الحبر.
“أولًا، في الآثار القديمة، وُجدت باستمرار رموز وصور لعبادة الشياطين. إذن فوجود هذه العقيدة ليس مجرد فرضية بل حقيقة مثبتة.”
قالت إستيل:
“لكن ما يلفت نظر المجتمع الأكاديمي السحري ليس هذا، أليس كذلك؟”
“صحيح. ما يثير اهتمامهم هو الآثار ذاتها.”
وكأنهما اتفقا مسبقًا، أزاحا معًا الأوراق المتراكمة في وسط الطاولة، ثم نشرا فوقها بعض الرسوم.
كانت تظهر أبنية معمارية متقنة أكثر مما يمكن نسبته إلى الماضي، بل إن طرازها قريب إلى حد كبير من المباني الحديثة.
ارتدت إستيل نظارة إدغار التي كانت ملقاة على الطاولة، ورفعت حاجبيها بجدية وهي تتمتم:
“بالفعل… من الغريب أنها شُيّدت في العصور القديمة، فهي أقرب إلى مبانينا اليوم.”
أومأ إدغار قائلًا:
“الأمر يتعدى المسألة التقنية. قبل ألف عام تقريبًا، توصّلوا إلى أساليب لبناء منشآت شاهقة تضاهي مبانينا الحالية، بل حتى في الطراز المعماري كانت متقاربة. لا عجب أن تُسمى هذه المعجزة بالمعمار العجيب.”
أضافت إستيل:
“ولهذا يشك بعض الباحثين أن هذه المباني ما كان لها أن تُشيَّد إلا باستعارة قوة من الشياطين.”
راح إدغار يتأملها بصمت وهي ترتدي نظارته، قبل أن يعود ببصره إلى الصور المنشورة على الطاولة.
وضعت إستيل إلى جوارها رسوماً أخرى لمبانٍ حديثة للمقارنة وقالت بهدوء:
“وهذه هي المباني التي يعتقد أنها تشبه المباني القديمة. كما ترى…”
“إنها متطابقة تقريبًا.”
طرق التزيين، أسلوب البناء، وحتى أسقفها المقوّسة، كلها بدت شديدة الشبه. وعندما أخذ إدغار يقارنها بعين مدققة، همست إستيل:
“صحيح، أليست كأنها استنسخت من المستقبل نفسه؟”
توقفت يده فجأة، وأسقط الورقة من بين أصابعه وهو يقطب جبينه:
“أي فرضية تريدين أن تبنيها من ذلك؟”
قالت بتردد:
“أفكر أن سبب اهتمام أمي بدراسة الشياطين، ربما كان هوسًا بمعرفة المستقبل…”
ضحك إدغار بخفة وعيناه لا تزالان مسمّرتين على الرسوم التي بدا وكأنها نسخة عن مبانٍ من المستقبل.
إن كان للشياطين قدرة على التنبؤ، وكانت الساحرة العظيمة قد قصدت الصحراء من أجل ذلك… فليس الأمر مستبعدًا تمامًا.
“في الحقيقة، لا يخلو كلامكِ من منطق. لكن تعلمين ما الأهم؟”
“ما هو؟”
“أن هذا كله لا علاقة له بمكان الدائرة السحرية.”
“… معك حق.”
جلست إستيل يائسة وهي تتمتم بخفوت.
مد إدغار يده لينزع نظارته من وجهها، لكن صوت فتح الباب أوقفه، فالتفت عابسًا ليجد سيدريك يدخل. ابتسم إدغار ساخرًا وقال:
“آه، مَن نرى هنا؟ قائد فرساننا المبجّل!”
قال سيدريك ببرود:
“دع يدك عنها.”
“لماذا؟ أستُريد أن تعتقلني؟”
رفع إدغار كتفيه باستهزاء، ثم نزع النظارة من وجه إستيل ووضعها على أنفه.
جلس سيدريك إلى جوارها بوجه عابس وقال فجأة:
“أنصحك أن تغسلي وجهك.”
فتحت عينيها بدهشة:
“ماذا؟ هل علِق شيء على وجهي؟”
“نعم، هناك شيء.”
قهقه إدغار بصوت عالٍ وقال لها بنبرة هازئة:
“لا تصدقيه، إنه يخدعك.”
فأجاب سيدريك ببرود:
“بل إنها بقعة لا يراها إلا الصالحون.”
فضحك إدغار أكثر:
“إذن فأنا لست من الصالحون؟”
“بالتأكيد لست كذلك.”
حدّقت إستيل فيهما ببرود، ثم أومأت برأسها كمن توصّل إلى استنتاج:
“أها، مجرد جدال عقيم من جديد. حسنًا، كفاية. لنعد إلى موضوعنا.”
رمقها سيدريك بنظرة لا تخلو من انزعاج، لكنها لوّحت برأسها رافضة، كأنها تقول: لا شأن لي بترهاتكما. ثم جلس قربها وأشار أن تواصل الحديث.
“إذن، هل توصلتما إلى شيء؟”
لم يردّ إدغار ولا إستيل، إذ لم يكن ما فعلاه سوى مطابقة بين الحقائق المعروفة وما في السجلات.
فأخرج سيدريك ورقة من صدره وقال:
“حسنًا، دعوني أخبركم بما توصلت إليه أنا. في السادس والعشرين من أغسطس سنة 772، استعارت الساحرة العظيمة كتابًا واحدًا فقط عنوانه الخصائص الجغرافية لصحراء فويغيل.”
رفع إدغار حاجبه دهشة:
“الجغرافيا؟ هذا غير متوقع.”
أومأ سيدريك:
“نعم، وهذا السجل الوحيد المتبقي عن استعاراتها.”
تمتم إدغار:
“إذن لم تبحث في أمر الشياطين، بل في جغرافية الصحراء…”
وبينما كان شاردًا في تفكير عميق، دفع سيدريك الورقة التي كتب فيها عنوان الكتاب ومكانه على الرفوف أمام إستيل وقال:
“قد يكون لهذا علاقة بأحلامك.”
رفعت رأسها متسائلة:
“المكان الأكثر عمقًا؟”
“نعم، ذاك بالضبط. لا أخفيكِ أنني لا أفهم سبب هوس الساحرة العظيمة بالبحث عن أعمق مكان، لكنه لا بد أنها كانت تعلم شيئًا. هل وُجد في مذكرات أمك ما يشير إلى ذلك؟”
****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات