تمّ محو ذاكرة إستيل كليًّا ابتداءً من عشر سنوات مضت.
غير أنّ ما يتردّد من تمجيدٍ للساحرة العظيمة ظلّ يتناهى إلى سمعها في غلاسيوم حيث تقيم، وفيها يوجد الدائرة السحرية الوحيدة المعروفة لختم الشر.
كانت تُوصَف بأنّها نابغة قد لا يظهر مثلها إلّا مرة واحدة في الألف عام، وبأنّها البطلة التي أنقذت الإمبراطورية من براثن الشياطين.
البشر يميلون إلى التهرّب من الموضوعات المظلمة؛ ولذا فإنّ المقاصد السياحية التي يقصدونها لينسوا ثِقَل حياتهم، كانت مضطرّة لطمس تلك الظلال عمدًا.
فـ”المتعاقد مع الشيطان” لم يُذكر إلا عابرًا، بوصفه خصمًا تغلّبت عليه الساحرة العظيمة.
وإستيل التي لم تتلقَّ تعليمًا منتظمًا، لم تعلم بوقوع مجزرة إلا عبر الأحاديث المواربة، ومع ذلك لم تكن تدري بمدى فظاعتها.
كانت تعرف أنّ الساحرة العظيمة قد هزمت المتعاقد، لكنّها لم تعلم أنّ الاثنين كانا زوجين، ولا أنّ لهما ابنة.
وطبيعيّ أنّها لم تكن تدري أنّ تلك الابنة… هي نفسها.
كلّما ازداد بحثها في وجوه النور والظلمة لدى والديها، ازداد اضطرابها.
فهي ابنة البطلة وابنة الآثم في آنٍ واحد، فبأي موقف يتعيّن عليها أن تواجه إرثهما؟
ولمّا لمح سيدريك ندرةً في ارتسام الكآبة على وجهها، مدّ يده وأعطاها قطعة البسكويت التي تبدو أشهى.
قال لها بهدوء:
“أظنّه هاجسًا طبيعيًّا أن تفكّري هكذا.”
“أهكذا تظنّ؟”
لاحظ سيدريك أنّها تناولتها مباشرة بفمها بدلًا من يدها، مع أنّه ناولها إيّاها لتمسكها بيدها.
بدا على وجهه تعبير غريب، ثمّ ما لبث أن عبس وكأنّه أدرك ذلك الإحساس العجيب… كان شعورًا بالرضا.
زفر في سرّه وهو يحاول صرف بصره عن بقايا الفتات العالقة بشفتيها، ثمّ قال:
“أجل، فأنتِ في وضع معقّد فعلًا. ولا شكّ أنّ هناك من سيطالبك مستقبلًا بموقف واضح من خطايا والدك.”
‘بل هناك من يطالبني فعلًا.’
لكنها لم تبح بذلك، واكتفت بخفض عينيها.
ثم أجابت بنبرة مازحة:
“وماذا لو أنّي أنقذتُ العالم ونجوتُ بحياتي أيضًا؟”
“فلنفترض فقط… أنّك ستنجين.”
فتحت عينيها دهشة؛ فهذا لا يشبه سيدريك أبدًا.
ولعلّه أدرك ما دار في خاطرها، إذ قال بنبرة محرجة قليلًا:
“الأفضل أن تفكّري بإيجابية.”
“ألستَ من يكره ذلك؟ أليست قاعدتك أن لا تصدّق ما ليس مؤكّدًا؟”
نعم… تلك كانت قاعدته الصارمة.
فمنذ صغره وهو يتحمّل المسؤوليات الثقيلة، فترسّخ فيه هذا الطبع. غير أنّها أدركت فجأة أنّها وحدها كانت استثناءً عنده.
قال مبتسمًا بثبات:
“ستكونين بخير. لا تفكّري في الأمور السيئة.”
“ولِمَ لا؟ أليست رؤية المخاطر مسبقًا والتهيؤ لها أمرًا مهمًّا؟ أنا أفتقد ذلك بعض الشيء.”
“ولهذا… لا تحتاجين أنتِ إلى فعل ذلك.”
“همم؟”
“أنا أفكّر بها بالفعل. فلا داعي أن تضيّعي جهدك أيضًا. فلنَعِش بغير تكلّف.”
كلامه كان مقنعًا.
فهزّت رأسها موافقة من غير أن تشعر، ثمّ تناولت شايها الذي صار فاترًا. وحينئذٍ عاد إلى أصل الحديث:
“على أي حال، لو أنّك أنقذتِ العالم، ومنحك البلاط الإمبراطوري ثروة تكفي لإفلاسه عشر مرّات، ومنصب الدوقة فوق ذلك… فعندها سيطالبك الناس برأيك في والديك.”
أحسّت إستيل بشيء غريب فمالت برأسها متسائلة:
“لكن في ذاكرتي أنّها كانت تكفي لخمس مرّات فقط؟”
ضحك بخفة وقال:
“كلما زادت التعويضات كان أفضل.”
لقد بدا فيه ميلٌ لا يخلو من مكر. فانفجرت إستيل ضاحكة ورفعت كتفيها:
“صحيح! لا بأس، لنأخذ المزيد.”
سرعان ما أذعنت. فابتسم وهو يجيبها:
“أنتِ ببساطة… إستيل بلانشيه.”
“أعرف اسمي جيّدًا.”
“لستِ الساحرة العظيمة ولا المتعاقدة مع الشيطان. هذا كلّ ما في الأمر. لستِ مضطرّة لاختيار أحد الطرفين، فامضي في طريقك الخاص.”
ترديد تلك العبارة في داخلها منحها سكينة غريبة. ثم همست:
“أنا… لا أفهم والدي. لماذا حطّم كل شيء بيديه؟ أيًّا كان السبب، فلن يغفر له أحد.”
“جواب مثالي. حسنًا.”
“لكن أمّي أيضًا… لا أظنّها كانت بطلة كما يُصوّرونها. تخلّت عني، وتخلّت عن حياتها. لعلها رأت أنّ التضحية بالقليل لأجل الكثير أمرٌ واجب. حتى حين ختمت زوجها… أرادت ألّا يكون هناك ما يعرقلها.”
ظلّ بصره معلّقًا بوجهها متوقعًا أن يرى دموعًا… لكنّ عينيها ظلّتا تلمعان كعادتهما.
نهضت بثبات ورسمت ابتسامة مشرقة:
“جيّد… هذا رائع. شكرًا لمساعدتك.”
“لم أفعل شيئًا يُذكر.”
كان ردّه الجافّ باعثًا للطمأنينة. فرفعت ذقنها باعتداد وقالت ممازحة:
لما التقى نظره بتلك العيون غَسَّ قلبه بردةٍ مُوجعة.
انكشفت حقيقته.
ماضيه سُلِّط على تلك المرأة.
امرأة تحمل عينَي الساحرة العظيمة، لكنها تحمل لون شعر قاتلٍ راح يفتك بالجميع.
ولأنها كذلك، اختار لغةً للدفاع عن نفسه مناسبة للموقف.
“هل جئتِ لتعتذري نيابةً عن والدك؟”
قال بسخريةٍ مُتلذذة.
“حينئذٍ انحنِي واسألي المغفرة على ركبتيك. فالمعذرة وإن كانت لراحة نفسك، فليكن الاعتذار مهينًا كي يكون ذلك عادلًا بالنسبة لي أيضًا.”
تهكم، ونفَخ كبرياءً مقصودًا، وأظهر وجلًا مستفززًا كمن لا يخشى شيئًا، بينما في الحقيقة لم يكن يملك شيئًا، ولم يرد أن يظهر للعالم أنه فقد كل شيء منذ زمن بعيد حتى نخرته الغليل من الداخل.
التباهي والبرود كلّها أقنعة لإخفاء فراغ صارخ.
تأثرت ملامحه حين استقرّت عينايها الذهبيتان عليه. ثم سألت بهدوء:
“هل تريد ذلك حقًا؟”
لا، ليس هناك شيء يريده.
وإن طلب المرء أمرًا فلا يمكنه امتلاكه بالضرورة.
حاول إيدغار جاهداً أن يقلب أفكاره.
ما جرى ذلك اليوم لم يكن إلا امتدادًا لقانون البقاء للأقوى؛ ولم يكن ممكناً تفاديه.
لا بديل عن وقوع الحادثة، لذلك لا حاجة للاعتذار.
لما لم يَرُد، ابتسمت إستيل ابتسامة طفيفة ومدّت يدها.
خطت خطوة أقرب إلى يده الراكدة التي لم تمتد إليها، ثم قالت:
“لذا لن أقدّم اعتذارًا. شعوري شخصيًا قد يحمل أسفًا، لكنّي لست من أولئك الذين يفرضون ما لا يريد المرء. لو اعتذرتُ ستغضب بلا شك. فلا أريد أن أقدّم لك اعتذارًا بدلاً من أبي.”
تلك الكلمات أربكته.
بدا مندفعًا إلى الوراء متلعثماً بين ارتباك وخوف.
فخطت خطوة أخرى كأن لا شيء، وألزمت يدَه بيدها.
دافئة.
كأنها تنبض بحرارة.
ربما كان هو باردًا للغاية، لكنّها بدت كذلك.
عضّت شفتيها بخفة ثم قالت:
“سأقتل أبي بالتأكيد.”
توقّف الزمن للحظة.
بدأ المطر يهطل فجأة، محوّلاً جسميهما إلى رطوبة.
نظرت إستيل إلى السماء بابتسامة مشرقة وكأن الطقس يتماشى مع فرحها أو عزمها.
“هذا وعدي لك يا إيدغار.”
“……”
“أهذا ما أردت سماعه؟”
تلاشت على وجهه مشاعر متعددة، وكلها مرّت بلا ترتيب فوق ملامحه الوسيمة.
ظلّ يحدّق فيها هادئاً، ثم بعد صمتٍ قصير سعًر ببلاهةٍ ساخرة:
“لماذا؟ ألا ينبغي ألا يُقتل؟ لو انقضت النهاية فعلاً، فالأجدى أن تقفوا إلى جانبه.”
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات