كانت السفينة راسية إلى جانب قوارب الصيد الخاصة بالقرية.
ورغم أنّها متينة، فإن حجمها الكبير جعل إستيل تتأملها بوجه متردد يغشاه التفكير.
‘قولها ألا أتركها يعني أن عليّ أن آخذها معي، أليس كذلك؟ لكن كيف يُفترض بي أن أحمل شيئًا كهذا؟’
وبينما هي تغرق في الحيرة، رفعت بصرها نحو السماء الزرقاء الصافية من غير غيمة واحدة، ثم تمتمت بصوت خافت:
“هل كلام الأمهات دائمًا بهذا الإزعاج؟”
فقال سيدريك:
“أتأخرَت مراهقتك حتى الآن؟”
“لا أفهم لماذا ينبغي أن أحمل سفينة ونحن ذاهبون إلى الصحراء.”
حتى سيدريك وجد الأمر غريبًا.
فالوجهة صحراء، فهل سيُطلَب منهم أن يُبحروا فوق الرمال؟ غير أنّ مخطِّط هذه الرحلة كان ساحرًا عظيمًا، ولا سبيل إلا الطاعة.
‘لكن كيف أنقلها…؟’
وبينما هي شاردة، بدأت تستخرج من حقيبتها كتب السحر التي كانت تحشوها حتى انتفخت، واحدًا تلو الآخر.
“هذا لا يصلح، وهذا أيضًا…”
حتى وقعت يدها على كتاب بعنوان مجموعة التعاويذ العملية.
جلست القرفصاء وأخذت تقرأه بنهم.
“آه، وجدتها!”
وبعد أن أنهكت نفسها في حفظ الدائرة السحرية المرسومة في الكتاب، بدأت ترسمها على جانب السفينة. وحين رآها إدغار، رفع حاجبه بإعجاب خفيف.
وما إن اكتملت الدائرة، حتى اختفت السفينة. لا، لم تختفِ، بل تقلّصت فجأة حتى صارت بحجم كفّ اليد. انحنت إستيل والتقطتها، ثم نفضت عنها قطرات الماء، ولفّتها بحذر في قطعة قماش، وأخفتها في حقيبتها.
“هيا بنا الآن!”
قالتها وكأن الأمر لا يستحق حتى التباهي أو طلب الثناء. حدّق فيها الرجلان ثم تمتما:
“سريعة.”
“حقًا سريعة.”
وكأن البارحة فقط كانا ينتشلانها من عجزها ويواسيانها وهي تضرب قدميها يأسًا لجهلها بكل شيء، فإذا بها قد بلغت هذا الحد.
شعر سيدريك لأول مرة كأنه وليّ أمرها، ثم تبعها بخطاه.
وخلفهم، كانت براعم خضراء يانعة تشقّ الأرض صعودًا.
لقد اقترب الربيع.
***
كانت إيلين تحدّق في الخريطة.
تمسحها بعينيها مرارًا، وهي صحراء مترامية لا لون فيها إلا لون الرمل، ثم راحت ترسم بالقلم مسارات متقاطعة قبل أن تعقد حاجبيها وتلتفت إلى الوراء.
‘آه، إنه الحلم من جديد.’
ذلك الوجه لم يعتد عليه قلبها بعد مهما تكرر.
كان تريستان بلانشيه واقفًا بهيئة رجل مكتمل الرجولة، يطالع الخريطة الممدودة تحت يديها ويسأل:
“إلى أين تنوين الذهاب؟”
“إلى أخفض مكان.”
“وأين يكون ذاك؟”
“علينا أن نبحث عنه من الآن.”
وضعت إيلين يدها على جبهتها بتأفف، ثم انتبهت متأخرة إلى أن ظهر حبيبها مثقل بالحمولات.
‘مستحيل…؟’
وقبل أن تنطق، استبقها تريستان بالكلام:
“نعم، سأرافقك.”
“لا…”
سكتت، ثم دارت عينيها إلى السماء، وزفرت بعمق وهي تخفض بصرها.
‘وماذا ينفع الرفض؟ فهو لن يتراجع.’
ثم تمتمت، وفتحت درج مكتبها، وأخرجت منه شيئًا وألقته له.
التقطه في الهواء وحدّق فيه وهو يتمتم:
“ما هذا؟”
كانت قنينة ماء صغيرة تناسب كف اليد، وفيها سائل صافٍ يتلألأ تحت الضوء.
عندها قالت إيلين ببرود آمرة:
“اشرب.”
“الآن؟”
“نعم. كان ينبغي أن أعطيك إياه منذ زمن، لكنني انشغلت كثيرًا.”
لمح تريستان بداخل الماء جسيمات دقيقة عائمة، فقبض وجهه بشيء من النفور.
‘حقًا تريدينني أن أشرب هذا؟’
نظر إليها، فإذا بها تهز رأسها بإصرار.
فما كان منه إلا أن شرب.
‘ما الحيلة؟ إذا قالت اشرب، فلابد أن أشرب.’
أفرغ القنينة في فمه دفعة واحدة.
كان طعمها أقرب إلى ماء موحل.
ابتلعها بصعوبة، ثم سألها:
“ما هذا؟”
فابتسمت بسخرية وقالت:
“أما كان الأجدر أن تسأل قبل أن تشرب؟”
فأجابها مبتسمًا بدوره:
“هل شككت بك يومًا؟”
ارتبكت قليلًا، وجمدت ملامحها، ثم أعادت تركيزها على الخريطة وأعطته ظهرها.
لم يكتفِ، بل جال إلى الجهة المقابلة وجلس قبالتها وهو يمازحها بعينين متألقتين:
“يا له من شرف، أن أرى الساحرة العظيمة مرتبكة الوجه!”
“اصمت.”
“حسنًا، حسنًا. لكن، ما هو إذن؟”
رفعت رأسها ونظرت إليه نظرة حادة، ثم تنهدت.
‘هذا الفتى… يزداد دهاءً يومًا بعد يوم. في الرواية لم يكن هكذا قط. لكن لعلها تغييرات للأفضل.’
ثم أجابته:
“ماء مقدّس.”
“ماء مقدّس… تقولين؟”
ذلك الماء الذي يُعدّ في الكنائس أنفس من الذهب، لا يُستخدم إلا بقطرات قليلة تدوم شهرًا بأكمله، تعطيه له ليشربه كله دفعة واحدة؟ أهذا معقول؟ تجمّد من الذهول وهو يتمتم:
“الماء المقدس الذي تقصدينه… ذاك النادر الذي يحمل بركة الإله نفسه؟”
“نعم.”
“لكن… من أين حصلتِ عليه؟ ثم إن كان ماءً مقدسًا، فلابد أن يكون صافيًا طاهرًا، فما هذه الشوائب العائمة؟”
أجابته بوجه جامد ونبرة دقيقة:
“يبدو أنك لا تعرف ما هو الماء المقدس. إنّه لعاب البابا. فلا خيار آخر.”
تداعى وجه تريستان بالاشمئزاز، وغصّ في حلقه، وسألها بصوت متهدج:
“…حقًا؟”
فابتسمت وقالت بلا مبالاة:
“طبعًا لا. كان مزاحًا.”
“يا لَكِ…”
ارتخى جسد تريستان من وقع الجواب البارد، لا يدري أيفترض أن يطمئن لكونه مجرد مزاح، أم يغضب لأنه كان موضع سخرية.
وبينما فقد لسانه الكلام، ابتسمت إيلين بخفة وقالت معاتبة:
“حقًّا صدّقت؟”
“كان وجهك مقنعًا للغاية.”
“وهل هذه أول مرة أفعلها؟”
‘لكن من أين حصلت على ماء مقدّس نفيس كهذا ولماذا أعطته لي أنا بالذات؟’
ظلّ تريستان يتساءل في داخله، فأجابته إيلين بلهجة عابرة:
“لقد ساعدتُ الكنيسة في القضاء على بعض الوحوش. وحين عرضوا عليّ مكافأة، طلبت شيئًا آخر غير المال.”
“أوه، فاستبدلتِ أجرَكِ بهذه القنينة فقط؟”
تحاشَت النظر إليه وأجابت مترددة:
“قنينة ماء مقدس واحدة…”
“وهل حصلتِ على المزيد أيضًا؟”
“رجوتُهم أن يلبّوا كل ما أطلبه مجانًا مستقبلًا، ثم أخذتُ سرًّا آخر مصنَّفًا سريًّا.”
“إلى هذا الحد؟!”
كان الأمر مبالغًا فيه.
إيلين لم تكن من النوع الذي يتشبّث بشيء إلى هذه الدرجة. وبينما كان تريستان حائرًا، ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيه، ثم باغتها من الخلف وضمّها هامسًا:
“إذن أنفقتِ كل ما جنيتِه من سنوات معاناتك في البحر الداخلي… عليّ أنا.”
( الي مايتذكر البحر الداخلي هو الي بالفصول السابقة من رحله استيل البحرية )
“وهل هذا المهم الآن؟”
جاءه صوتها المندهش، فضحك بخفوت، ثم طبع قبلة سريعة على شعرها الأحمر وهمس:
“أشعر أنني أحببتك أكثر.”
“هذا مجرد وهمٌ فحسب. بالمناسبة، هل ما زلتَ على تواصل مع إيزابيلا هذه الأيام؟”
“أنا؟ ولماذا أفعل؟”
قبل ثلاث سنوات، حين كانا في البحر الداخلي، بَحّ صوته باعتراف صريح، لكنها صدّته ببرود قائلة:
“يبدو أنك تائه الآن.”
ومع ذلك لم تُبعده عنها، بل كانت تقلق بشأنه وتعتني به كلما وقع في مأزق.
وعندما سألها يومًا لماذا تهتم به كثيرًا رغم أنها لا تبادله الشعور، أبطأت الجواب ثم قالت:
“أنا قلقة… عليك.”
ومنذ ذلك الحين ظلّت علاقتهما معلّقة على هذا الحال. كبُرا وصارا بالغَين، لكنهما لا يزالان محبوسَين في هذه الضبابية.
ضربت إيلين كفها على ظهر يده لتفلت من ذراعيه، فتركها بهدوء، غير أنه ما لبث أن تبعها وهو يسأل:
“لكن، لماذا جعلتِني أشربه؟”
“ظننت أنّه قد يُساعد قليلًا في درئك عن الفساد.”
“أأنتِ ما زلتِ تخشين أن أنزلق؟”
أتُراها ما زالت متوجسة من ذلك الحادث في صباهما؟ يوم كان طالبًا في الأكاديمية، وكاد يبرم عقدًا مع شيطان بعد أن وقع في فخ مدبَّر. لولا أن إيلين ظهرت فجأة وأنقذته.
ومنذها، لم يفقد فقط أي نية للارتباط بالشياطين، بل حتى اهتمامه بهم زال. والسبب بسيط: لأنها لم تكن تريده أن يفعل.
سؤاله ظلّ معلقًا في الهواء: هل ما زالت تخاف من فساده؟
جلست إيلين تفكر قليلًا، ثم همست لنفسها بصوت لم يصل إليه:
“لا. لم يعد الأمر كذلك بعد الآن.”
***
فتحت إستيل عينيها.
كان صوت شخير لوتشي يتردد عند قدميها. وما إن نهضت حتى رأت التنينة الصغيرة ملفوفة على نفسها في هيئة بائسة وهي تنام عند قدميها.
‘لماذا تنام هنا والسرير واسع بما يكفي؟’
عجزت عن التعليق للحظة، ثم حملتها بلطف وأعادته إلى الوسادة، قبل أن تنهض هي نفسها.
باتت الأحلام بالنسبة إليها أمرًا عاديًّا لا يدعو إلى الدهشة.
‘أجل، يبدو أنني أتكيف بسهولة شديدة.’
هزت رأسها موافقة لفكرتها، ثم التحفت بالبطانية الموضوعة على الأريكة، وخرجت إلى الشرفة.
من هناك، انبسط أمام ناظريها غابة شاسعة ممتدة حتى الأفق.
كان هذا المكان فيلا تابعة لدوقية إيرنيست. ولم يأتوا إليه إلا بسبب جملة واحدة قالها سيدريك وهو يتفحص الخريطة:
“يوجد على الطريق قصر ريفي. يمكننا الإقامة هناك أثناء رحلتنا.”
“قصر ريفي؟”
“لم أزره منذ مدة طويلة. إنه ليس كبيرًا، لكنه يكفي لإيواء أربعة أشخاص.”
حينها تخيلت إستيل كوخًا صغيرًا… لكن الذي ظهر أمامهم كان قصرًا ضخمًا من أربع طبقات.
ارتسمت على وجهها علامات الصدمة، فسألها سيدريك مرتبكًا:
“ما بكِ؟”
أما رفاقها من عامة الشعب فلم يُفوتوا الفرصة للسخرية:
“هكذا هم النبلاء…”
“مستفزّون فعلًا…”
فقال سيدريك محتجًا:
“أتعترضون حتى على توفير مأوى لكم؟”
أجابت إستيل بهدوء:
“لم نعترض.”
وأضاف إدغار بابتسامة ساخرة:
“أنت الأفضل يا سيّدي.”
كانت تعرف مسبقًا أن في الإمبراطورية دوقيتين فقط، وأن دوقية إيرنيست متشابكة مع الكنيسة بعلاقات متينة، مما زاد نفوذها… فقد شرح لها إدغار هذا من قبل.
ومع ذلك، لم يَعلق في ذهنها سوى انطباعها الأول عن سيدريك: مجرد فتى ثري يصلح لأن يكون هدفًا للسرقة. والأسوأ أنّ ما سرقته منه آنذاك كان الشيء الذي جرّ حياتها كلها إلى الهاوية.
لكن الآن، أدركت فجأة مدى علوّ شأنه.
رجل من طبقة رفيعة كهذا ألقى بنفسه في بحر مليء بالوحوش من أجلي؟
شعور غريب تسلل إلى قلبها.
صحيح أنه ليس نبيلاً مدللًا كما يبدو… ومع ذلك.
بينما كانت مستغرقة في خواطرها، لمحَت شخصًا جالسًا في الحديقة. لم تحتج إلى التدقيق، فشَعره الوردي كفيل بتعريفه.
“إدغار؟”
التفت برأسه بسرعة، وتحت ضوء القمر بدا وجهه أكثر حدة وحدة.
لوّحت له بيدها، فردّ بإشارة تدعوها للنزول.
قفزت من الشرفة، متخذة من بروزات الجدار مداسًا، حتى وصلت إلى الأرض، ثم أسرعت نحوه.
تمتم إدغار بوجه عابس:
“ظننتك ستهبطين بالسحر.”
“آه، صحيح!”
لم يخطر ببالها استخدام السحر أصلًا، إذ بدا النزول ممكنًا بدون حاجة إليه.
نظر إليها للحظة بعينين باردتين، ثم قال بلهجة ساخرة:
“حسنٌ، إذا كان الجسد رشيقًا، فلا بأس إن كان العقل بليدًا.”
عضّت شفتها غيظًا، ثم صفعت فمه صفعة مسموعة.
******
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات