ربما كان سبب ضحكها أنّها شعرت فجأة بالوحدة التامّة، غير أنّ محاولات هذا الرجل في المواساة—التي كانت ساذجة إلى حدّ يثير الضحك—أخرجت منها ابتسامة لم تستطع كبحها.
أجابت بالضحك عوضاً عن الكلام، ثم ضغطت بالمنديل على عينيها المبتلّتين لتمسح ما تبقى من الدموع.
حين رفعت عينيها قليلاً، رأت وجه سيدريك وقد بدا مرتبكاً أشدّ الارتباك.
آه… محرج فعلاً.
لكن، أين نحن بالضبط؟
حين أغمضت عينيها كان الليل قد خيّم، أمّا الآن فسماء الفجر تتوهّج بالحمرة.
رفعت جسدها فجأة، وسألت بصوت غافل:
“إذن… أين هذا المكان الذي سحبتني إليه دون حتى أن أودّع والديّ؟! عندما أعود سيسخران منك كثيراً. وهذه وحدها ستُحسب عليك يا سيدريك، تقبّلها.”
“سيسخران منّي، تقولين.”
“ماذا؟”
“وهل هناك في ذلك القصر مَن يجهل ما أُكنّه لك؟”
لم تجد ما تردّ به.
بالفعل، كان الجميع يعرف. ولئن كان الخدم يتظاهرون بالصمت وكأنهم لا يعلمون حرصاً عليها، إلا أنّ الأمر لم يخفَ على أحد. بل إنّ قلّةً فقط أبدت استياءها من بقائها في القصر هكذا، لأنهم جميعاً أدركوا أنّها أصبحت موضع اهتمام الشاب الذي يسكن قلبه بها. لقد كانت، في أعينهم، حديث القصر بأسره.
شعرت بالحرج، فسعلت سعالاً مصطنعاً، ثم ضربت ذراعه بخفة وقالت:
“إذن، إلى أين نحن ذاهبون؟”
“خشيت أن تستيقظي عند عبور البوابة، لكنك نمتِ نوماً هادئاً. من الآن فصاعداً، سيكون من الأفضل أن تنامي كلما اضطررنا لعبور بوابة انتقال.”
“حقاً؟! إذاً من الآن فصاعداً، النوم إلزامي عند التنقّل… لكنك تُراوغ! سألتك إلى أين؟”
خيّل إليها أنها رأت عرقاً بارداً يتصبّب من مؤخرة رقبته.
ما الأمر؟ إلى أي مكان اصطحبني؟
رفعت رأسها من بين طيّات الغطاء محاولة التطلّع حولها، لكنه أعادها بسرعة إلى الداخل وهو يقول:
“الجو بارد. انتظري قليلاً.”
“آخ! رقبتي!”
ما هذا الجبروت؟!
لم تستطع أن تقاوم قوّته، فبدأت تركل وتضرب بيديها من داخل الغطاء. عندها مدّت إصبعها ورسمت خطاً حادّاً على القماش الذي يلفّها، فتمزّق بصريرٍ حادّ إلى نصفين، واندفعت إلى الخارج.
“آآخ!”
“انتبهِي!”
إذ كان تحت قدميها هاوية سحيقة! لولا أنّه جذبها سريعاً إلى صدره وتدحرجا معاً على الأرض، لكانت سقطت. ما إن تأكّد من سلامتها حتى أغمض عينيه ببطء.
سخط… نعم، هو غاضب الآن.
عرفت من تعابير وجهه أنّ سيل التوبيخ قادم لا محالة.
وفعلاً، انطلق صوته:
“ألا يمكنك التصرّف ببعض الصبر؟ بالكاد استيقظتِ، ولم تستطيعي الانتظار—”
“لو أفلتّني لكان الأمر بخير! كنت سأستخدم سحراً للطيران…”
“وأنتِ تهوين؟ أكنتِ تظنين أن تركيزك سيكون في أفضل حال؟”
“على كلّ، أخبرني فقط… أين نحن؟”
وضعت كفها على صدره لترفع نفسها، فتنبهت فجأة إلى أنها جالسة فوق فخذيه.
صحيح أنهما اعتادا التدحرج معاً أكثر من مرة، لكن الموقف بدا محرجاً على نحوٍ ما. فسعلت مجدداً وجلست على الأرض بجواره.
“المهم… أين هذا المكان الذي حاولتَ دفني في الأغطية حتى لا أراه؟”
لكن كلماتها الأخيرة انطفأت شيئاً فشيئاً وهي تحدّق أمامها.
إنه مشهد مألوف.
نهر عظيم يلتفّ حول الأراضي كأفعى ضخمة، عازلاً المنطقة وكأنها جزيرة مستقلة. وفي الوسط، سهل فسيح، تنتصب في أنحائه سيوف عملاقة مغروسة في الأرض.
ارتجف جسدها وتراجعت خطوة إلى الوراء، غير أنّ ظهرها اصطدم بشيء… كان سيدريك، يقف خلفها وقد وضع يده على كتفها برفق.
بصوتٍ يشي بالحرج، تمتم قائلاً:
“كنت أودّ أن أريك بعد شروق الشمس.”
“ومع ذلك، انتهى بك الأمر إلى إحضاري.”
أكان بسبب الشمس المشتعلة باللون القرمزي؟ بدا الإقليم لا يزال مغموراً بلون الدم.
لماذا إذن أحضرها إلى هذا المكان؟ لقد أكّد بنفسه من قبل أنه لا يرغب بالمجيء.
كتمت كلماتها، ثم فجأة سقطت على العشب.
“آه! ما هذا! بحق خالق السماء، ماذا دهاك اليوم؟ هل تناولت شيئاً فاسداً؟”
لم تكن ساقاها قد خانتها، بل هو الذي جذبها فجأة من الخلف وأجلسها عنوة.
رمقتْه بعينين متقدتين زرقة، فإذا به يبادلها نظرة جادة متأنية، ثم قال:
“أدرك أنك غاضبة، وهذا مفهوم… لكن رجاءً، اهدئي أولاً.”
“لستُ منفعلة إلى هذا الحد.”
“حقاً؟ إذن ما رأيك أن تُخفي الدائرة السحرية التي ترسمينها بأصابعك؟”
“… لقد انكشف أمري.”
لم تكن تنوي سوى تفريغ غضبها بإشعال طرف ثوبه فحسب، لكن كعادته كان شديد الفطنة.
لمعت عيناها بضيق، ثم أطلقت تنهيدة طويلة. عندها قال هو بقلق:
“أمنحيني فرصة للدفاع عن نفسي.”
“… هات ما عندك.”
“لا أطلب سوى أن تنظري إلى هذا المكان حتى تشرق الشمس تماماً.”
هي طلبت منه التبرير، لا إصدار الأوامر.
رمقته بنظرة حادة، غير أن سيّدريك لم يتراجع على غير عادته، بل ثبت على عناده بعينيه الملحّتَين.
أيّ كبرياء هذا؟
حسناً، المسافة بين بيت الدوق إيرنيست وجزيرة السجن بعيدة جداً، ومن العبث أن تثير ضجة لتعود حالاً.
كان يمكن تبسيط الأمر باستخدام دائرة الانتقال، لكنها أرادت على الأقل أن تفهم سبب تصرّفه هذا.
‘لا بد أن أعرف لماذا يقوم بشيء لا يليق به أبداً.’
صحيح أنّ هذا المكان شهد مقتل والدها، ولم يكن شيئاً تتوق إلى رؤيته مجدداً، لكنه لم يعد يرعبها إلى حد الموت أيضاً.
فليكن… إن كان تلك”رغبة” له، فستدعمه.
وهكذا، شبكت ذراعيها ونظرت بوجه متجهم إلى النهر الهادئ الذي يطوّق الأرض الخالية.
السماء الفجرية كانت قد اكتسبت لوناً بنفسجياً.
ومع تغيّر لونها، بدأ المشهد يتبدل.
المكان الذي كان إلى عهد قريب “جزيرة السجن”، رمز المأساة، لم يعد سوى أرض مهجورة خاوية.
وبينما كانت الشمس تشرق أكثر فأكثر، لاحظت شيئاً، فحرّكت شفتيها بذهول:
“لون الأرض….”
“أجل.”
“لم يعد أحمر كالدم.”
لم تلحظ ذلك في الليل، ولا حتى عند توهّج السماء بالحمرة عند الفجر، لكن مع ارتفاع الشمس بدا لون التربة مختلفاً، وقد انقشع السواد الممزوج بالحمرة ليُظهر هيئة أوضح.
وبينما السماء تبرق بأزرق صافٍ تحت ضوء الصبح الساطع، تجمّدت هي بلا كلمات أمام المنظر. عندها تحدّث سيّدريك بدلاً عنها:
“إنها زرقاء، أترين؟”
“…….”
“لقد أغمي عليكِ قبل أن تشهدي النهاية، أما أنا فقد رأيتها. أدركتُ أن ملامح الجزيرة بدأت تتغير. لم أتمكن من التمعّن كثيراً يومها لأني اضطررت لإعادتك سريعاً، لكن قبل أن أغادر التفتُ ورأيت.”
ذلك اليوم… حين احترق العاقد الشيطاني مع شيطانه، وحين انهارت إستيل باكية حتى فقدت وعيها. قبل أن يخرج بها من الجزيرة، نظر وراءه، ورأى…
“رأيت دخاناً أسود يصعد من تحت الأرض. حسبتُه حشداً من الحشرات، لكنه لم يكن كذلك.”
لا رائحة دماء، ولا نفَس كبريت. أما في ذاكرتها هي، فقد كان آخر مشهد للجزيرة جحيماً حقيقياً: وحش أعور يملأ السماء، أرواح لا تعد تصرخ، ورائحة خانقة تحرق الأنفاس.
ابتسم سيّدريك ابتسامة هادئة وهو يراقب ذهولها.
“لقد قلتُ لكِ، ربما الأمر لم يكن بتلك الفظاعة.”
لم تدرِ بما تجيب.
جلست تكتفي بتمعّن المشهد الصافي أمامها، بينما أضاف هو بصوت خفيض رقيق:
“هذا من صنعكِ. إنه الدليل على أن كل شيء قد انتهى.”
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات