كانت طفلة صغيرة تنادي باسم الشاب بكل بساطة، وهي تفتح أي باب تشاء دون استئذان في تصرّف غاية في قلة الأدب، ومع ذلك لم يبدُ على أحدٍ أي استغراب. في البداية، حاولوا تصحيح هذه العادة لديها، لكن بما أنّ الطرف المقابل كائن لا يفهم شيئًا عن آداب البشر وتقاليدهم، فقد انتهى الأمر إلى اعتبار تلك المحاولات بلا جدوى منذ زمن.
وبينما كانت الصغيرة تجوب الغرف منادِيةً باسم سيدريك، أخذت إحدى الخادمات، وهي تضحك بخفة، تهمس في أذن إستيل:
“آنستي، أظن أنّ الوقت قد حان لتخبريها أن السيد لم يعد بعد.”
‘ماذا؟! هل تظن أنني ألهو بلوتشي وأخدعها؟!’
تفاجأت استيل وقالت بارتباك:
“غير موجود؟!”
“آه… لم تكوني على علم أيضًا يا آنسة…”
وبذلك صار الأمر وكأنّ الخادمات قد خدعن الاثنين معًا دون قصد. سارعت إحداهن إلى شرح الموقف لإستيل التي اتسعت عيناها دهشة.
“نحن لا نعرف على وجه اليقين، لكن سبق وأن تأخر عودته أو أجّلها مرارًا. ليس هناك ما يدعو للقلق!”
“آه… حسنًا.”
“إن كنتِ قلقة، يمكننا أن نستفسر أكثر…”
“لا، ولماذا أقلق أنا عليه؟ بل الآخرين هم من يجدر بهم القلق بشأنه.”
وكان ذلك صادقًا تمامًا. فلو كان شخصًا آخر لربما ساورها الخوف من وقوع حادث، لكن بما أنّ الأمر يخص سيدريك، بما يملكه من قوة ومهارة، فاليقين أنه يتدبّر أمره بنفسه
. فجأة، خطر على بالها سؤال فالتفتت نحو الخادمة بجانبها وسألت:
“لكن… إلى أين ذهب؟”
“لا نعلم بدقة، لقد غادر بمفرده ومعه حارس واحد فقط.”
والحال أنّ جماعة عبدة الشياطين قد انهارت تمامًا، كما انتهت كل نزاعات الإرث وما شابهها، فما الذي بقي ليشغله؟
أخذت إستيل تحرّك رأسها حيرةً، قبل أن تسرع للحاق بلوتشي التي همّت باقتحام غرفة دوق ودوقة القصر بحثًا عن سيدريك.
‘حسنًا… هو ليس طفلًا. سيعود في الوقت المناسب من تلقاء نفسه.’
هكذا فكرت.
لكن غيابه امتد ثلاثة أيام كاملة.
حينها بدأ الزوجان الدوقيان يبديان شيئًا من القلق.
فإيزابيلا التي لم تلقِ بالًا في البداية معتبرةً أن الابن قد يشغله أمر عرضي، راحت تسأل الخدم بخفية عن أخباره.
أمّا ميكاييل فكان يبدو هادئًا، لكنه في الخفاء قد قلب المعبد رأسًا على عقب ليتحقق إن كان هناك أمر طارئ مع فرسان الهيكل.
لكن تبيّن أنه لم يقع أي حادث يستدعي تدخّل سيدريك بهذا الشكل.
وفي النهاية، استدعوا إستيل. وسألوها أثناء الطعام إن كان سيدريك قد أسرّ إليها بشيء. عندها كادت تختنق بالطعام وهي تسعل قائلة:
“أنا؟! إن لم تكن والدتي ولا والدي على علم، فكيف لي أن أعرف…!”
“لكنكِ كنتِ تلازمينه في الأيام الأخيرة!”
“ولن يُعقل أن يخفي مكانه عن الفتاة التي وضعها في قلبه. لم أُربِّ ابني على هذا.”
جملة مباشرة من ميكاييل، جفلت منها إستيل وعجزت عن الإنكار أو التأكيد، فاكتفت بضحكة مصطنعة وارتشفت الماء. لو كان هذا في الماضي لأنكرت بقوة، لكن بعد أن عرفت قلب سيدريك، غدا النفي أمرًا متردّدًا. عندها سألتها إيزابيلا بوجه تملؤه الترقّبات:
“إذن؟ هل قال لكِ شيئًا؟”
“لا… لم يقل شيئًا. ربما ذهب ليستريح فقط؟”
“فجأة؟”
نظراتهم المتسائلة جعلتها تسرع بإضافة:
“لقد كان يعمل باستمرار بسببي… ربما الآن وقد انتهى كل شيء، أراد أن يخفف من إرهاقه.”
“لو كان كذلك لدعاكِ لترافقيه.”
“لكنني أنا من جلبت له كل ذاك العناء أساسًا.”
هزّ ميكاييل رأسه وقال:
“تظنين أنه استنزف نفسه لمجرد الواجب؟ بل فعل ذلك ليُحسن صورتَه أمامك.”
‘تبا، حتى هذا لا أستطيع إنكاره!’
أخذت عيناها تتقلبان هنا وهناك بينما ينطق ميكاييل بما تعرفه هي أصلًا.
راقبها ميكاييل بمتعة وهو يضع الشوكة والسكين جانبًا، ثم تابع بنبرة مازحة:
“لا أقصد أن أجعلكِ تشعرين بالعبء، فلا تفكري هكذا.”
“حقًا؟” أمالت رأسها قليلًا وضاقت عيناها بالشك وهي تحدق فيه.
“نعم، حقًا. لو عاملتك بتلك النية، لخرجت إيلين من قبرها لتفتك بي.”
‘حسنًا… كون الأم معروفة باعتبارها مجنونة أمر يجلب بعض الحماية!’
ضحكت إستيل بخفة وهي تضع كأس الماء جانبًا، فقال ميكاييل بلهجة ختامية:
“قصدي، أن رجلاً يكدّ فوق طاقته لأجلك، لا يُعقل أن يترك كل شيء ويختفي فجأة.”
“على أي حال، سيظهر عاجلًا أو آجلًا. سنعرف حين يعود…”
وفي تلك اللحظة، استدار الثلاثة معًا نحو النافذة وقد استشعروا شيئًا. كان صوت باب القصر الكبير يُفتح في ساعة متأخرة كهذه. ولم يكن هناك من يدخل من الباب الرئيس في مثل هذا الوقت إلا شخص واحد. نهضت إستيل بدهشة هامسة:
“عاد كالشبح تمامًا…”
رغم همسها، التقطت إيزابيلا كلماتها، وانفجرت بابتسامة مكتومة وهي تنهض ببطء. ثم دوّى وقع خطوات مسرعة، تبعه صوت الباب وهو يُفتح بعنف.
وإذا بوجه بدا غريبًا بعض الشيء بعد فراق قصير، يظهر تحت الضوء. كان سيدريك بشعره الأسود المبعثر من هبوب الرياح وهو يحاول ترتيبه بيده، يتقدم نحوها بخطى مسرعة.
“إستيل.”
‘ألم يكن الأولى أن تُلقي التحية على والديك أولًا؟’
رفعت ذراعيها في حركة إيماء، لكنها سرعان ما أدركت أن نظره لم يلحظ غيرها. وكأنه لم يشعر بوجود الدوق والدوقة أصلًا، أمسك بيدها وقال بلهجة قاطعة:
“هل يمكنكِ أن تنطلقي معي حالًا؟”
‘مهلًا، والدَيك أولًا!’
لكن عوضًا عن ذلك، لاحت في عيني الزوجين بريق فضولي وهما يرقبان كيف تجاهل ابنهما والديه ليتوجه مباشرة إلى الفتاة. ثم، بابتسامة راضية، أشارا بيديهما وكأنّهما يقولان: “تابعا ما تفعلانه”، وغادرا القاعة بخطوات هادئة دون أن يُحدثا ضجيجًا.
لماذا يتصرّف هكذا بحق خالق السماء؟
وهي تفكّر في ذلك، حاولت أولًا أن تتعامل مع سيدريك الذي باغتها بهذا الشكل، ففتحت فمها قائلة:
“هاه؟ الآن؟ إلى أين؟”
“حتى لو انطلقنا فورًا، فسيستغرق الأمر يومًا كاملًا. ارتدي ثيابًا دافئة، والتقيني في الأسفل بعد خمس دقائق.”
“لا، أنا أسألك إلى أين…”
لكن يبدو أنّ كلامها لم يصل إليه أصلًا. أخذها معه إلى خارج غرفة الاستقبال، ثم أسرع بدفعها إلى الطابق العلوي. “أوه…؟” تمتمت وهي تُزاح بقوة إلى الأعلى، لتتوقف وتغمض عينيها بارتباك. ثم التفتت ببطء نحو النافذة في الرواق، تتحقق من الوقت، قبل أن تهمس لنفسها:
“في هذه الساعة…؟”
لقد خرجت للتو من مائدة العشاء وجلسة الأحاديث، والوقت شارف منتصف الليل. ومع ذلك يريد الانطلاق الآن؟ ما الذي يدفع شخصًا مثله، المعروف بدقته في الاستعداد، إلى جرّها بهذه العجلة؟
اندهاشها لم يدم طويلًا، إذ سرعان ما تحرك فضولها.
ارتدت على عجل أدفأ ما وجدت من ملابس، ثم نزلت الدرج قفزًا بخفة، تخفق خطواتها في تسارع غريب، كأن قلبها ينبض بلهفة لم تشعر بها منذ زمن.
وقبل أن تفتح الخادمات الباب، دفعت بنفسها الباب الثقيل بكل ما أوتيت من قوة، لتنطلق إلى الخارج وسط نسيم الليل البارد.
كان سيدريك قد أخذ من الإسطبل حصانًا جديدًا، ولما التفت إليها قادمًا، عقدت حاجبيها وقالت:
“ما بك؟”
“أظن أنه من الأفضل أن ترتدي شيئًا أكثر دفئًا.”
“هم… إذن سأرتدي طبقات أخرى…”
“لا حاجة، لقد أحضرت لكِ كل شيء سلفًا.”
لا تعرف من أين أخرجها، لكنه بدأ يضع على جسدها قبعة ومعطفًا وحتى شالًا، ثم قفز بخفة إلى صهوة الحصان.
‘لم يكد يصل حتى الآن، فلماذا يرهق نفسه هكذا؟’
تساءلت في سرّها.
وضعت قدمها على الدرج الصغير الذي أحضره الخادم، وجلست أمامه، ثم أرجعت جسدها قليلًا لتنظر إلى وجهه الجانبي:
“ما الذي جرى؟ ما الذي يدفعك لهذا فجأة؟”
“ستعرفين عند الوصول.”
“آه~ لكن كان بإمكانك أن تقول لي من البداية!”
ابتسم بخفة، ثم ضغط بساقيه لينطلق الحصان مسرعًا. فجأة، وكأنه تذكر أمرًا مهمًّا، قال:
“آه، علينا أن نمر عبر بوابة انتقال. قد يكون الأمر مزعجًا بعض الشيء.”
“ماذا؟ ولمَ لا نستخدم السحر مباشرة إذن—”
“آسف، لكن إن عرفتِ الوجهة، سترفضين الذهاب.”
‘ولماذا تأخذني إذن إلى مكان قد أرفضه؟!’
تململت محاولة المقاومة، لكنه شدّها إليه وضحك بمزاح:
“لا تقلقي، ليس مكانًا سيئًا.”
‘لكن لماذا لدي شعور أنني لن أحب ذلك؟!’
حاولت أن تعاند أكثر، لكن قوة سيدريك كانت تفوق توقعها. أما هي، فموهبتها كانت دائمًا الاستسلام السريع. فأسقطت ذراعيها بلا حول، ثم صرخت بخفة وهي تضرب ذراعه براحة يدها:
“سأتغاضى هذه المرة فقط، لأن هذا ليس من عادتك أصلاً.”
“حسنًا إذن، يبدو أنني أحسنت التصرف عادة.”
“على الأقل اعترف بجميل ذلك.”
‘اختفى فجأة ثم يظهر مجددًا ليفعل بي كما فعل في أول لقاء… أيخطفني مجددًا؟’
فكّرت وهي تضرب ذراعه مرة أخرى، وتمتمت:
“أين ذهبت طوال تلك المدة؟ في مثل عمرك، كيف تترك والديك في قلق هكذا؟”
“كان عليّ التحقق من أمرٍ عاجل.”
“وماذا الآن؟ لماذا تخرج بعجلة مرة أخرى؟”
“لأقدّم تقريرًا عمّا تحققت منه.”
‘تقرير؟ ولمن يريد أن يقدّمه؟ أليّ أنا؟’
تساءلت في سرّها، لكنه هز رأسه مؤكدًا، ثم نظر إليها مباشرة. أعاد عينيه إلى الأمام، ثم قال بلطف:
“ما رأيك أن تنامي قليلًا؟ فالرحلة طويلة.”
“مع هذا الهواء العاصف؟ النوم سيكون مستحيلًا.”
“آه، هذا…”
توقف قليلًا، ثم فكّ رباط بطانية كانت معلّقة خلفه، وبدأ يلفّها حولها بإحكام.
لم تكد تدرك ما يحدث حتى وجدت نفسها مطمورة فيها حتى رأسها. نظر إليها برضا وقال:
“هكذا سيكون الوضع مناسبًا.”
“رائع… مبتكر حقًا…”
كانت لفتة تستحق التقدير، لكن ليس أكثر من ذلك.
فمن غير المنطقي أن ينام المرء فوق حصان يعدو لمجرد أنه ملفوف ببطانية.
لكن—يا للسخرية—ذلك كان آخر ما تذكرته.
فالسنوات العشر القاسية التي قضتها في الشوارع بعد أن تركتها أمها، علمتها أن تغفو حيثما تضع رأسها. وهكذا، وبرغم سخريتها من فكرته، وجدت نفسها، على غير إرادتها، تنام سريعًا بين ذراعيه، متأثرةً بذلك الجهد الصغير الذي بذله.
****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات