كأنما تذكّر شيئًا كان قد نسيه، وبلا أي انفعال وكأنه أمر عادي، تابع إدغار قوله:
“آه، بالمناسبة… أخرجت أمتعتي من العاصمة.”
“………ماذا؟”
إذن لم يكن يعيش حياة رتيبة كما قيل.
ارتبكت إستيل وسألته ثانية:
“ماذا قلت؟”
***
مسألة تعويض إدغار كانت بدورها صداعًا أرهق سيدريك كثيرًا.
فمع أن رفيقًا في الرحلة يظل رفيقًا، إلا أن سيدريك حاول قدر المستطاع أن يمنحه ما يستحق. فقد كان لإدغار الفضل الكبير في صقل مهارات إستيل السحرية، كما أنّه عوّض قصورها في معرفة شتى الفروع، إذ تولّى عنها استخدام تعاويذ صغيرة لمساندتها.
لكن قضية المكافأة التي ظنوا أنها ستمضي بسلام لم تزل تتعثر وتنهار بسبب عقبتين. وكانت أولاهما:
“أليس مجرد قبوله في المعهد البحثي كافيًا بوصفه مكافأة؟”
كان موقف مدير المعهد الإمبراطوري فاترًا للغاية. فتجهمت ملامح سيدريك الذي جاء ليبحث معه ترقية إدغار.
وحين شعر المدير بذلك، لوّح بيديه متعجلًا وقال:
“لا، لم أقصد ذلك تمامًا. أعني أنّه بالنسبة لرجل من عامة الشعب فقد نال بالفعل شرفًا عظيمًا، وأرى أنّ من الأفضل منحه ثروة أو عقارًا بدل التفكير في ترقيته أكثر. ثم إنّ القضاء على الشيطان ينسبونه أصلاً إلى ابنة الساحرة العظيمة…”
كان سيدريك قد تخلّى عن أوهامه بشأن المعهد حين سمع من إدغار نفسه أنه لم يقبل فيه إلا بتوصية من الساحرة العظيمة، لكن أن يشهد التمييز بعينيه كان له وقع آخر.
لقد عارض المدير بشدة ترقية إدغار، معللًا بأنّه قد تقدّم بسرعة أصلًا بفضل أبحاث متعلقة بالساحرة العظيمة، فلا مبرر لترقيته أكثر.
“أليس هذا دليلاً على كفاءته؟”
“أنا لا أنكر كفاءته، لذلك أقترح أن يمنح قصرًا مثلاً كمكافأة…”
وما إن كاد الغيظ يخنق سيدريك حتى واجه العقبة الثانية، وهي رفض إدغار نفسه.
“قلتُ إني لا أريد. وإذا هو يرفض، فأنا أيضًا أرفض.”
وبابتسامة ساخرة، تسلل إدغار فجأة إلى طاولة المفاوضات وأخرج من صدره ورقة.
ثم صفعت وجه المدير بفعل ريح سحرية، فإذا هي استقالة مكتوبة بخط عريض. فتسعت عينا المدير من الذهول.
“أستقيل. فبعد أن فُكّت شيفرات الدوائر السحرية المجهولة للساحرة العظيمة، لم يعد هنا ما أستخلصه من نظريات.”
“سيد إدغار لوران، ما الذي تفعله بحق…؟”
“بمعنى آخر، كما قال المدير، الأفضل أن آخذ نصيبي من الثروة وأمضي. لا بد أن أجد معهدًا آخر أبحث فيه.”
وبينما كان المدير يلوك الكلمات بعد الصفعة غير المتوقعة، التقط سيدريك بسرعة تحوّل موقف إدغار، فأبرم مع الإمبراطورية عقدًا يمنحه مبلغًا يكفي لإنشاء معهد جديد كامل.
***
“………هذا ما بلغني، لكنك تقول إنك أخرجت أمتعتك؟”
أجاب الرجل بلامبالاة وهو يرفع كتفيه، فيما كانت لوتشي التي تجلس بجانبه منهمكة في التثاؤب وقد بدا عليها السأم من الحديث. أما إستيل فبدا عليها الاستغراب؛ فالاستقالة نفسها كانت مفاجئة، فكيف بترك العاصمة كلها.
فقال إدغار:
“المعهد البحثي في العاصمة. وإذا أردتُ إنشاء معهد آخر فلا بد أن أذهب إلى مكان آخر.”
ماذا؟ لأجل سبب كهذا فقط؟
كانت إستيل قد ظنت أنّه على عادته سيؤسس معهدًا آخر في قلب العاصمة متحديًا، ويستميل إليه أهم الكوادر. فهو من أولئك الذين إن أبغضوا إنسانًا دمّروه بلا رحمة. من دون أن تشعر، أفصحت عمّا في خاطرها وسألته:
“منذ متى بدأت تراعى أخلاقيات المهنة؟ هل أصبحت إنسانًا حقًا؟”
فأجابها، وهو يحتسي رشفة شاي ويرفع كتفيه:
“ليست أخلاقًا، بل حسابات. فأنا الطرف المتأخر، وأي خطوة هنا ستكون في غير صالحي. لذا أبحث عن مكان أمد فيه قدمي.”
نعم، لم يكن الأمر صفحًا عن مدير المعهد، بقدر ما كان قرارًا استراتيجيًا. ومع ذلك، فمن الطبيعي أن يفتر قلبه تجاه مسؤول يعيق ترقيته بعناد، بينما هو قد خاطر بحياته في رحلة لقتل من قتل والديه، حتى وإن كان قد جُر إليها قسريًا.
وضعت إستيل فنجانها بتنهيدة حزينة وسألت:
“إذن ستذهب بعيدًا.”
“أنوي الذهاب إلى غلاسيوم.”
“ماذا؟!”
فاغرت عينيها مندهشة حين سمعت اسمًا مألوفًا. فأوضح إدغار:
“مدينة بعيدة عن العاصمة، وفيها أناس ميسورو الحال، مما يسهل العثور على مستثمرين.”
“يا للغرابة! لكن… هل ستسير الأمور على ما يرام؟ لا أحد تعرفه هناك.”
“أينما ذهبتُ الأمر سيّان. لا وطن لي.”
ابتسمت إستيل ابتسامة مرتبكة عند سماع كلمة وطن، ثم ارتشفت شايها صامتة.
وكانت جادة في قولها. إذ إن ما ورثته من الساحرة العظيمة، إلى جانب ما منحها البلاط الإمبراطوري من مكافآت، جعلها تملك ما يكفي لتعيش مرفّهة طوال حياتها، بل وتُقرض الآخرين مرارًا.
“غلاسيوم إذن…” تمتمت إستيل ثم صفقت بيديها فجأة وقد تهلّل وجهها فرحًا.
“آه، سأعرّفك إلى صديقي. اسمه أروين، خبير في جمع المعلومات، وسيكون عونًا لك.”
“إن عرّفتني به، فسأكون ممتنًا.”
ابتسم إدغار ابتسامة هادئة، ثم كأنه قد عقد عزمه التفت إلى إستيل محدقًا فيها وقال:
“ازرعي جذورًا.”
ما الذي يقصده؟ أمالت رأسها حائرة، فأجابها بابتسامة مرة:
“أظن أن السبب في أنني عشت طوال الوقت بلا وعي ولا استقرار هو أنني لم أملك موطئ قدم أستند إليه.”
كانا كلاهما ممن فقدوا الأهل والوطن.
شعرت إستيل بأن في كلامه شيئًا ينفذ إلى قلبها، فأصغت في صمت.
راح إدغار يحدق في الفراغ كمن يسترجع ذكريات، وهمس:
“كان ينبغي أن أصنع لنفسي شيئًا جديدًا أشعر بالانتماء إليه. لكنني ضيّعت ذلك الوقت غارقًا في ألم الوحدة ومعذَّبًا بمرارة النجاة وحدي.”
قالت إستيل بهدوء:
“ولهذا أنت ذاهب لتصنعه الآن؟”
لم يخطر له ذلك من قبل. شرد ذهنه للحظة، ورسم بأصابعه على الطاولة أشكالًا بلا معنى. ربما كان حقًا ذاهبًا ليؤسس مؤسسة جديدة بدافع ذلك.
لقد عاش وحيدًا لزمنًا طويلًا، ربما شعر بالذنب لأنه نجا وحده، وبواجب ثقيل أن يعيش هكذا. والنتيجة أنّه صار ينظر إلى الدنيا بعين متحاملة، ويعيش حياة دنيوية باردة. لكن المفارقة أنّ ابنة الرجل الذي قلب حياته رأسًا على عقب كانت هي من قلبها مرة أخرى. مرة أولى، ثم ثانية. وهاتان المرتان أعادتا خط سيره إلى السكة الصحيحة.
ابتسم إدغار ابتسامة خفيفة وهو يربت بأصابعه على ركبته وقال:
“لهذا السبب أيضًا، وأني ضقت ذرعًا بالخضوع لتلك النخبة الأرستقراطية القذرة.”
“ومتى سترحل؟”
“اليوم.”
فقد كان عازمًا أصلًا على الرحيل، بعد أن يرى إستيل.
فمَن سواها يستحق أن يلتقيه بعد في هذه العاصمة؟
أجابها، فصمتت للحظة، ثم نظرت إليه بعينين مباشرتين وسألته:
“إذن سيكون من الصعب رؤيتك مجددًا، أليس كذلك؟”
تجهم قليلًا وقد فاجأه سؤالها. في الحقيقة كان يريد أن يقول لها: لا تأتي.
لأنّ رؤيتها تجعله يطمع أكثر، تجعله ينظر حتى إلى جوانب لا ينبغي له أن يريدها، وهو يعرف تمامًا أنه لا يستحق ولا يملك القدرة.
لكنه لو قال ذلك سيجرحها. فهي على عكسه، تحب القرب من الناس.
فتح شفتيه، ثم ابتسم ابتسامة خفيفة وقال:
“تعالي متى شئتِ. ما الذي يمنع؟ أليست زيارة ابنة الساحرة العظيمة أفضل وسيلة لجذب المستثمرين؟”
كان كل ما بقي له هو تلك المزحة التي ألقاها ذات مرة حين هدده المتعاقد، متظاهرا بأنها مغازلة لإستيل، ولم تكن أكثر من محاولة يبرر بها نفسه، لا هي اعتراف صادق ولا رجاء. حينها لم يكن ينتظر شيئًا، والآن أيضًا لا ينتظر.
كان عازمًا أن يتحمل العبء وحده.
ومع الوقت، ربما تبلدت مشاعره.
ابتسم ابتسامة باهتة وارتشف من شايه المر.
***
وبينما الحديث بينهما يطول، كان الغروب قد حلّ.
وعندما همّت إستيل بالركوب في العربة لتعود مع لوتشي إلى القصر، باغتها إدغار بالسؤال:
“قلتِ إنهم طلبوا أن تظهرين لهم كل بضع سنوات، كم كانت المدة؟”
“سنتين.”
ارتسمت على وجهه علامة عدم رضا. وبعد أن فكر لحظة، ألقى نظرة حذرة حوله وخفض صوته ناصحًا:
“أطيعيهم… لكن بالقدر المناسب فقط.”
“وما المقصود بالقدر المناسب؟”
“أي أن تبقي يقظة.”
لقد مر زمن منذ آخر مرة سمعت منه موعظة كهذه. كانت نصيحة واقعية خالصة، بعيدة عن طباعها؛ تحذير من أن تكون ساذجة فيسلبوها كل ما تملك.
ثم ألقى نظرة جانبية إلى فرسان البلاط الواقفين خلفها وهو مطبق ذراعيه وقال:
“الآن وقد رأوا أن لوتشي كائن لا يمكن السيطرة عليه، فلن يجرؤوا على كشف أطماعهم علنًا، لكنهم سيحاولون استدراجك برفق ليستغلوك بواسطتها.”
“أي أنك تقول إن شعرتُ أنني أخسر أكثر مما أطيق، عليّ أن أنسحب فورًا. حاضر، حاضر، فهمت.”
لقد حان وقت الرحيل فعلًا.
أخرجت إستثل جسدها من نافذة العربة ولوحت بذراعها في الهواء، ثم عادت لتجلس في الداخل. ابتسم إدغار ولوّح لها بدوره، وظل يراقب حتى ابتعدت العربة.
وحين غاب آخر أثر لها عن عينيه، استدار دون تردد، ورسم دائرة سحرية، ثم اختفى.
****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات