حين بدت إستيل مترددة، اقترح عليها سيدريك بلهجة حازمة:
“لنعد ونرى.”
“لا أدري…”
كان جوابها فاترًا، وعلى ملامحها ما يدل على أنّ في قلبها ما يثقلها، فآثر سيدريك أن يتراجع خطوة.
“على كل حال، أعلم أنّك كثيرة التفكير. وأظنّك قد أمعنتِ النظر أيضًا في ما يحمله زواجنا من أهمية عظمى.”
كان صوته ينطوي على شيء من الغصّة.
فأخرجت إستيل شفتها ساخطَةً وهمست:
“يا لجبنك.”
فابتسم هو وقال:
“على أي حال، ما دمتِ مشغولة بالأفكار الكثيرة، فسأجعل لك من الأمر ما لا يترك لك وقتًا للتفكير.”
‘ما هذا الكلام؟ هل سمعتُ خطأ؟’
رمشت بعينيها في دهشة، فانحنى هو قليلًا حتى تلاقت نظراتهما، وابتسم بمكر.
“لقد انتهى دوري الآن، وحان دوركِ أنتِ.”
“ماذا؟”
“غدًا حين تستيقظين ستفهمين.”
‘لماذا؟ ما الأمر؟ ألا يمكنه أن يخبرني مسبقًا…؟’
إلا أنّه تجاهل القلق الذي بدا في عينيها المترجرجتين، وأومأ برأسه مشيرًا أن تمضي معه.
مالت برأسها حائرة، ثم انساقت خلفه على نحو طبيعي.
‘لا بأس. حين أستيقظ غدًا سيتضح الأمر. والآن، ما جدوى أن أرهق نفسي بالفضول؟’
هزّت إستيل كتفيها ثم أسرعت راكضة نحو القصر.
***
وكان ما قصده سيدريك بـ “عملك” هذا بالذات.
في صباح اليوم التالي، أُدخلت إستيل إلى مكتب، فما إن وقع بصرها على كومة من الأوراق تعلو قامتها وهي جالسة، حتى رمشت بدهشة.
تمتمت ببطء:
“إذن، كل هذا…………؟”
“نعم، إنها دعوات يا آنستي. وقد صنّفتها بحسب النوع. هذه اجتماعية، وتلك استثمارية، وتلك للبحث والدراسة. ستقرئينها وتجيبين بما تشائين.”
‘هل يمكن إنجاز هذا كلّه اليوم؟’
حدّقت إستيل في ركام الدعوات المتراصّات، عاجزة عن الكلام. وكأنّ رئيسة الخدم كانت تتوقع ردّها، فلم تحاول مواساتها، بل مضت تقول:
“أعددتُ لك نموذجًا لجواب معتاد كي تأخذي فكرة عنه. لكن لا حاجة لأن تقلّديه. فبما أنّك ابنة الساحرة العظيمة فالناس قد يسرّهم جواب حرّ الطبع أكثر من جواب رسمي متكلّف.”
‘أهؤلاء الذين أرسلوا الرسائل مجانين؟’
عقدت إستيل حاجبيها وسألت:
“وأمّي، كيف كانت تجيب؟”
تنهدت رئيسة الخدم قليلًا تسترجع ذاكرتها، ثم استأذنت وخرجت، لتعود بعد دقائق حاملةً بعض الرسائل، وقدمتها إلى إستيل.
“هذه حصلتُ عليها بعد أن سألت سيدتي. ويبدو أنّها تبرّعت بالعديد منها إلى دار المحفوظات.”
“دار محفوظات؟”
“نعم. يبنى منذ عشر سنوات، وسيُفتتح قريبًا. وقد تُعرض فيه منجزاتك أنت أيضًا…”
“آه… لا، لا أريد أن أعرف. شكرًا لك على كل حال.”
‘يا لثِقله…’
تمتمت إستيل وهي تمسح عرقًا بارداً، ثم جلست منهارة على الكرسي وهي تتأمل الرسائل.
لقد اعتادت أن ترى رسائل أمها إليها في هيئة مذكرات قصيرة، فكيف كانت تكتب للآخرين؟
[على ماذا تتشاجران أنتما الاثنان؟ كفى. إن تراجعت فسوف أقطع معصمك. احسم الأمر بنفسك.]
[سأزوركم في اليوم الثالث من الشهر.]
[لا تضيّع وقتك بالسؤال، افعل ما يحلو لك.]
فرغت إستيل من قراءة ثلاث رسائل في لحظة واحدة، فرمشت بدهشة.
‘يا لاقتضابها الشديد…’
وحين انتقلت إلى الرسالة الرابعة انفجرت ضاحكة.
إذ لم تكن رسالة جديدة، بل سطرًا وحيدًا كُتب أسفل رسالة إيزابيلا على الورقة ذاتها. فظهرت أمامها رسالة مطوّلة من إيزابيلا، وتحتها بخط الساحرة العظيمة:
[ولِمَ كلّفكِ ذلك الأحمق بهذا؟ إن أراد الدعوة فليفعلها بنفسه. ثم إني ما كنتُ لأقبل بدعوة من رجل لا يملك شجاعةً يرسلها بنفسه.]
يبدو أن أحدهم – وهو على معرفة بصلة بين إيزابيلا والساحرة العظيمة – طلب منها أن ترسل الدعوة بدلاً عنه.
‘إذن هكذا كانت أمي تكتب…’
أما الرسائل التي وجهتها إليّ فقد كانت طويلة على غير عادتها. وخطر ببال إستيل فجأة المذكرات التي أحرقتها في جزيرة السجن… لو أنّها سلّمتها إلى دار المحفوظات، لجنّ المؤرخون فرحًا.
‘إذا كان من الممكن الكتابة بهذه البساطة، فالأمر ليس عسيرًا إذن.’
شدّت ساعديها إلى أعلى، وأشعلت في عينيها بريق التركيز.
وفي المساء، طرق سيدريك باب مكتبة إستيل، فإذا بها قد استنزفها الجهد حتى بدت نصف غائبة، فما أن رآها حتى انفجر ضاحكًا من غير قصد.
كانت الرسائل ما تزال مكدّسة لم تُجب عنها كلها، غير أنّ رزمة لا بأس بها من الردود قد أعدّتها بالفعل.
جلس سيدريك على الأريكة في وسط المكتبة، ورفع حاجبيه سائلًا:
“كيف ترين الأمر؟”
“إنه عمل شاق حقًا. حتى لو كتبتُ جملة واحدة لكل رسالة…”
“وماذا عن الطعام؟”
“لم آكل بعد.”
“فلنذهب إلى المائدة.”
رفعت إستيل رأسها بوجه مرهق وقالت:
“لكنني لم أنتهِ من هذه بعدـ”
“آه، ألم أخبرك؟ لستِ مضطرة للرد على جميعها.”
‘ماذا يعني؟’
حين لم تدرك إستيل ما يجري ورمشت بعينيها، ابتسم سيدريك وأجابها:
“إن لم يأتِ جواب، فالأمر ببساطة أنهم لن يأتوا، وننهي المسألة.”
“لكنّك لم تقل ذلك من قبل؟”
“على كل حال، لقد قضيتِ وقتك على نحو مجدٍ، أليس كذلك؟”
‘كان يقصدها… تعمّد ألّا يخبرني.’
شهقت إستيل وهي تمسك مؤخرة عنقها، ثم أشارت إليه بإصبعها:
“أهذا احتيال أم ماذا؟”
“هيا، هيا. لنذهب إلى الطعام.”
تفادى إصبعها كما لو كان يتوقعه، وفتح الباب مشيرًا أن تخرج معه.
‘لقد خدعني. انطلت عليّ نزاهته التي يُظهرها عادة… هاه، كم تعبت بلا داعٍ!’
وبينما كانت تتمتم متذمرة، سألها سيدريك:
“هل كان هناك مكان ترغبين في زيارته؟”
“لا، ليس كثيرًا. إنما هذه الرسائل أثقلتني. أشعر أنهم يبالغون في تقديري.”
ابتسم هو ابتسامة ساخرة، وكأنّه يفهم تمامًا. بدا على وجهه الملل من هذا النوع من المديح المتكلَّف الذي اعتاد عليه حتى السأم.
“مهما يكن، فأنتِ عظيمة حقًا، لكن من الطبيعي أن تشعري بالثقل. خذي وقتك، بل يمكنك أن تتجاوزي هذه المناسبات الاجتماعية كلها إن شئت، فلستِ مضطرة.”
‘أهكذا إذن…’
كانت العبارات المبالغ في تمجيدها داخل الرسائل تبدو لإستيل غريبة وغير واقعية. لم تنكر أنّها أنقذت العالم، لكن أن تسمع المدائح تتدفق من ألسنة طبقة كانت تحتقرها حتى قبل أشهر، فهذا ما جعلها تضيق ذرعًا.
وحين نظر سيدريك إلى الوقت، أنهى كلامه بلهجة حاسمة:
“من الغد لن نستقبل مزيدًا من الرسائل.”
“بعد يوم واحد فقط؟”
“إن كان الأمر لا يناسبك، فالأجدر أن تتوقفي بسرعة. ثم كما قلت، لستِ بحاجة إليها أصلًا.”
‘إذن، لن يكون عندي عمل بعد الآن؟’
رفعت بصرها نحوه وقد ارتسم بريق أمل في عينيها، وسألته:
“فماذا عن الغد إذن؟”
“سنقضي نحو أسبوع في التنزّه. في الحقيقة، كنتُ خارج القصر اليوم لترتيب هذا.”
‘لماذا أسبوع كامل؟’
لم تُطل التفكير في السؤال، وأومأت موافقة.
‘خير لي أن أنشغل باللعب على أن أنهك نفسي بالعمل…’
***
في صباح اليوم السابع منذ أن بدأ سيدريك يصحبها للهو، لم يكن لدى إستيل أي رغبة في مغادرة غرفة نومها.
اليوم الأول كان ممتعًا خالصًا. حتى أنّها فكرت: لو أعيش هكذا بقية حياتي لكان رائعًا. لكن في اليوم الثاني بدأ التعب يتسلل إليها. كانت ما إن تضع رأسها على الوسادة حتى تغيب عن وعيها إلى الصباح التالي.
أما سيدريك، فقد ظلّ على جديته حتى في الترفيه. فعرفت إستيل لأول مرة أنّ “اللعب” يمكن أن يكون له خطة! كان يأخذها من الصباح بعد أن تتزين وتهبط بخطوات سريعة، فيمسك يدها، ومن تلك اللحظة لا يعرف برنامج يومهما توقفًا. لم يكن قوله “سأجعل لك ما لا يترك لك وقتًا للتفكير” مجرد مزاح. لم تملك وقتًا للتفكير ولا حتى طاقةً لذلك؛ كلما حاولت التفكير بجدية في وضعها، اجتاحها النعاس كالعاصفة.
فالتفتت إلى الخادمة التي ساعدتها على ارتداء ثيابها وسألتها بوجه جاد:
“ألا يمكنكِ أن تقولي له إنني لست موجودة؟”
“هذا صعب يا آنسة…”
“آه، لا رغبة لي بالخروج اليوم. وأين سيدريك؟”
“لقد خرج الفجر على عجل.”
‘همم؟ إذن ليس عندي من أتحجج أمامه…’
لمعت عيناها، وهمّت أن تقول بحماس: “إذن سأنام من جديد!”، لكن الخادمة أضافت بتردّد:
“لكن اليوم لديكِ موعد مع أصدقائك…”
“أصدقاء؟”
‘هل لي بأصدقاء في العاصمة؟’
تذكرت أنّها تعرّفت إلى بعض الأشخاص عبر حوادث متفرقة، لكن النبلاء عادةً لا يسمّون هؤلاء “أصدقاء”. بينما كانت تفكر جديًا في الأمر، أجابت الخادمة بنبرة مترددة:
“نعم، لأن اليوم هو موعد إعلان نتيجة التحقق الإمبراطوري بشأن التنانين. وبما أنك ستذهبين إلى القصر، فمن المقرر أن تمرّي أيضًا على معهد السحر…”
“آه!”
‘إنه إدغار!’
هبّت إستيل واقفةً وقد ارتسمت ابتسامة مشرقة على وجهها.
“إذن عليّ أن أخرج. سأستعدّ حالًا.”
‘إذن لدى سيدريك بعض الضمير أيضًا. لم يُرهقني سبعة أيام متواصلة.’
رفعت إستيل جسدها بخفة، وما زال على شفتيها ذلك البريق المشرق.
كانت هذه أول عودة لها إلى القصر الإمبراطوري منذ زمن طويل. صحيح أنّ سيدريك تولّى عنها كثيرًا من الأعمال، لكنها حضرت أحيانًا بنفسها إلى اجتماعات مع البلاط والنبلاء. ومع ذلك، أن تقف هنا بعد أن انقطعت لفترة، بدا لها غريبًا كأنها تزور مكانًا جديدًا.
وما إن نزلت من العربة حتى سمعت صوتًا يكاد يبكي يناديها:
“إســـتتييلل!!”
التفتت نحو مصدر الصوت، فرأت لوتشي مرفوعة عن الأرض تتخبط بين يدي الحرس. فما إن قطبت حاجبيها آمرة بإنزالها، حتى جمد الجنود في أماكنهم ثم أنزلوها بسلام.
هرعت لوتشي نحوها وارتمت في حضنها.
“أوووه! افتقدتكِ كثيرًا!!”
“نعم، نعم. وأنا أيضًا…”
“هؤلاء البشر مزعجون!! يلحّون عليّ بالأسئلة، ويطلبون أن أغيّر شكلي، أو أُظهر قوتي.”
“آسفة، آسفة. إنها إجراءات لا بدّ منها لتعيشي بيننا. لكن لن يزعجوك بعد الآن.”
والحق أنّه كان ينبغي عرض حالتها في القصر كلما بلغت مستوى نموّ جديد… لكنها لم تشأ أن تزيد الطين بلّة، فاختلست بصرها بعيدًا عنها وكذبت. غير أنّها تجمّدت للحظة.
‘آه، نسيت… لوتشي قادرة على قراءة الحقيقة.’
“ماذا؟ يجب أن آتي مجددًا؟”
“………”
“أهذا صحيح؟”
‘عيونها الفاحصة هي المصيبة…’
ترددت إستيل عاجزة عن إعطائها جوابًا قاطعًا، لكن فجأة شعرت بحضور أحدهم خلفها، فاستدارت بسرعة.
وهناك، تحت الشمس الساطعة، تلألأت خصلات شعر وردي عرفته في كل أحواله: مبتلًا بالماء، أو مغطّى بعاصفة رملية.
ولما التقت العيون، ابتسم الرجل ولوّح بيده قائلاً:
“مرحبًا.”
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات