لو كان الأمر في موقفٍ عادي، لما كان من الغريب أن تتعالى صيحات الاستهجان، لكن الطرف المقابل كان العائلة الإمبراطورية. أولئك الذين تفلت منهم آهة استياء من غير وعي سرعان ما تنبّهوا، وأخذوا يصفقون على عجل. غير أنّ التنهدات المثقلة بالضجر التي انسابت رغماً عنهم لم يكن بالإمكان كتمها.
ورغم أنّ الحضور تفاعلوا بما يكفي لإبقاء الجو متماسكاً، إلا أنّه ظلّ ملتبساً مشوشاً. في تلك الأجواء الغريبة، تم تسليم لقب المتركيزة بالوكالة إلى سيدريك، الذي تمتم قائلاً:
“لم يسبق أن شهدتُ أجواء كهذه.”
فأجابه آخر:
“أما ترى أن الأمر بلغ حدّاً لا يليق؟”
وقال ثالث:
“لقد أرهقتموها كثيراً. كنت أراها قبل لحظات تتلفت بعينيها في كل اتجاه، فما إن غفلت لبرهة حتى……….”
عندها خطر ببال سيدريك وجه إستيل الذي رآه آخر مرة.
وجهٌ بدا كأنها ستتقيأ في أية لحظة. ولعله كان أجدر بها أن تهرب، بدل أن ترتكب حماقة تحت وطأة توترها.
لكن الإمبراطور وكأنه يرد على خواطره، أطلق تنهيدة وقال:
“لا بد أن تُكشف ملامحها عاجلاً أم آجلاً. أتدري كم خداعاً باسم الزواج وقع في هذه الأيام القليلة، من أدعياء يزعمون أنهم أبناء سريّون للساحرة العظيمة؟ قد يكون الأمر مرهقاً، لكن لا سبيل للفرار منه.”
ولمنع المزيد من الضحايا، كان لا بد من إظهار الحقيقة ولو جزئياً. وكما قال الإمبراطور: لا يمكن التهرب إلى ما لا نهاية.
أطرق سيدريك برأسه، وأجاب بعد زفرة خفيفة:
“سأحاول إقناعها.”
قال الإمبراطور عندها:
“حسناً يا لورد، ولكن… متى ستُعقد الخطبة؟”
صرّ سيدريك عنقه، وكأن وقع السؤال كان عليه كالصاعقة، وارتجفت عيناه الزرقاوان بلا هوادة، كمن سمع للتو نبأ عودة شيطانٍ من موته.
“مـ، مـ، ماذا؟!”
“ألم يكن هذا متفقاً عليه؟”
راح الإمبراطور يستعيد في ذهنه الأحاديث التي تبادلها مع سيدريك بشأن إستيل. لقد كان الرجل يتحدث باسمها أكثر مما تفعل هي نفسها. وكان ذلك طبيعياً، فإستيل لم تكن ملمة ببلاط العاصمة ولا بأعراف النبلاء، وكان سيدريك خير من يمثلها. لكنه أيضاً كان ملتصقاً بها حدّ أن يخيّل للناس أنهما قد ارتبطا بالفعل. فهل كان مخطئاً في ظنه؟
وبينما غرق في تفكيره، وقعت عيناه على ملامح سيدريك المشوّهة بالحرج، فتجهم، ثم تراجع خطوة عنه على عجل.
“انزل الآن. وجهك كوجه رجل صدر بحقه حكم إعدام.”
“أمرك.”
كان هذا يوماً ينبغي أن يكون مفعماً بالفرح، يومٌ طُويت فيه صفحة رعب طويل بعد أن فرت ابنة الساحرة العظيم. لكن ما بدا على وجه سيدريك وهو على المنصة لم يكن إلا قبحاً يثير النفور. تأمل الإمبراطور ظهر الدوق الشاب وهو ينسحب مسرعاً، ثم نقر بلسانه متنهداً:
“إنها أيامٌ سعيدة حقاً.”
وبالفعل… كانت كذلك.
***
أصبح هواء الصباح يزداد سخونة.
الشمس انسكبت على وجهها، لكنها تمددت على العشب مغمضة العينين غير آبهة، حتى أسدل ظلّ شخصٍ ما فوقها.
فتحت إستيل عينها ببطء، وابتسمت حين رأت صاحبه.
جلس سيدريك بجانب رأسها بتنهيدة ثقيلة.
“كيف تجرأتِ على الفرار؟”
“ألستَ أنت من قلت إن يجوز لي وحدي أن أهرب؟”
“ظننتكِ على الأقل ستخبرينني.”
“همم، خفت أن تمسك بي إن فعلت.”
‘أمامك أنا أفقد كل حذري….’
هكذا خطر ببالها وهي تضحك بخفة. أجاب سيدريك مبتسماً بسخرية:
“جلالته قال إنك لن تتمكني من الهرب طيلة حياتك. هناك ينتحلونك يخدعون الناس بعقود زواج كاذبة، ومكانتك الآن أهم مما تظنين، سواء أحببتِ أم كرهتِ.”
“أوه… نعم، صحيح.”
وبرغم فشلها في الفرار، إلا أن مراسم اليوم وضعت حداً لأعباء إستيل وسيدريك المتراكمة.
فمنذ زوال الشيطان، لم يُتح لهما وقت للراحة. من قضية إقطاعية آل بلانشيه المعلّقة، إلى مناقشة اللقب الذي ستُمنح إياه إستيل، إلى ترقية إدغار، وحتى مسألة مصير التنين الذي ظهر فجأة في تاريخ الإمبراطورية.
أحياناً كانت الأمور تُحل بالتراضي، وأحياناً أخرى كانت إستيل تغفل عن مواضع الخطر، فيغضب سيدريك بالنيابة عنها. كل ذلك انتهى اليوم.
تأملت إستيل الحديقة الهادئة وهمست:
“أمي وأبي… يبدوان ضعيفين أمامي أكثر مما توقعت.” ( أعتقد تقصد أهل سيدريك مو ايلين وتريستان )
فأجاب سيدريك مبتسماً:
“أغبطك على ذلك.”
ذلك أن المكان الذي تمددت فيه كان حديقة دوقية إيرنيست.
وبرغم أن ابنتهم العائدة المفاجئة كانت تستعد لتسلّم لقبها، إلا أن إيزابيلا وميكاييل لم يلبثا أن خصصا لها مكاناً لتستريح فيه.
لقد أقامت هنا منذ شهر، ولذا لم يتفاجأ سيدريك، بل قصد المكان مباشرة ليجدها. جلسا معاً يسترجعان ما مضى.
“أما بشأن مكافأة إدغار…”
“عُرضت عليه الترقية واللقب الأعلى، لكنه رفض كل ذلك، واستقال من معهد السحر متعهداً بتدريب الأجيال الجديدة. اكتفى بالدعم المالي.”
“ولوتشي؟”
“كادت أن تُنتزع للعرش، لكني حال دون ذلك. أتدري كم ثرت حينها؟”
لم يكن سيدريك ممن يعارض الإمبراطور عادة، لكنه يومها لم يتردد في مواجهته بقسوة. إذ حين قال الإمبراطور إنه يريد التنين لخدمة الدولة كسلاح حرب، تجمدت ملامح سيدريك وصارت باردة كالثلج.
“ذلك المخلوق ربته الساحرة العظيمة بيديها. إن كان ثمة مالكٌ شرعي له، فهي الساحرة العظيمة لا غير.”
أعقد القضايا وأكثرها تشابكاً كانت تلك بالذات.
ومع ذلك، انتهى الأمر إلى حلٍّ حسن. أطلق سيدريك تنهيدة قصيرة، وأكمل قائلاً:
“قالت العائلة الإمبراطورية إنها ستكتفي ببعض الفحوصات البسيطة ثم تطلق سراحها فوراً. ستصل إلى هنا خلال هذا الأسبوع.”
قالت إستيل مبتسمة براحة:
“إذن، انتهى كل شيء فعلاً.”
وكأن ما سمعته بالأمس عن ضرورة إنقاذ العالم كان وهماً، فقد أنجزت المهمة، بل ووصلت حتى إلى مرحلة إنهاء تبعاتها.
تسللت ببطء لتلقي نظرة على سيدريك الذي كان يومئ بصمت، ثم همست:
“فلنتحدث عن أمرنا نحن قليلاً الآن. أجلناه كثيراً.”
وما إن سمع ذلك حتى انتفض سيدريك كمن أصابته صاعقة، وابتعد عنها غريزياً.
ذلك كان بالضبط ما أقلقه وأربكه لعدة أيام. فمنذ الفجر وهو يُستدعى إلى القصر الإمبراطوري لحضور اجتماعات متواصلة بشأن قضايا متصلة بإستيل، وإذا عاد منهكاً في المساء، لم تكن تنتظره راحة، بل كانت تنتظره مشكلته الأخرى… معها.
وبعد تردد قصير قال:
“بصراحة… لا أفهم ما الذي تعنينه.”
“هل هو صعب الفهم؟ كنت أظن أني عبّرت ببساطة. قصدي… إن كنتَ لن تمتنع عن الزواج، فالأفضل لك أن يكون بي، فهذا أأمن لحياتك.”
حدق فيها مذهولاً، ثم ابتلع ريقه جافاً، متأملاً وجهها الذي بدا وكأنها لا تفهم أين الغرابة في كلامها.
“……………أنتِ تزدادين شبهاً بأمك يوماً بعد يوم.”
“هذه إهانة.”
“لن أُنكرها على الأقل.”
وتذكر سيدريك أول مرة سمع مثل هذا الكلام منها.
متى كان ذلك؟ ربما في إحدى الليالي الطويلة التي قضاها وهو يكدح في قضايا الميراث.
كانت تجلس بجانبه تغالب النعاس، متكئة على يدها، ثم تمتمت بضعف:
“لستَ مضطراً لبذل هذا الجهد كله.”
فأجابها:
“ما دمتُ سأقوم بالأمر، فليكن كما يجب.”
فابتسمت حينها وقالت:
“نعم… هذا طبعك. سيدريك هو……”
ثم تثاءبت بوسْع فمها، وضربت وجنتيها براحة يديها لتطرد النعاس، ثم أشرقت ضاحكة وهي تضيف:
“آه، لا، بل اجتهد كما تشاء. على كل حال، أغلب الظن أن هذه الأملاك ستؤول إليك في النهاية.”
“……ماذا قلتِ؟”
“سنتزوج، أليس كذلك؟ على الأرجح.”
سقط قلمه من يده وارتطم بالأرض متدحرجاً.
نظرت إليه إستيل بدهشة ولوّحت أمام وجهه بيدها.
“أه… سيدريك؟ هل تسمعني؟ هاي! ما بالك؟!”
أما هو، فلم يتذكر شيئاً بعد تلك اللحظة.
القول الشائع إن الصدمة الشديدة قد تمحو الذاكرة تبيّن أنه صحيح. فقد كانت كلمتها آنذاك توقعاً عابراً وسط ظروف مهلكة، حيث كان العالم مهدداً بالزوال، ومع ذلك كان وقعها أشد تأثيراً مما ظن.
لكن اليوم، وبعد أن أنقذا العالم، عادت إستيل تكرر كلامها المرة تلو الأخرى، ليس على سبيل المزاح، بل بجدية، وكأنها تنصح وتخطط لمستقبل. عندها استشعر سيدريك يقيناً:
‘هذا أمر لا يخضع لمنطق العوام.’
لا، بل هو فوق حدود المنطق العادي، لا دونه.
كان يجب أن يستوضح منها أكثر يومها، لكن المشاكل كانت تنفجر يوماً بعد يوم؛ من خلافات الإرث، إلى النزاعات السياسية. إذ من الطبيعي أن يتعقد الوضع حين يظهر وريث غير متوقع لأسرة اعتُقد أنها اندثرت. والأسوأ أنّ والد إستيل نفسه كان متورط في كثير من القضايا المعقدة.
وفوق ذلك، انتشرت إشاعة لا يعرف مصدرها:
أنّ ابنة الساحرة العظيمة قد نشأت بين العامة، فلا تعرف من أمر الدنيا شيئاً. فتدفقت عليها المطالبات من كل صوب، بعضها غريب عجيب. بل وذات يوم وصلت رسالة من إحدى الأسر النبيلة الأجنبية التي كانت الساحرة العظيمة قد دخلن معها في خصومة، تطالب بتعويض من ابنتها! وكان ذلك فوق احتمال سيدريك.
فقالت إستيل ببساطة:
“سيدريك يبدو مرهقاً جداً… ألا يمكننا أن ندفع لهم ما يريدون وننتهي؟”
فرد عليها بحدة:
“إن كنتِ تتمنين أن نُطرد من بيوتنا حفاةً معدمين، فذاك حلٌّ مناسب.”
لقد كانت حقاً تتكلم أحياناً كما لو لم يكن لها أدنى إدراك بأمور الدنيا، مما أرهقه وأحرق أعصابه.
حتى هو الذي لم يعرف الكسل في حياته يوماً، كادت تكسر ظهره تلك الأعباء. ومع ذلك، لم تكن الذكرى كلها سيئة، إذ كانت إستيل وقد شعرت بما يعانيه، تمد له يد العون أحياناً وتراعيه خفية.
لكن كل ذلك لم يكن جوهر المشكلة.
عاد سيدريك إلى وعيه، وزفر قائلاً:
“قد تكون كل الأمور واضحة في رأسك، لكنك لستِ إنسانة عادية حتى تنظري إليها بهذه البساطة.”
“غير عادية؟ هل سرق أحد شيئاً؟”
‘قصدي أنّك لستِ شخصاً عادياً…’
ثم تمتم وهو يحدق فيها:
“على كل حال، لماذا جئتِ بهذا الاقتراح أصلاً؟”
جلست قربه بعد أن كانت تتقلب على العشب، وراحت تهز قدميها بخفة، قبل أن تبدو جادة فجأة، وتنطق بحزم:
“باختصار ودون لفّ ودوران… إن تزوجتَ من غيري وأنجبت أولاداً، فسيدريك وزوجتك وأبناؤك جميعاً سي……”
توقفت قليلاً، وأدارت عينيها مترددة، ثم تابعت ببرود مصطنع:
“قد ينتهي بكم الأمر في السماء… وبطريقة مؤلمة أيضاً.”
*******
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات