وكأن كلماتها لا تحمل أي غرابة، أمالت إيلين رأسها هامسة:
— “من البداية كان حال علاقتنا هكذا، أليس كذلك؟ أنت من تبعني، وأنا من جذبتك إليّ……….”
آه، نعم… هكذا كان الأمر فعلًا. على امتداد حياتهما كلها، كانت العلاقة دائمًا على ذلك النحو.
الساحرة العظيمة التي تبصر المستقبل الذي لا يراه أحد، فتتقدّم بخطى ثابتة، وهو يلهث خلف أثرها.
كم مرة صَدَّته، ومع ذلك ظل يتبعها كما لو كان مدفوعًا بقوة لا تُقاوَم، مثل فرخ بطة منقوش في فطرته أن يتبعها.
— “إذن، هذه المرة أيضًا يجب أن يكون الأمر كذلك يا تريستان.”
— “…….”
— “لا أن أُسحَب إليك…”
بإصبعها الذي وخز صدره النازف بدمه كما لو في مزحة، شددت على ملامحها الباردة وهي تأمره:
— “بل أنت، أنت من يجب أن يأتي إليّ.”
‘آه… الآن فهم.’
ارتخت ملامح تريستان كأن اليقين أنزل الطمأنينة عليه.
الشيطان الذي أدرك ما يجول في ذهنه أخذ يصرخ بجنون وينشر سحره في كل اتجاه. دوّى صوته الغاضب يتردد صدًى:
— “أنت… غيرت رأيك! كيف تجرؤ… كيف تجرؤووو…!”
القيود المصنوعة من القوة المقدسة تراخت. لم يكن السبب أن الشيطان قد تخلص منها بنفسه، بل كان الأمر أقرب إلى أن سجناً آخر قد امتصّها.
ارتجفت عينا إستيل حين وضعت يدٌ كبيرة على رأسها. كان وجه أبيها أمامها، وجهه كما كان في الماضي. الوجه المشرق الذي ملأ طفولتها قبل أن تعيد الساحرة العظيمة إليها ذكرياتها، وجهه المليء بالمرح.
شعرت كأنها عادت إلى الماضي، مع أنها تعلم أن الرجوع مستحيل وأن ما ينتظرها ليس إلا وداعًا فاجعًا.
والدها أدرك كل شيء، هز رأسه نافيًا وألقى عليها كلماته:
“شكرًا لأنك كبرتِ بخير.”
“ماذا… ماذا تنوي أن تفعل…؟”
“إن حاول أحد أن يستخدم اسمي ليجرحك، فقولي إنك أنتِ من قضى عليّ بيديكِ. امحي هويتك كابنتي، وعيشي فقط كابنة الساحرة العظيمة.”
أومأت بلا وعي، وهي تحدق فيه بحيرة. وفوق رأسيهما، بدأ الشيطان يذوب دخانًا أسود صارخًا وهو يُسحب إلى عينيه.
إرادة العاقد اصطدمت بإرادة الكيان الذي اتخذه وعاءً.
العقد الذي لم يُنهَ صار قيدًا يكبّل الشيطان بدلًا من أن يحرره.
وسط ذلك المشهد الغريب، ابتسم تريستان ابتسامة باهتة وأضاف:
“واجهي القصر الإمبراطوري دومًا برأس مرفوع. دم الساحرة العظيمة يجري فيك، وسيكونون هم الأشد حرصًا على ضمّك.”
“لماذا… لماذا تقول كل هذا فجأة…؟”
كأن ذكرىً ما خطرت له، تلطف وجهه وهو يمسح شعرها بلون شعره نفسه وقال:
“وعندما ترسمين دوائر السحر… لا تعقديها. أبقي فقط على الجوهر.”
اتسعت عيناها وقد أدركت قصده. ابتعدت خطوة، ثم رفعت يدها في الفراغ. لم ترسم الدائرة التي اعتادت عليها، بل استحضرت الدائرة المدمِّرة التي علّمتها لها أمها.
لم تفصل بين الشيطان والعاقد، وشرعت بترتيل كلمات التفعيل.
ترددت قليلًا، ثم سألت بصوت مبحوح:
“هل هذا… ما تريده؟”
تنفس تريستان بصعوبة، والشيء المحشور داخله ينهشه. ومع ذلك، ابتسم:
“أريد أن أنهي الأمر… بالطريقة التي أرادتها إيلين.”
وبينما تتصارع مشاعرها، وضعت إستيل يدها على الدائرة. وقبل أن تختم كلمات التفعيل بنقطة النهاية، نظرت إلى أبيها الذي كانت دماء سوداء تتساقط من عينيه، وهمست:
“…… وداعًا.”
ابتسم بضعف، ثم أغمض عينيه.
الآن… حان وقت النقطة الأخيرة. ضغطت بإصبعها المشحون بالقوة السحرية على آخر كلمة.
طَق.
كل شيء انقطع. عمّ السكون. المطر الناري المتساقط من السماء، والمروج المشتعلة، وحتى هدير الأرض… توقّف كله.
ثم دَوَّى صوت انهيار بعيد. ومعه سقط جسد أبيها المتهاوي أمامها.
— “هذا… هذا لا يمكن! لا يعقل أن ينتهي بهذا العبث! أنتي، أيتها الوغدة… أنتييي…!”
جسد المتعاقد يذوب في الظلال، بينما تصرخ الروح الحاقدة عالقة في الدائرة مفككة بلغة سحرية لا تُفهَم. خوفًا من تلاشيها، أخذت تصرخ بجنون.
تحولت الصرخات إلى عويل، والعويل إلى لعنات، ثم إلى همسات، حتى خبت تمامًا.
إستيل وقد استمعت ببرود إلى الصوت الذي يذبل، ابتسمت بسخرية وهي تراقب بقايا الظلال تتلاشى:
“عُد إن استطعت… فأنت أصلًا لن تعود.”
صار خبر أنها أبادت شيطانًا حقيقة. لكنها، حين تعود، ستنقل ما جرى هنا في صورة أقل من حجمه بكثير.
لتغطيه السخرية: أن الأمر لم يكن شيئًا يُذكر. كي لا يبقى للشيطان ما يتغذى عليه من خوف. كي لا يتكرر أن تُباد أرض كاملة، أو أن تنهار عائلة بأكملها تحت وطأة الوهم والفساد.
صفا لون السماء إلى زرقة نقية. اختفى تمامًا الصوت الذي كان يلعنها ويتوعدها. النيران التي غطّت السهول خمدت من تلقاء نفسها، تاركة وراءها دخانًا فقط.
ثم عادت القوة المقدسة، وقد فقدت ما كانت تقيد، إلى أصحابها.
فنهض رجلان كانا بالكاد يستعيدان وعيهما، ومعهما التنين الذي ظل يحرسهم بصمت.
“إسـ…”
“تمهّلي.”
أوقفها سيدريك وهو يمسك مؤخرة عنق لوتشي، التي كانت قد تحولت إلى هيئة فتاة وهمت بالركض نحوها، ثم أدار نظره إلى ظهرها.
كانت جاثية على ركبتيها، ساكنة بلا حراك، تحدق فقط في الموضع الذي كان يقف فيه والدها.
تحركت شفتاه قليلاً وكأنه همّ بالكلام، ثم أغلقهما دون أن ينطق.
لقد أنجزت للتو فعلاً لا يستطيع أحد غيرها أن يقدم على مواساتها فيه. عندها قال إدغار لسيدريك الذي لاذ بالصمت:
“……لعل من الأفضل أن نتركها وحدها قليلاً.”
“فلنفعل.”
ارتجف ظهرها الملفوف بالعباءة الضخمة، ثم تلا ذلك صوت مكتوم للبكاء، أشبه بطفلة صغيرة فقدت والديها إلى الأبد وتحاول جهدها أن تكتم نحيبها.
وقد تظاهروا جميعاً بأنهم لم يسمعوا شيئاً.
***
الفصل الثامن: النقطة الأخيرة
سيُذكر ربيع السنة العاشرة بعد وفاة الساحرة العظيمة كوقت غريب بعض الشيء في ذاكرة الناس.
في ساعة قريبة من الفجر، أيقظت أصوات مفاجئة الناس من نومهم. كان صوتاً أشبه بقرع الطبول يتردد فوق الشوارع التي كان من المفترض أن تغشاها السكينة. ثم دوّى بعده صوت صاخب يجلجل:
“لقد أُبيد الشيطان—!!”
فتح الناس نوافذهم بوجوه نصف نائمة ليتأكدوا مما يجري، وتبادلوا النظرات فيما بينهم، وقد ارتسمت على وجوههم ملامح توحي بأنهم غير واثقين؛ أهو حلم؟
ولهم الحق في ذلك. فكيف لخبر جلل كهذا أن يُعلن بطريقة تبدو هزيلة كهذه؟ ثم من هؤلاء الذين يصرخون في الشوارع بدل أن يصدر إعلان رسمي؟
وكان أول خاطر تبادر إلى أذهانهم:
“أحقاً هذا صحيح؟”
وكان الجواب كامنًا في زيّ من يذيعون الخبر. إذ سرعان ما تبيّن الناس أنهم يرتدون زيّ الحرس الملكي المكلّف بحماية العائلة الإمبراطورية. عندها فكروا، وأعينهم ما زالت يثقلها النعاس: “حقاً إذاً… لكن مهما كان الأمر عظيماً، ما الداعي لإيقاظ الناس في منتصف الليل؟ وعلى أي حال… كيف أُبيد الشيطان بالضبط؟”
لكنهم لم يجدوا فرصة لطرح الأسئلة، إذ مضى الجنود مسرعين تاركين ورائهم سكوناً ثقيلاً. عندها تسرّب خاطر آخر إلى عقول الناس الواقفين مذهولين:
“أيعني هذا أن الشيطان لم يكن شيئاً عظيماً حقاً إذا كان قد هلك بعد عشرة أعوام من الختم فقط؟”
ولم يعلموا قط أن مثل هذا التفكير البسيط أسهم مساهمة عظيمة في تثبيت حقيقة زوال الشيطان.
هكذا أُعلن في ذلك الربيع أن الشيطان قد أُبيد نهائياً. وبعد إعلان مباغت كالصاعقة في ظلمة الليل، لم يصدر البيان الرسمي إلا في صباح اليوم التالي.
فقد صرّحت العائلة الإمبراطورية بأن من تمكّن من إعدام الشيطان ــ الذي لم يستطع حتى الساحرة العظيمة إبادته ــ لم تكن سوى ابنة الساحرة العظيمة نفسها، وأعلنت أنها ستمنحها المكافأة اللائقة بمقامها.
وفي لحظة، تركزت أنظار الجميع نحوها. كان معروفاً أن الساحرة العظيمة قد تزوّجت، لكن أن يكون لها ابنة؟ لقد كان الأمر صاعقاً.
اشتعلت الإمبراطورية بأسرها، وظهرت فجأة عشرات “الأبناء غير الشرعيين” لأسر النبلاء يدّعون أنهم هم تلك الابنة، وانطلقت موجة من التكهنات والجدل العارم.
أما البلاط الإمبراطوري فلم يرَ حاجة إلى التدخل، إذ أن استيل كانت على وشك أن تُمنح لقباً رسمياً علناً في المهرجان القادم، ولم يكن بوسع أي أحد انتحال شخصيتها طمعاً في مكاسب غير مشروعة.
ولكن بعد مرور شهر على إبادة الشيطان، وفي يوم المهرجان، وفي قلب الساحة الكبرى…
“كان من المفترض أن نختم الأمر بمنح الآنسة إستيل بلانشيه لقب ماركيزة، تقديراً لجهودها… غير أنّ…”
أخذ الحشد، وقد تجمّع بصخب، يتهامس في حيرة أمام وجه الإمبراطور المتجهم ونبرته التي توحي بانقلاب في الأمر.
لقد سبقت أخبارها الجماهير منذ زمن، حتى صار الناس يراهنون على شكلها وهيئتها في الساحة الكبرى.
هل ستشبه أنها الساحرة العظيمة، أم ستأخذ ملامح والدها ذلك الوسيم الشهير الذي كان “المتعاقد مع الشيطان”؟ وما لون عينيها يا ترى؟ من الأحمر القاني إلى البنفسجي، امتلأت رهاناتهم بعملات لا حصر لها.
لكن أياً منهم لم يربح.
زفر الإمبراطور بعمق، ثم طوى الوثيقة التي بين يديه بنظام، وربت عليها براحة كفه قائلاً:
“مهما يكن الدم لا ينكر أصله… بما أن صاحبة الشأن نفسها قد فرت لتوّها، فإننا سنمنح اللقب بالنيابة عنها. تقدّم يا سير سيدريك إيرنيست.”
*****
كنت ابكي وفجأة لمه اشوف كلمه انها هربت متت ضحك
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات