عينا أب، غاصتين باللوم، لأن ابنته الوحيدة—رغم كونها عائلته—تجرأت على الوقوف في وجه أمنيته. وهو نفسه مضرّج بالدماء.
شدّت قبضتها وكأنها تصرخ:
“أتظن أن أمي ستُسعد برؤية هذا المنظر إن عادت؟ لا، أبدًا لا. أنا أعرف… إنها لم تكن لترغب أبدًا أن ترى أبًا تحوّل إلى هذا الحال. لذا تخلَّ عنها، قبل أن يصبح كل شيء بلا رجعة.”
قال أباها بصوت ثقيل:
“لقد اخترتِ طريقًا صعبًا. كان بإمكانكِ فقط أن تقتلي المتعاقد، أي أنا.”
فردّت بهدوء مميت:
“ولهذا السبب، أوصَت أمي أن أقتلَك أنت والشيطان معًا.”
تشنّج وجهه عند سماع وصيّة إلين الأخيرة، وارتعشت ملامحه.
“وفي الوقت نفسه… أوصتني أن أختار طريقي بنفسي. لذا، قررت أن أصغي لتلك الكلمات.”
لقد دلّتها أمها على الطريق الأقصر: أن تبيد المتعاقد والشيطان معًا دفعة واحدة، من غير حاجة إلى فصل أو تعقيد. لكن لتحقيق ذلك بالسحر، كان يلزمها طقوس معقدة هائلة، وقوة سحرية، بل قوة مقدسة. ولهذا سلّمتها إيلين سيدريك حارسًا، وورثتها كل دوائر السحر التي قضت عمرها في دراستها.
ومع ذلك، رفضت إستيل تلك الطريق المختصرة. كان رفضها هذا آخر تعبير لها عن الحب كابنة.
أبي، سأقتلك. فأنت إنسان يستحق الموت، لأنك ارتكبت خطايا لا تُكفَّر إلا بالموت.
لكنني، رغم كل شيء، كنت ممن أحببتهم. لذلك أشعر أنه عليّ أن أردّ هذا الحب… بأن أمكّنك من الموت كإنسان، لا كشيطان.
قالت بصرامة:
“أمي لن تعود. حتى لو أعادتها بقوة الشيطان، فلن تعود إليك بهذا الحال البائس. لهذا…”
كان من المؤلم أن تقول هذه الكلمات على الأرض التي لطالما شعرت فيها بحب أبيها، لكنها لم تبكِ. شدّت أسنانها وهمست:
“إن كنتَ تحبها حقًا، فتخلَّ عنها.”
دوّى صوت ارتجاف الأرض فجأة.
الشيطان وقد أحسّ بتردد متعاقده، اهتزّ بعنف، متمرّدًا على القيود المقدسة التي كبّلته. وكلما صارعها، ازداد وجه سيدريك شحوبًا.
جاء زئير الشيطان مدويًا كالصاعقة، وفي أذن إستيل مباشرة بدأت همسات جنونية تتردّد بلا توقف:
—”كذب… كذب… كذب…”
—”لا تصدق… لا تسمع… لا تنخدع…”
—”زوجتك تنتظرك… تستغيث بك… ترجوك أن تنقذها…”
شحب وجه إستيل حتى البياض، وضغطت بكلتي يديها على أذنيها، لكن الهمسات لم تخفت، بل ازدادت صخبًا، كأنها تسكن أعماق عقلها. رأَت آخرين من حولها يضعون أيديهم على آذانهم بدورهم.
وفي اللحظة التي همّت فيها بالركض إلى أبيها لتوقظه، جاء صوت مألوف يرتجف بالبكاء:
—”أنقذني… أنا خائفة… باردة ومتألمة… أنقذني… أرجوك أنقذني…”
تجمدت إستيل.
لقد قلد حتى صوت أمها.
رفعت رأسها بصعوبة لتنظر إلى الشيطان: هكذا كان يخدع الناس… هكذا يرهبهم، ويطوقهم باليأس.
ترنحت، ثم وضعت يدها مجددًا على كتف أبيها وأغمضت عينيها. استدعت من أعماق قلبها دفقًا من الدم والروح، ثم فجّرت النور.
دوّى انفجار من الضوء الذهبي اجتاح المكان. وتلاشى مع وهجه طنين الهمسات شيئًا فشيئًا. اغتنمت اللحظة، وانحنت نحو أبيها وقالت بثبات:
“أمي لا تتحدث هكذا.”
تمتم الرجل:
“إيلين…”
“التوسل بالنجاة، ذلك كان فقط ما كنتَ أنت تتمنّى أن تسمعه من أمي… لا ما قالت هي فعلًا.”
تجمد الرجل في مكانه.
أجل… لقد كان يتمنى أن تتشبث إيلين بالحياة، أن تبكي وتصرخ وتطلب المساعدة. أرادها أن تكون أنانية، أن تتمسك به حتى وهي تموت.
لكن الحقيقة؟ ما رآه حقًا… لم يكن ذلك.
إيلين حتى لحظتها الأخيرة، لم تعتمد إلا على إيمانها الراسخ. كانت رحيمة بالآخرين، لا بنفسها، وهذا ما جعله يخشاها ويشعر بعجزه أمامها.
مع انقشاع الوهم، خفت الصوت الكاذب. وعندما نظر إليها، كانت عيناه دامعتين.
همست إستيل:
“الساحرة العظيمة… أمي… لم تكن هكذا قط. ولهذا أحببتها.”
طوال سنوات، لم يسمع إلا كلمات الشيطان. والآن، وهو يسمع صدى صادقًا من ابنته، ارتبك، ثم رفع رأسه.
تساقطت دمعة على خده الجاف. أدرك الشيطان الخطر فزاد تمرده، وتقيأ سيدريك دمًا من شدّة المقاومة.
وقبل أن تصرخ إستيل، فتح تريستان فمه أولًا:
“أمك…”
وانهالت دموعه كالنهر. لم يعرف أي شعور يحمله هذا البكاء. تردّد، ثم تابع بصوت متحشرج:
“أمك… تركت كلماتٍ ورائها.”
وفي اللحظة نفسها، بدأ الكيان المرتبط به يقذف في ذهنه صورًا زائفة بلا ضابط: إيلين تبكي وتصرخ طلبًا للنجاة، إيلين تقيأت الدم من كل جسدها، إيلين تتعفّن وهي حيّة، تستجديه كي لا يتخلى عنها. وكان الشيطان يضحك:
“أما زلت ترفض إنقاذها؟ أتتخلى عن زوجتك؟”
لا… هذه لم تكن ذكريات حقيقية.
لقد غرق طويلًا في كوابيس مزيفة حتى نسي الواقع. كلمات ابنته أيقظت الذاكرة الصحيحة. كانت هناك، بعيدة عن أكاذيب الشيطان… الكلمات الأخيرة الحقيقية لإيلين.
تجمّد سمعه وكأنه منفصل عن العالم.
غرق في ظلمة حالكة، لكن ذكرى واحدة أضاءت.
رائحة الدم ملأت أنفه. وعاد إلى تلك اللحظة قبل عشر سنوات، في هذا الحقل ذاته، حيث اندلعت الحرب.
لكن فجأة، وسط سكون جليدي، انبثق ضوء مبهِر أوقف الزمن نفسه. ومن خلاله، خطت امرأة بشعر قرمزي يشبه غروب الشمس حين يودّع الأفق.
حتى وهو غارق في جنون الشيطان ورائحة الدم، سرق ذلك المشهد أنفاسه، وانتزع عينيه من كل ما حوله.
رغم أنها كانت في حالة تبقيها على قيد الحياة بصعوبة، إذ لم تكن أعضاؤها الداخلية سوى أشلاء ممزقة لا يحافظ عليها إلا السحر، فإنها كانت شامخة.
نعم… إيلين لم تعرف لحظةً لم تكن فيها شامخة.
حتى في ذلك اليوم بالذات.
— “مرحبًا، ميكاييل. لقد جئت.”
حين ظهرت في خضم صراع بين الحياة والموت، والكل يصرخ من الهلع، كانت ثابتة. عندما تركت بضع كلمات لميكاييل، وحين مشت بين الجنود المتجمدين من الفزع ثم التقطت سيفًا حادًا، بقيت على هدوئها.
بل حتى عندما غرست السيف في قلبها بيديها.
— “إيلين―!!”
عاد ذلك المشهد يتجسد أمام عينيه.
إيلين ويدها المرتجفة تنتزع السيف المغروس في قلبها، لتتهاوى بوجه شاحب بين ذراعيه.
الدماء… سالت بغزارة لا تُحتمل.
“لا، لا ينبغي أن يكون الأمر هكذا.”
وهو يمد يده بجنون محاولًا سد الجرح، كانت هي، مع ذلك، ترسم ابتسامة أخيرة. فتمتم تريستان بلهفة:
— “لقد قلتِ إنك تحبينني، وإنك لن تتركيني. لهذا أنا أيضًا لا أريد أن أتركك.”
إذن قوليها فقط… ارجيني أن أساعدك، توسلي أن تعيشي.
من أجلي أنا الذي لا أستطيع أن أحيا بدونك، ارجيني ولو أن أقتل عشرات الآلاف بطريقة دنيئة كي أُبقيك حيّة. قوليها، وسأفعل أي شيء.
لكنها بدلًا من ذلك غرست رمحًا صنع من دمها المتفجر بقوة سحرها العظيم، فاخترق قلبه. ومع ذلك، لم يفكر تريستان في دفعها بعيدًا؛ لقد أراد أن يبقى متصلًا بها، أن يهبها دفئه ما دام جسدها يبرد ببطء.
سعلت وهي تبتسم بضعف، ثم مدت يدها لتلمس وجنته بخفة.
— “هل تعلم؟ أنا أيضًا، أحبك بجنون… لكنك الآن تهذي.”
دوّى انفجار، وبدأت الدوائر السحرية التي نقشتها إيلين تعمل.
صوت التمزيق— شرخ، شرخ، شرخ— دوّى في رأسه؛ أطراف ذلك الشيطان المتغلغل في أعماقه تتفتت.
عصفٌ عاتٍ التفّ بهما كالعاصفة. وبوجهٍ شاحب كالميت، ارتسمت على شفتيها ابتسامة رقيقة وهي ترفع ذقنه وتطبع على شفتيه قبلة خفيفة.
صوت قبلة صغيرة انبعث، ثم ابتعدت عنه، تهمس كأنها تكشف سرًا:
— “أتعلم؟ لكي نكون معًا… ليس من الضروري أن تعيدني إلى الحياة.”
— “لا أفهم…”
لهاث الرجل اختلط ببرودة أنفاسها على شفتيه.
من هنا فصاعدًا لم تكن هناك أي ذكريات. ما يراه أمامه الآن… هل هو مجرّد وهمٍ استدعته قوةُ الشيطان؟ لا، ليس كذلك. فالتعبير المرعب، الغامض، الذي يكسو وجه إيلين أمامه كان حقيقيًا إلى حدٍ كبير، أقرب ما يكون إلى هي نفسها.
لم يستطع أن يدرك. بل ربما لم يكن يهم حقًا أيًّا كان الجواب. فمجرد كونها أمام عينيه بهذه الهيئة كان كافيًا بالنسبة لتريستان.
العينان البنفسجيتان اللتان غمرتهما القوة الحمراء القانية، أظهرتا للحظةٍ قصيرة بريقهما الأصلي. وإذ لاحظت إيلين ذلك، ابتسمت ابتسامة باردة وهمست:
—”يكفي أن تأتي إليّ أنت وحدك.”
أمسكت المرأة بابتسامة خفيفة بذقنه.
تجمد وجه تريستان وقد أدرك المعنى الحقيقي وراء كلمات زوجته.
وفجأة، عادت إليه الذاكرة: هذا ما تركته إيلين له كوصيتها الأخيرة.
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات