شعرت بأن دمها أخذ يجف، فاضطربت حدقتاها الحمراوان بجنون. لكنها تماسكت، ورسمت بيمينها دوائر وتعويذات سحرية بثبات.
دائرة، وهيكل سباعي، وخطوط متقاطعة متشابكة… رغم أن تلك لم تكن موهبتها الفطرية، فقد تعلمته بجهد مستميت، حتى باتت يدها الآن ترسم أكثر الدوائر تعقيدًا بلا تردد.
لقد استعادت ذكرياتها عن الأوقات السعيدة التي قضتها مع والديها، كما عادت إليها جميع معارفهما عن السحر. ولأنها أدركت أخيرًا ذكرى والدها الذي أحبته وهي طفلة، فقد أيقنت بوجوب منعه قبل أن يرتكب جريمة أفظع.
كتبت إستيل الحروف واحدة تلو الأخرى، بلغة عالم والدتها، اللغة التي لم يعد أحد في هذا العالم يعرفها سواها. لغة لا يستطيع حتى الشياطين فكّ رموزها، حاملةً معنى الفناء الأبدي.
وبينما وجهها يفيض بالنشوة وهي تكتب الكلمة الأخيرة لبدء التفعيل—
—”يا إبنة الساحرة العظيمة، أظننتِ الأمر سيكون بهذه السهولة؟”
دوّى صوت مروّع، ومعه انقضّ برق مدوٍّ على الدائرة السحرية تحت قدميها.
قبل أن تستوعب ما حدث، سقط جسدها إلى الأسفل، لكن شعورًا مباغتًا بقبض مؤخرة عنقها رفعها عاليًا في الهواء. أرادت أن تطمئن، غير أن إحساسًا مشؤومًا جعلها تتجمد في مكانها.
لم يكن إنقاذًا من حليف.
وعندما رفعت بصرها بتحدٍّ، وقعت عيناها على نظرة باردة تحتقرها كما لو كانت نملة تافهة يُلهى بها.
كان الشيطان يحدّق بها، قابضًا على عنقها بسحر أسود يتدفق من جناحيه، ثم همس بنبرة ضجر:
—”يا لها من حيلة لطيفة. كنت أظن سحقك سيكفي، لكن يبدو أن دمك لم يُهدر بعد.”
وفي اللحظة التي تفوّه فيها بعبارة “سحقك يكفي”، التفّت مجساته حول رأسها كأنها ستفجره، ثم تركتها على سبيل العبث. وضحك ساخرًا وهو يفتح مجرى تنفّسها، فشهقت إستيل مبحوحة الصوت وسعلت، قبل أن تحدجه بنظرة حاقدة وتقول:
“ها قد صرتَ مزعجًا فعلًا.”
—”أتدرين لماذا أنا بخلاف سائر الكيانات اتخذت الخوف قوتًا لي؟”
ثم مدّ يده كأنه يربت على رأسها برفق، لكن إستيل شعرت ببرودة مخيفة تسري في عظامها.
—”الخوف مني لا يموت أبدًا. حتى إن ظننتم أن الأمر قد انتهى، فإن أعماق قلوبكم ستظل ترتجف إلى الأبد. المجازر التي أشعلتها ستتوارثها الألسن، وستبقى في السجلات لتطاردكم جيلًا بعد جيل.”
وبعينين متبجحتين نظر إلى ابنة الساحرة العظيمة التي حاولت قطع مصدر قوته، ثم خدش خدها بلا مبالاة.
سال الدم على وجهها، فأطلقت إستيل ضحكة ساخرة من شدة الألم. فقد كان هذا الكيان، الذي يتغذى على الخوف، يدرك تمامًا كيف ينتزع رهبة البشر.
—”لقد ضعفتُ فحسب مؤقتًا. لا يزال لي من القوة ما يكفي لتمزيقكِ إربًا، ثم الخروج إلى هذا العالم.”
امتلأت عباراته بنوايا خبيثة تكفي لتجميد الدم في عروقها. أحست كما لو أن قوة خفية تشدّ على أطرافها، فيما صوته يرعد كالبرق:
—”حين أقتلك، سيدرك البشر الذين خسروا حتى بصيص الأمل، من هو العدو الحقيقي الذي يجب أن يخشوه إلى الأبد!”
“أني أنوي أن لا أموتَ قدرَ الإمكانِ وأن أقتلكَ أنتَ وحدكَ فقط؛ فماذا عساك تفعل؟”
تذوّقت طعم الدم وهو يتجمع في فمها، فيما صدى ضحكات الأرواح المحبوسة في جناحي الشيطان يخترق مسامعها.
جذبها حتى كادت تلاصق عينَيه العملاقتين، ثم همس بازدراء:
—”لا تفهمين. أنا لا أموت. موتي هو بذرة حياتي. في اللحظة التي يذكرني البشر فيها ككائن أسطوري ويخشونني، أبعث من جديد. ما تفعلينه كله بلا جدوى.”
فأجابته بابتسامة متحدية:
“إن كنتَ بتلك القوة، فلم استعنتَ بيدي والدي؟ لماذا لم تُفنِ البشر بقوتك وحدك؟”
ضاقت عيناه الواسعتان وهو يرمقها بازدراء.
—”أيتها الوقحة… لم أكن بحاجة إليه. أردت فقط تسليةً.”
تصلّبت حركاتها فجأة، وهي تدرك أن الشيطان ماكر، يفتن البشر ويدفعهم إلى اتخاذ أفظع القرارات.
لكن، هل قال الحقيقة الآن؟
للحظة خاطفة، طرأت على ذهن إستيل تساؤلات لم يسبق أن خطرت لأحد. مسلّمات كانت بديهية لوالدتها التي عرفت مستقبل هذا العالم، لكنها حين أعادت التفكير فيها، بدا أن هناك خللًا ما.
لقد كان أول اتصال لتربستان بلانشيه مع الشيطان في الأكاديمية، حين لمس بالخطأ كتابًا يقود إلى مكتبة الشيطان.
ثم حين سمع أن زوجته ستموت، استشاط غضبًا واقتحم المكتبة مجددًا، فعقد عقدًا مع الشيطان وسرق الكتب كلها. وحتى تلك اللحظة، لم تظهر عليه أي علامات يقظة.
وفجأة، خطرت ببالها كلمات سيدريك:
“المعبد يرى أن المتعاقد مع الشيطان بمثابة نقطة ضعفه. صحيح أنهم يساعدون على نشر الفوضى في العالم، لكن بوجودهم يُكشف موقع الشيطان.”
أحست إستيل كأن ضبابًا انقشع عن عقلها فجأة.
فتحت عينيها الواسعتين، وحدجت البؤبؤ الأحمر العملاق المقابل لها بابتسامة ساخرة، وقالت:
“أنتَ لست سوى طفيلي.”
ارتجف المِجسّ الذي كان يطبق على عنقها. ذلك الكيان—الذي يُدعى شيطانًا منذ زمن طويل حتى نسي ما كانه في أصله—حدّق بغضب في المرأة التي تجرأت على نبش الحقيقة المدفونة دون إذنه.
ولأول مرة منذ أمد بعيد، شعر “ذلك” بما ظلّ يغرسه في قلوب البشر من خوف، يعود ليرتدّ عليه.
ومن مكان ما اندفع سحر أخضر حادّ، فشقّ مجساته بضربة قاطعة. وكأنها كانت تنتظر هذه اللحظة، استدعت دائرة ريح سحرية ووقفت فوقها ابنة الساحرة العظيمة، ثم انحنت بأناقة لتحيي أحدًا على الأرض.
مدّ مجساته ثانية، لكن إستيل قطعتها في اللحظة نفسها قبل أن تلامسها، وكأنها تقسم ألا تُلدغ مرتين.
رسمت بيدها دائرة عظيمة، وانغمرت في هالة من السحر الذهبي، ثم تمتمت بوجه شاحب:
“كان بحث المعبد صحيحًا… المتعاقد يمنحك فرصة لإشعال فوضى أعظم في هذا العالم. لكنه في الوقت نفسه نقطة ضعفك… لأنك من دون متعاقد لا تملك أي قوة.”
—”هراء تتفوهين به.”
“مهما كان تدخل الساحرة العظيمة شديدًا، لم تستطع حتى أن تقترب من أبي لعشر سنوات كاملة…!”
تمتمت وكأنها تستعرض الماضي، ثم زفرت دفعة واحدة لتكمل:
“هذا غير منطقي… إلا إذا كنتَ بلا مُضيف، ضعيفًا وعاجزًا.”
كلما نطقت، ازدادت قطع الصورة وضوحًا في عقلها.
لو كان العقد مع تريستان بهذه الأهمية، فلماذا لم يغادر المكتبة منذ البداية ليقترب منه؟
الجواب بسيط: لم يكن أنه لم يفعل، بل لم يكن قادرًا على ذلك.
فتحت عينيها ببرود وختمت القول:
“من دون عقد، أنت عاجز تمامًا.”
—”تتوهّمين، أيتها الصغيرة.”
“لكن إن حُلّ العقد…”
نظرت نحو أبيها وقد تحرر من القيود التي انتقلت إلى الشيطان. ثم أدارت عينيها المرتجفتين نحو ذلك الكيان، وسألت بصوت مضطرب لكنه ثابت:
“إن أُلغي العقد، فسنرى إذًا… هل أنت قوي حقًا وحدك؟”
—”أنت لا تدركين مدى قسوة أبيك.”
قهقهة مرعبة اخترقت جسدها مع الريح، حتى كادت تسقط، لكنها تماسكت وحدجته بعزم. كان ذاك الكيان قد ازداد قوة بابتلاع سحر الساحر ونهَم الخوف، فراح يتطلع إليها من علٍ.
—”لا وجود لشيء اسمه إلغاء العقد.”
“لا، لا بد أنه موجود.”
برقت عيناها الذهبيتان وهي تحدّق في ذاك الوجود الذي لم يعد يُحسب من البشر، كيان يزداد حجمًا بابتلاع الرهبة حتى بات يتطلع لمقام الآلهة نفسها.
وبرغم صوته الذي دوّى كالرعد، وشكله المصمم لاستثارة رعب النفوس، استقر يقين غريب في ذهنها:
“لا يمكن أن تكون بتلك القوة… ولا أن يكون ما تقوله حقًا. لهذا…”
استدارت فجأة، والتقت عيني سيدريك لتسأله على عجل:
“كيف نلغي العقد؟”
“بالتخلي عن شرط العقد.”
أعادت إستيل الكلمات في ذهنها. كان تريستان بلانشيه قد طلب نجاة زوجته كأمنية. وفي المقابل، قدّم شرطًا رهيبًا:
“أن تُستبدل حياة الساحرة العظيمة وجميع الأرواح على هذه الأرض بذلك… هذا كان شرط عقدي.”
لكن الأرواح كلها لم تُمحَ بعد، ولا حياة الساحرة العظيمة أُسترجعت. لم يُستوفَ أيٌّ من الجانبين. إذن، ما دام المتعاقد ما زال حيًّا، يمكنه أن ينقض العقد بإرادته.
هبطت إستيل نحو أبيها، وأمسكت كتفه بعزم.
تريستان، غير معتاد على لمس أحد له، وبخاصة ابنته التي كبرت، بدا مرتبكًا وعينيه شاردتين. زمّت شفتيها وقالت بصوت مخنوق:
“يمكنك أن تُلغي العقد.”
أشاح وجهه متجنبًا عينيها، لكنها قرأت في تصرفه بريق إمكانية. ارتجفت وهي تتابع بإصرار:
“لا ترتكب الخطأ مرتين.”
******
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات