تراجعت إستيل مرة أخرى متعثّرة إلى الخلف. وفي تلك اللحظة شعرت بشيء يلامس ظهرها. تُرى، هل بلغت نهاية هذه الذاكرة؟ أم أنني في الواقع اصطدمتُ بالجدار الذي صنعته دائرة المرآة السحرية؟ أياً يكن الأمر، فقد بات من المؤكد أنه لم يعد هناك مجال للتراجع أكثر.
ولحظةُ انعدام المهرب هي بعينها اللحظة التي ينبغي فيها التحرك بأقصى سرعة.
فنهضت، وساقاها ترتجفان، ونظرت من علٍ إلى الشيطان القابع أمامها.
قالت بصوت مرتجف:
“صحيح، كان هذا العالم قاسياً عليّ… كان ظالماً. ركلني، وعبث بي باعتباري مجرد فتاة صغيرة لا أحد يبالي بها.”
ثم عادت بذاكرتها إلى سؤال قد سمعته من قبل… السؤال الذي تركته إيلين للوتشي. سؤال لم تفكر يوماً في جوابه، لذا كانت قد ارتبكت حينها.
“أأنت تسألني الآن… لماذا لا أترك الجميع يموتون؟”
فردّ عليها:
“ألم يكن هذا العالم بارداً تجاهك؟”
لو أنها لم تفكر مليّاً في تلك المرة، لربما سقطت في هذا الفخ. لكنها لم تكن ممن يعقدون الأمور؛ كانت ترى أن ما أُوكل إليها يجب أن تؤديه، وأن ما بدا صائباً يجب أن تنجزه. ولو وُجه إليها سؤال عن السبب الجذري لكانت قد تلعثمت. بل لعلها كانت ستنسى حتى وجود سيدريك الذي يضحي بقواه خارجاً من أجلها ومن أجل العالم، وتفكر: هل هذا العالم يستحق الإنقاذ حقاً؟ لكن ذلك السؤال كانت قد حسمه قلبها منذ زمن.
“ليس لأنني لم أتلقَّ شيئاً من هذا العالم، أن عليّ أن أنبذه.”
هذا ليس حكماً يخصني وحدي. أن أقرر إن كان آلاف، بل عشرات الآلاف من الأرواح، ستحيا أو تموت… ذلك يتجاوز سلطتي.
ضحكت بخفة وهي تحدّق بالكائن الذي التهم حياةً لا حصر لها، حتى حياة والدتها.
“آسفة، لكنني بسيطة… أنسى كل من أساء إليّ وأتذكر فقط من كانوا لطفاء. والعالم بالكاد يتسع لنا حتى لو عشنا هكذا.”
ارتجف ذقنها وهي واقفة قبالة ذاك الوجود المرعب الذي أزهق أرواحاً لا تُحصى، حتى روح أمها. لكن بدلاً من أن تستسلم، ابتسمت محاولةً طرد الظلام بالضحك.
“ولهذا، فهذا العالم يستحق الإنقاذ عندي… مهما قلت أنت.”
لامست أناملها شيئاً ما، صلباً وليناً في آن، يحمل دفئاً غريباً. قبل أن تستوعب ذلك، كان الشيء قد جذب يدها وقادها إلى موضع آخر.
هناك، عند دائرة السحر التي كانت تعمل على تعديل هدف القيود، كان سيدريك يسكب قواه المقدسة، ممسكاً بيدها بشدة.
تذكّرت أين توقفت عن التعديل، وأدركت أن النقطة التي ساقها إليها سيدريك لا بد أن تكون حيث تركت أحرفها الناقصة.
مستندةً إلى إحساس أطراف أصابعها، بدأت تكتب حرفاً بعد آخر. ورأت الشيطان يضطرب وقد شعر بشيء ما. حتى أتمت أخيراً الجملة بنقطة.
عندها، تلألأت الدائرة السحرية من خلف شعرها الأبيض، واحترقت الذكريات السوداء التي بثّها الشيطان. ومن وسط ذلك النور، ابتسمت إستيل وأضافت:
“شكراً لأنك ثرثرت وألهيتني… بفضلك بدّلت هدف القيود.”
—”أنتِ…!”
دوّى صوت كسرٍ، كأن زجاجاً هائلاً تحطم، وتفجرت القوة السحرية التي كانت تقيد تريستان. وفي الحال، اندفعت قيود جديدة من الدوائر السحرية لتحيط بجسد الشيطان نفسه.
صرير مؤلم، ورائحة لحم محترق تصاعدت من الاماكن التي لامستها القيود. وارتفعت صرخات الأرواح المأسورة في جناحيه.
صوت ارتطام مدوٍ، كأن المطر الناري الذي يتساقط من السماء يهاجم القيود التي تحاول تقييده، ازداد عنفًا أكثر فأكثر. من بين دوائر إدغار التي احترقت جزئيًا، بدأت كرات النار تتساقط بغزارة. بسرعة، استدعت إستيل الماء لإيقافها، ثم رفعت بصرها نحو الشيطان الذي كان يحدق بها بعينين محمرّتين من الغضب.
—”أتظنين أنك ستكبلينني بهذا؟ لو حبستِني في جسد أبيك لكان أنجع.”
“أبي…”
رمقت إستيل والدها الذي فقد إحدى عينيه، وعضّت على أسنانها.
ذلك الرجل مذنب. أجل، أحب زوجته، وكان أباً أراد أن يحمي عائلته. لكنه مع ذلك ارتكب خطيئة عظيمة، ولا أنوي تبريره.
غير أن…
“أبي، على كل حال، إنسان. لذا يجب أن يُعاقَب بطريقة البشر. أما أنت… فلا. لذلك سأفنيك.”
—”طموحك عظيم إذن.”
رفرف جناحاه بقوة كفيلة بسحق كل ما حوله، فانكسرت جميع الأختام.
واحترقت دوائر إدغار الدفاعية في دقائق معدودة.
حينها أدركت إستيل لماذا استسلم كثير من السحرة لإغراء قوة الشيطان.
ففيض طاقته السحرية كان لا ينضب كعينٍ لا تجف.
ورغم أن القيود كانت عليه، إلا أن المستنزف الحقيقي كان هم. فعضّت إستيل على شفتيها وهي ترى سيدريك شاحباً حتى كاد يغمى عليه.
‘كم عليّ أن أنتظر بعد؟’
فدائرة الإبادة لا يمكن تشغيلها عن بُعد. ورغم أنهم قيدوه، لم يكن القيد كاملاً. ظلّ الشيطان يقذف بقواه في كل اتجاه، فيما كانت القيود المقدسة لا تفعل أكثر من تقليص تأثيرها.
ومع ذلك، وكما يليق بصاحبها، كانت تلك القوة تعود مراراً بعد انقطاعها، غير أن الشيطان لم يزد إلا ضحكاً ساخراً.
—”فكرة مبتكرة، لكنها ضعيفة. مؤلمة نعم، لكنها لا تتجاوز حد الإزعاج.”
العين الباردة في مركز جناحه ارتكزت عليها، ومع قهقهة مقززة، سخر منها. وقبل أن تلتقط أنفاسها، هوت أمامها كرة نار ضخمة.
ارتدت مذعورة إلى الوراء، وإذا بصوت سيدريك المذعور يرتفع في تلك اللحظة…
“إستيل!”
دوّى انفجار هائل، وكأن ما جرى حتى الآن لم يكن سوى تساهل متعمَّد، فانهالت فوقها كتل صخرية ضخمة استهدفتها مباشرة.
وقبل أن تُسحق تحتها بلحظة، انبثق فوق رأسها دائرة سحرية خضراء.
ارتطمت الصخور بها بقوة وانفجرت متناثرة في كل اتجاه. وفي اللحظة التي رأت فيها شظايا تتطاير أمام عينيها، جاء صوت ارتطام مكتوم، وإذا بسواد كثيف يغطي بصرها فجأة.
صفير حاد دوّى في أذنيها، كأن شيئاً اختل في داخلها. تلاشى وعيها لوهلة، وأصابها دوار جعل أفكارها تتشتت.
‘هل متُّ؟ هل انتهى كل شيء؟ هكذا فجأة؟ من دون أن أفعل شيئاً مما أردت؟’
لكنها شعرت بحرارة تسيل على جبينها. مسحت بيدها فإذا هو دم أحمر قانٍ يتدفق بغزارة. والغريب أن مشهد ذلك اللون الفاقع أعاد لها وعيها. فرفّت جفنها مرة، وهمست:
“لا… أيُّ نهاية؟”
لم يبدأ شيء أصلاً، فكيف أفكر بالنهاية؟
كانت شظية قد شقت جبينها على ما يبدو، فبدأ الدم يتساقط قطرة بعد أخرى، يرسم خطاً على الأرض. وبينما ترى دمها يمتزج بتراب الأرض الذي ارتوت بدماء الآلاف قبلها، أحست بعمق أنها ما زالت حيّة.
بأرجل مرتجفة وقفت من جديد، ومسحت وجنتها بيد ملطخة بالتراب. فاختلط التراب والدم وتحوّلا إلى وحل قذر التصق بخدها ويدها. عندها أضاءت عيناها الذهبيتان ببريق بارد.
قالت بصوت ثابت:
“صحيح. كنتُ أظن أن قتلك يحتاج إلى قيود وشروط عديدة. لذلك، قبل قليل، على عجل، أضفت قيدًا آخر.”
—”وكأنكِ ارتكبتِ سرقة.”
“أشبه بذلك.”
صرير حارق ارتفع فجأة، إذ انبعث الدخان من القيود التي بدأت تشتعل بعنف.
ارتبك الشيطان وهو يتلوى، إذ بدا أن القيد الجديد أشد كثيراً من سابقه.
لكن بخلاف ما سبق، لم تعد القيود تترنح مع حركته، بل راحت تتعمق كأنها ستجز جناحيه إرباً.
أدار إدغار الذي كان يتصبب عرقاً بارداً من فرط استهلاك طاقته رأسه بدهشة وعيناه تقولان إنه لا يصدق ما يرى.
أما سيدريك الذي كان بالكاد محتفظاً بوعيه، نظر بوجه حائر إلى النتيجة التي أوجدتها القوة المقدسة التي أطلقها بنفسه.
“لم تزد قوة السحر بسبب حدّ الإنسان الذي يزوّدها بالقوة المقدسة.”
هذا يعني أن عاملًا خارجيًا هو من ضاعف القوة… لكن ما هو ذلك العامل؟
وفجأة تذكّر إدغار ما طلبته إستيل منهم قبل أن تشرع في فك الختم الرابع، فضحك بخفة.
‘آه… لقد تجاوزت معلمها.’
كنت أعلم، لكنني لم أنتبه وأنا غارق في التعقيدات. أما هي، فقد رأت ما عجزتُ أنا عن رؤيته.
نظر إليه سيدريك باستغراب وهو يبتسم هكذا، ثم جاء صوت إستيل يشرح:
“لقد سرقتُ منك مجدك، واهتمام الناس الذي كان ينبغي أن يكون لك.”
إن جوهر الشيطان كيان من الأفكار ينمو بالتغذي على مشاعر البشر. والمشاعر التي اختارها هذا الشيطان بالذات غذاءً له كانت الخوف. ولهذا، قبل أن تبدأ إستيل تحركها الحقيقي، كانت قد طلبت من سيدريك وإدغار أن ينشرا إشاعة كاذبة: أن ابنة الساحرة العظيمة قد قضت بالفعل على الشيطان.
صرير آخر دوّى…
القيود المصنوعة من السحر والقوة المقدسة انغرست في جسد الشيطان وأخذت تحرقه من الداخل. تقدمت إستيل نحوه بخطى ثابتة وأسنانها تصطك.
“لن يخافك أحد بعد الآن.”
إستيل وهي تخطو خطوة خطوة على دوائر السحر الهوائية التي رسمها، ارتقت حتى وصلت إلى مستوى نظر الشيطان، ثم ابتسمت ابتسامة مخيفة ووجهها ملطخ بالدماء.
“لن يبقى لك أي خوف تتغذى عليه… أفهمت؟”
****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات