كانت الطاقة المقدسة المتدفقة من دوائر السحر المقيدة العديدة مشدودة بقوة، كأنها أوتار على وشك الانقطاع. حين لمحت إستيل اللمعة الحمراء المتقدة في عينيه المضيئتين بحدة، قبضت كفها بإحكام. لم يعد هناك مجال للتأخير. كان عليها أن تغيّر هدف القيود، لتنتزع الشيطان وتفتح فورًا دائرة السحر للإبادة.
لكن بينما كانت تهمّ بالاندفاع، أمسك أحدهم بيدها على عجل.
التفتت، فإذا بسيدريك وقد شحب وجهه من فرط إخراج القوة المقدسة، هو من أوقفها.
قال بصوت متماسك رغم ضعفه:
“توخّي الحذر.”
فأجابته باستغراب:
“أتمسكني فقط لتقول هذا؟”
ابتسم بأسى:
“قد تكون هذه هي المرة الأخيرة…”
لم تتبقَّ سوى دائرة سحرية واحدة من إرث الساحرة العظيمة. كانت تلك الدائرة الأخيرة منقوشة في عيني تريستان بلانشيه.
نظرت إستيل إليها بقلق، وراحت تشد كفها وتفكها.
قالت هامسة:
“أتذكر ما قلناه آنفًا؟”
فأجاب سيدريك:
“نعم، ينبغي تبديل هدف القيود…”
فقاطعته بسرعة وهي تضع يدها على فمه:
“شش!”
ثم التفتت بحذر نحو والدها، وكأنها ندمت على ما أفصحت به.
ارتبك سيدريك وخفض بصره، فربّتت إستيل بخفة على كتفه وهمست:
“اصمد جيدًا.”
أجابها بصرامة:
“لن أفلت يدك أبدًا.”
هزّت رأسها بابتسامة شاحبة:
“لا، إن شعرتَ أنك لا تستطيع المواصلة، فاتركها. الأجدر أن نحيا ما أمكن… لأن بعد انتهاء هذا…”
ترددت قليلًا، ثم أمالت رأسها نحوه وأسقطت عليه قنبلة كلامية:
“علينا حقًّا… أن نتزوج، ولو كان زواجًا إجباريًّا. لم أكن أدرك السبب من قبل، لكنني الآن فهمت واقتنعت. أما إنجاب الأطفال… فلا أراه حسنًا، وإن أردت يومًا، فلنفكر به بهدوء.”
كادت كلماتها أن تربك سيدريك وتطيح بتركيزه، بينما تقدمت إستيل ببطء نحو والدها المقيّد بالقيود المحكمة.
هذا كان الحقيقي.
جميع الدوائر التي دمرتها من قبل كانت تحبس أطراف الشيطان المبتورة فقط.
أما الذي أمامها الآن، فليس إلا جسدًا مسكونًا بغريزة الشر الخالصة، لا يعرف إلا الهجوم دون تفكير.
تقدمت نحوه، ورفعت يدها تلامس وجهه.
ظهر على ملامح والدها الذهول، إذ لم يخطر بباله أن يكون يومًا مكبَّلًا، لكنه سرعان ما ابتسم بسخرية:
كادت إستيل أن تُقذف من شدته، لكنها تماسكت مرتجفة، ورفعت بصرها.
ارتجف وجه تريستان وهو يغمض عينه اليسرى، ثم صرخ صرخة مروّعة كأن شيئًا اقتُلع من جسده. ومن عينه اليسرى اندفع كيان هائل غطى السماء.
وانطلقت ملايين الصرخات المدوية.
تجمدت إستيل ورفعت رأسها ببطء.
كانت أجنحة مظلمة تصدر عاصفة عاتية، محتجزة بداخلها أرواحًا لا تُحصى تصرخ بألم، وفي مركزها عين حمراء ضخمة، تحيط بها سحب من دخان أسود.
همست مرتجفة:
“ما… هذا؟”
تقهقرت إلى الوراء مذعورة من مجرد منظر ذاك الكيان الذي يبث الرعب بالنظر إليه فقط.
الشيطان، الذي تحرر من قيدٍ امتد دهورًا في نظر البشر، لكنه لم يكن سوى لحظة عابرة بالنسبة له، انغمس في نشوة الحرية وهو يُغرق الأرض بنظراته. ثم ركّز بصره على إستيل، وبدأ يهبط رويدًا رويدًا.
وارتجف الهواء بصوت ضحكة معدنية، كأنها صرخات آلاف المعذبين في الجحيم، توجهت إليها قائلة:
—”أنتِ… إذن.”
لقد عاد إليها وعيها بشكل مدهش بعدما كادت تفقده عند مواجهة ذلك الوجه الرهيب عن قرب.
ارتعشت ملامحها بحساسية، فتراجعت خطوة أخرى ثم فتحت فمها ببطء.
“هل تعرفني؟”
— “الإنسان الذي أتحننُّ له ورغبتُ في عقد ميثاق معه كان والدك، والمرأة التي واصلت صد فساد والدك كانت أمك. هل ظننتِ أن هنالك من يجذب نظري بقدر هذين؟”
ترددت ضحكة مكهربة داخل الدائرة المرايا السحرية التي تحيط بهم، ومرّت عينان تحسّنان على إستيل من رأسها حتى أخمص قدميها ثم همستا:
— “إذًا، لقد كنتُ على علم بوجودك منذ لحظة حبلِك.”
“هذا يقشعرّ له البدن.”
— “وأدركتُ أيضًا أنكِ كائن لم يكن ينبغي أن يوجد، وأن وجودك تسبب في موت أمك. كانت تموت مفصلاً بعد مفصل، كما لو أن أحشائها تتفسخ قطعةً قطعة.”
اشتد ضحكه الساخر أكثر فأكثر، وبينما كانت السخرية تملأ الأجواء، همس الشيطان:
— “لقد نشأتِ وأنتِ تلتهمين أمك.”
طعنة مفاجئة.
بما أن القول لم يكن بعيدًا عن الصحة، كان الألم أعظم.
وصل صبر القدر تجاه الساحرة العظيمة الذي لوى أقدارًا كثيرة حافة الانهيار مع قدوم إستيل.
فبسببه ظهرت ثلاث أرواح جديدة على قيد الحياة.
لماذا ثلاث؟ لأن—
نظرت نظرة خاطفة إلى الرجلين الواقفين خارج الدائرة المرآتية أعادت إِستيل بنظرها إلى الشيطان.
— “يا للأسف. كنت أريد أن تمزيق الساحرة العظيمة بيدي.”
“ما كنت لتفعل.”
— “أنتِ أشبه بأمك أكثر مما توقعت. شيء يثير رغبتي في سحقك.”
في تلك اللحظة، سقط ضغط هائل عليها.
كتمت إستيل سعالًا من شدته وسقطت على الأرض.
مكبلة بحيث لم تستطع رفع رأسها، مدت يدها خلف ظهرها وأغمضت عينيها على أمل أن تدوم لحظةً أخرى.
يا ليت، يا ليت لو بقي القليل فقط…
— “أنتِ وأمك تصنعان الحماقات. تجاهدان وتجتهدان. فما الذي فعلتهما الدنيا لكما لكي تستحقا ذلك؟”
كان الشعور كما لو أن إصبعًا عملاقًا يدوس على رأسها.
اهتزت وهي تحاول بصعوبة النهوض، فحدّق فيها الشيطان بنبرة هادئة:
— “هل تلهين بلعب دور البطلة؟ حقًّا لا أفهم لماذا.”
شَهقَتْ إستيل بقسوة، تحدّق في ذلك الكيان الذي يطفو فوقها كأنه على وشك أن يقتلها، وقالت بغضب:
“ما الحاجة إلى سبب؟ إنما تصحيحُ الخطأ فقط.”
— “إستيل بلانشيه، يا ابنة الساحرة العظيمة والمتعاقد. سأعرض عليكِ شيئًا.”
ضعفَت القوة التي كانت تتوعد بأن تدفنها في باطن الأرض قليلاً.
رفعت رأسها بالكاد والتقت عيناه؛ ثم تلوّن وجهها بجمود عند سماع ما تبعه من كلام:
— “أمنحك فرصة استعمال قوتي. قوة تكفي لتدمير الإمبراطورية ثم إعادة بنائها، قوة تُقطّع القارة أشلاءً ثم تعيد جمعها معًا—”
“توقف، توقف! لا، لا حاجة. قوتك تلك؟ لا أقبلها حتى لو أُهديت لي.”
كان كلامًا يفيض استنكارًا. أن يقدم شيطان كهذا عرضًا لمن دمر بيتها بعقدٍ معه! إن المسّ بالإنسان لا يُطاق هذا الحد.
مدت يدها خلفها مجدّدًا لتعدّل دائرة الختم التي كانت تُعدّل منذ قليل، لكن رؤيتها انطفأت فجأة.
عمّ الظلام العالم بأسره؛ كأنما حُجبت عن العالم كلّه. وهي تلهث لتستعيد بصرها، دبّ صوت الشيطان في أذنها:
— “إستيل بلانشيه، عشْتِ عشر سنين مضطربة في طرقات الدنيا. رُكلتِ من كثيرين، واحتقروكِ لأنك جاهلةٌ لا تعرفين. الآن يَدّعون اللطف لأن وراءك ظل الساحرة العظيمة، لكن هل سيظلّون كذلك حتى النهاية؟ أنتِ لا تملكين قدرات ولا ذكاءً استثنائيًا؛ ما لديكِ فقط مهارات يدوية تلائم جرائمٍ تافهة.”
صوت قضبانٍ حديديةٍ رنانٍ.
حينئذٍ أدركت أنها محتجزة داخل ذاكرتها.
كم مرةٍ سُجنت أول مرةٍ لسرقةٍ تافهة؟ وكم مرةٍ جاعَت حتى كادت الدنيا تبهت أمام عينيها؟ في تلك اللحظات الجائعة نظر إليها النبلاء المترفون مستهينين وهي تتضور جوعًا.
تراكمت الذكريات التي كانت تفرض عليها مواجهة قبحها، فصارت قيدًا يقيدها.
بدأت الأصوات الهمّاسة تخترق عقلها.
— “الدنيا لم تكن يومًا لطيفةً معك. أليس كذلك؟ الآن يتعاملون بلطف ظاهري لظل الساحرة العظيمة، لكن هل سيفعلون ذلك إلى النهاية؟ أتعلمين أنك لا تملكين ما يؤهلك؟ كل ما تملكينه مهارات لصوص الأزقة.”
تجلّى الشيطان في ذكرياتها بابتسامة غامضة، واقترب حتى أصبح على مسافة قريبة جدًا من أنفها.
ازداد صوته حنانًا زائفًا.
لتتمسك بشيء يحررها من الحلم، تلمست الأرض بظهرها وهي تتراجع.
— “والأشخاص الذين رافقوك حتى الآن يعرفون ذلك أيضًا. ذلك الفارس وأنا والساحر الذي عاش عن غير قصد— كلّهم قد يبدون سلوكيًا مهذبين، لكنهم يحتقرونك في قرارة أنفسهم.”
هراء كله، هراء كامل.
عرفته جيدًا: سيدريك وإدغار لم يكونا هكذا.
لكنّ هذا لم يمنع أثر الكلمة. بدا الشيطان وقد استغل قلقها المتأجج: ذاك الشعور بالنقص إن سُلب عنها ظل الساحرة العظيمة، الخوف من الفشل، القلق من أن تكون مكانتها مؤقتة وأنها قد تعود لصِفاتِ سارقة الأزقة في أي لحظة.
— “فلتُدْمِرِيهم. اقتليهم قبل أن يؤذوكِ. أُمحيهم كلِّهم.”
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات