دوّت أصوات الصخور المتساقطة من كل جانب حتى كادت تصمّ الآذان، غير أنّ إستيل لم تُزِح بصرها عن أبيها.
وما إن اقترب تريستان منها حتى صار بإمكانها أن ترى ملامحه بوضوح، فابتسم.
“مثير للإعجاب… أن تتمكني حقًا من كسر الختم.”
“هذا ليس سوى البداية.”
“أأنتِ التي حطمته؟ أم أنّ…”
“يمكن القول إنني فعلت، ويمكن أيضًا القول إن أمي خططت لذلك سلفًا. فأنا كنت الشرط لكسره.”
لم يبدُ على تريستان الغضب من مقاطعة ابنته الجريئة، بل نظر إليها بعينين حمراوين يملؤهما الفضول. ثم التفت سريعًا نحو الرجلين اللذين كانا يحدّقان به من بعيد، وألقى عليهما نظرة ازدراء، قبل أن يعيد بصره إلى ابنته ويتمتم:
“لا أفهم… ما زالت ذاكرتك لم تعد كاملة بعد؟”
“عادت. والآن تقريبًا… كلها.”
“لا يبدو أنك تشتاقين.”
صمت للحظة وهو غارق في أفكاره، ثم رفع رأسه من جديد نحو ابنته، وعلى شفتيه ابتسامة مُرة لا تليق بقاتلٍ جماعي.
“لا عجب… فأنتِ ما زلتِ شابة.”
ارتبكت إستيل للحظة وهي تستعيد ذكريات لم يمضِ عليها زمن طويل.
الرجل الواقف أمامها كان يومًا ما معلمها في السحر، من علمها الكثير بحنان، قبل أن يتحول إلى سفّاح.
كانت تذكر حتى مزاحه اللطيف الذي شاركته فيه أمها، رغم قسوتها أحيانًا.
لكن الشباب، وكثرة الأيام المتبقية، لا تجعل الماضي أقل قيمة. ابتسمت بهدوء وأجابت:
“بل أشتاق… بالطبع أشتاق. لكنني الآن مشغولة جدًا بالهرب والقتال، فلا وقت عندي لأشتاق إليكما.”
“لا حاجة بكِ إلى الهروب. يمكنكِ العودة.”
هويّة والديها التي اكتشفتها فجأة، والذكريات التي اجتاحتها على حين غرّة، والدمار الماثل أمامها، وأبوها الذي غرق في الفساد… كل ذلك أثقلها، فلم يكن بوسعها إلا أن تتقبله قطعةً قطعة.
لم تكن لا مبالية، بل كانت تشتاق حقًا. تشتاق إلى أيام السلام التي سُلبت منها، وإلى حياتها وحيدة في الشوارع بلا عائلة تؤويها.
“العودة؟ بعد أن قتلتَ عشرات الآلاف؟”
“تضحية زهيدة.”
كانت الأعشاب اليابسة التي غطت السهل تشتعل وتصدر طقطقة متواصلة، فيما نظر هو إليها بعين باردة وساخرة. عندها التوت شفتا إستيل بازدراء، وسألت بحدة:
“كيف وصلت إلى هذا الحد؟ أيّ طريق سلكتَ حتى صرتَ رجلاً يتفوه بأن حياة عشرات الآلاف رخيصة؟”
“أأكذّب؟ هل تظنين أن البشر الذين تسعين للدفاع عنهم يستحقون الإنقاذ أصلًا، يا إستيل؟”
خطت خطوة إلى الوراء بعزم وهي تحدق فيه بعينين صارمتين، لكن تريستان مدّ ذراعه كمن يهمّ بالإمساك بها، واقترب أكثر.
“لا أحد يهتم بأمرك سواي.”
“حتى وأني جئتُ بأمر من العرش الإمبراطوري؟”
“العرش لم يكلّف نفسه سوى أن يضع بجانبك رجلين ويرمي بكِ إلى هنا. الباقي تركوه لكِ… أو بالأحرى لإيلين.”
ابتسامة ملتوية ارتسمت على شفتيه وهو يحدّق بالأفق ويتمتم:
“الإمبراطور، النبلاء… الجميع يظنون أن مجرد ذكر اسم إيلين كافٍ ليُحلّ كل شيء. لا حاجة لبذل جهد، لا حاجة لتقديم دعم، يكفي أن يُنسب لها الفضل، وسيُنجز كل شيء. هكذا كان الأمر دائمًا.”
“لأنها كانت تحمي العالم من الفوضى.”
“حجة واهية. لقد حمّلوها كل الأعباء وتركوها وحيدة. فعلوا بكِ الشيء نفسه.”
“لأننا نملك القدرة على حملها.”
أثار ردها الجرئ اهتمامه، فأعاد نظره إليها وضحك بخفة، ثم تمتم:
“شخصيتك ما زالت نسخة من أمك.”
“نعم؟ إذن يبدو أن الطباع لا تزول حتى لو مرت عشرة أعوام بلا لقاء.”
“هؤلاء البشر لا يستحقون الخلاص.”
بدأ الهواء يهتز من حولهم بقوة، فشعرت إستيل بالقلق وهي تلاحظ بريق القوة الحمراء المتدفقة من عينيه، عيني من شهد نهاية العشب الأخضر يوم ماتت إيلين.
“لقد قُدمت لهم كل تلك القوة، وفي البداية فقط شكروا. ثم صار كل شيء بديهيًا: بديهياً أن تحميهم، أن تتنبأ، أن تصونهم… فهي الساحرة العظيمة. لم يروْا غير ذلك.”
هو أكثر من أي أحد آخر كان الأقرب إلى إيلين. منذ لحظة أبعدته، حتى لحظة تقبّلته، وحتى ما بعدها.
الناس لم يذكروا إلا صورة الساحرة العظيمة التي تتحكم في كل شيء ببرود. لم يتذكر أحد المرأة إيلين إيفرغرين التي نزفت دمها وعرقها لتنقذهم. لا في ذاكرة الناس، ولا في الكتب، ولا في أي مكان.
“بعض المدائح، واعتراف بفضل تافه مقارنة بما قدمته… ثم لا شيء. لم يتحملوا مسؤولية، ولم يبذلوا جهدًا. كل شيء لأن إيلين إيفرغرين موجودة.”
اقترب خطوة أخرى نحو ابنته، نحو الدم الذي ورثته من زوجته.
فتراجعت هي إلى الوراء، وأسنانها تصطكّ من التوتر.
ارتسمت على وجهه ابتسامة باردة شوهتها نوبة غضب مكتوم.
“والآن… الدور انتقل إليك.”
“لقد اخترتُ هذا الطريق بنفسي.”
“صدفة غريبة… حتى إلين اختارت، حين حرّفت مسار القدر لتنقذ الجميع، فابتليت بمرضٍ قطع أحشاءها قطعة قطعة.”
تصلبت أوصال إستيل عند سماع كلمة القدر. رفعت رأسها بصعوبة، وعيناها تلمعان بالاضطراب، وسألت بصوت مرتجف:
“أتعرف… حتى ذلك السبب؟ سبب المرض الذي قتل أمي؟”
“قرأت مذكراتها.”
“وهل تعرف ما الذي حاولت أن تمنعه؟”
رد تريستان وكأن الجواب بديهي:
“كارثة… كان سيموت فيها الجميع.”
كانت تلك اللحظة التي ادركت فيها إلى أنه لا يعرف الحقيقة كاملة.
شعرت كأن قلبها سقط بثقل في أعماقها.
لا… إنك تظن أنك تعرف كل شيء عن إيلين إيفرغرين، لكنك مخطئ. أنت لا تعلم المستقبل الذي أرادت أن تمنعه، ولا تدري أن أكثر شظايا المستقبل الذي كانت ترفضه هو ما تمثله أنت الآن.
لا تعرف أن أكثر ما كان تخشاه الساحرة والعرافة العظيمة هو أن يصبح وجه المستقبل… أنت.
تراجعت خطوتين إلى الوراء، فيما ظلّ المتعاقد—الذي عميت بصيرته برغبة إحياء زوجته—يتبعها بخطى ثابتة.
كانت تحدّق في والدها الذي يقترب منها ببطء، ثم رفعت أصبعها لتلمس النقطة المركزية من الدائرة السحرية العاكسة التي انبثقت خلفها.
وبعد أن كانت حركاتها رشيقة واثقة، جاء صوتها هذه المرة مرتجفًا، كمن لم يكن متأكدًا تمامًا:
“الآن… أظن أن الوقت قد حان! على الأرجح!”
وفي اللحظة التي وضعت فيها النقطة الأخيرة على دائرة الختم السحرية المتألقة باللون الذهبي، انطبقت على يدها يدٌ أخرى أوسع وأكبر.
ومن أطراف أصابعه، انبعث ضوء أزرق امتزج تدريجيًا مع الضوء الذهبي المتدفق من يدها.
تجمّدت ملامحهما معًا وهما يراقبان التداخل.
كان الضوء الأزرق يتسرب شيئًا فشيئًا داخل الدائرة الذهبية كالماء حين يختلط بالحبر حتى غمرها تمامًا. ومن فوق جميع الدوائر السحرية المحيطة بهم، بدأ الضوء الأزرق ينتشر، صابغًا إياها بالزرقة في لحظات.
ابتسم تريستان وهو يراقب ابنته التي تكاد أنفاسها تتقطع من التوتر.
“لا بأس بكِ… لقد فاجأتني حقًا.”
وفي اللحظة التي بدا أنه يستعد لاستخدام سحره، احمرّت عيناه فجأة. غير أنّ خيوطًا زرقاء متينة انبثقت من كل جانب، وانعقدت كالأغلال حول ذراعيه، محكمة القبض عليه. حاول تحريك أصابعه، لكن الخيوط الزرقاء كانت كالحديد، فانعقد حاجباه بامتعاض.
غير أنّ السواد القاني من سحره الجائر أخذ يتدفق من بين تلك القيود، يهتز بعنف وكأنه على وشك الانفجار. لكن ما إن ظهر، حتى اجتاحته أمواج من قوةٍ مقدسة هادرة انبعثت من الدوائر، لتكبته وتغمره من جديد.
التفتت إستيل بوجهٍ شاحب إلى جانبها حيث يقف سيدريك.
رأت إستيل وجه سيدريك يزداد شحوبًا، فرفعت كميها بعزم.
كانت الكمية الهائلة من القوة التي تُمتَص من جسده وتُضخ إلى الدوائر كافية لتُدرك حتى بالعين المجردة.
“سأبدأ الآن.”
“لكن لم نتمكن بعد من إخضاعه كلّيًا—”
“لا فائدة من انتظار ذلك، إخضاعه تمامًا أمر مستحيل ولو انتظرنا عمرًا كاملًا. وإن تأخرنا أكثر، ستموت أنت. يكفي أن الساحرة العظيمة حين سمّتك زوجًا لي لم يكن لتختار رجلًا قصير العمر، وأنا—التي أملك زمام الأمور الآن—لا أنوي أن أتركك تموت.”
وفجأة، توقفت في مكانها وكأن فكرة باغتتها.
ذلك الأمر—ذلك الإصرار على أن تتزوج هذا الرجل بعينه. الرؤى التي ورثتها من ذكريات إيلين إيفرغرين.
سرّ ولادتها.
أدارت رقبتها ببطء نحو سيدريك الذي جثا على ركبة واحدة، وجهه شاحب تمامًا. تأملت ملامحه للحظة، ثم تمتمت بصوت منخفض:
“إذن… لهذا السبب.”
“ماذا تقصدين؟”
لم يكن هناك وقت لشرح كل شيء.
أدارت ظهرها له، متقدمة نحو تريستان الغارق في سحره المضطرب، وهي تهمس دون أن تلتفت:
“سأفسّر لك لاحقًا.”
لطالما ظنت أن القول: تزوجي بهذا الرجل لم يكن إلا نزوة من أمها، أو عبثًا بوصاياها الأخيرة. كانت قد رفضت الأمر، بل قاومته.
لكن الآن… فهمت.
فهمت لماذا الساحرة العظيمة—التي دفعت حياتها ثمنًا لتغيير مسار القدر—تركَت هذه الكلمات وكأنها مجرد وصية عابرة.
لم تكن وصية… بل نبوءة.
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات