“بعد ما سمعتم، ألستم أنتم أدرى مني؟ إن كان هناك خطأ أو ما يستدعي التصحيح…”
أجاب سيدريك بهدوء:
“الخطة بحد ذاتها سليمة، لا عيب فيها.”
وقال إدغار:
ـ”إنها مرتبة، لكن بالنسبة لخطة ساحر عظيم فهي تبدو عادية بعض الشيء.”
استدار سيدريك متسائلًا عن المقصود، فشرح إدغار الذي كرس حياته في تتبع بحوث السحرة العظماء:
“لا يمكن أن تسير الأمور هكذا بسلاسة… هذا ما أراه.”
“تشعر أن ثمة ما هو أبعد؟”
ظهر القمر الأزرق على سماء بدأت تحمرّ، ومعه دوى صوت كأن شيئًا يحرث الأرض، فارتجف الثلاثة مكانهم.
كان الصوت أشبه بما سمعوه حين هاجمتهم المجسات داخل القصر.
أغمض سيدريك عينيه قليلًا ثم فتحهما هامسًا:
“ليس قريبًا. بعيد… أُقدّر أنه داخل القصر، كما كان.”
“كيف تجزم؟”
“لأن ختمين ما زالا باقيين. ولكي يغادر، لا بد أن يُكسر ختم آخر.”
“إذن ما زال الوضع مقبولًا الآن.”
أخذت إستيل نفسًا عميقًا، وبدا كأنها تبحث عن مخرج من الغابة، فرأت ممرًا ضيقًا كأثرٍ لطريق سلكه الناس قديمًا. فأشارت إليه وسألت إدغار:
“من هنا؟ لست متأكدة.”
“أتريدين المشي؟”
رسم إدغار دائرة انتقال بيده وأشار لهم بالاقتراب.
كادت إستيل أن تتقدم، لكنها توقفت فجأة بعد أن خطرت لها فكرة، وزفرت بصوت منخفض:
“هاه… هذه المرة لن يكون الأمر كما كان، أليس كذلك؟ لست واثقة أنني سأخرج حيّة إن تكرر.”
“ليس هذه المرة.”
كانت تعرف أن احتمال الخيانة الآن ضئيل جدًا، لكنها أرادت سماع التأكيد.
انسكب نور من الدائرة التي فتحها إدغار، فتلون شعر إستيل بالأخضر. دخل سيدريك ولوتشي أولًا، ثم لحقت بهما في النهاية.
بلمح البصر تبدلت المناظر. الأشجار الكثيفة تلاشت، وحلت محلها سهول مغطاة بعشبٍ ينحني تحت هبوب الريح المنبعثة من الدائرة.
تصلبت إستيل وهي تحدق فيما رأت:
ــ “هناك…”
ــ “موضع معركة قديمة.”
بين الأعشاب المتمايلة، برزت شفرات سوداء ضخمة مغروزة في الأرض، شبيهة بتلك التي كانت تغطي أنقاض القرية. تمتم إدغار وكأنه يستعيد الذكرى:
“كان مطرًا من السيوف. في البدء صغيرة، ثم راحت تكبر… حتى بلغت هذا الحجم.”
لم يكن لديه حينها سوى مقدار قليل من القوة يحمي نفسه به، فهرب وحيدًا.
كانت الشفرة الواحدة بحجم ثلاثة رجال، وأيّ نزول لها من السماء كان كفيلًا بإحداث مجزرة مروعة.
ابتلعت إستيل ريقها، وحدقت نحو القصر البعيد.
في ذكريات أمها، ظهر القصر من خلف ظهر والدها، وكانت أمها…
ــ “ميكاييل إيرنيست، خلال عشر سنوات، عليك أن تبقى حيًا وبصحة، هذا أمر. وأحسن تربية ابنك.”
ــ “هذا وقت جدي لا مزاح يا إيلين. زوجك في خطر، عودي حالًا…!”
تذكرت أن أمها قد غادرت من جهة معسكر الحلفاء… أي من الموضع نفسه الذي تقف فيه الآن.
سارت إستيل ببطء، كأنها تتبع خطى والدتها، فصوت ارتطام معدني عند قدميها جعلها تنظر للأسفل، فإذا بسيف صدئ مهمل. رفعته بيدها، وعيناها تجولان في المكان كأن المشهد يُعاد أمامها:
جنود يصرخون وسط الجحيم، متعصبون يضحكون بوحشية، وفي المركز كانت أمها، تتحدث مع قائد فرسان الهيكل، ثم تلتقط سيفًا مثلها الآن… وتطعن قلبها لتختم به العقد الدموي.
ــ “إيلين!!”
“إستيل!!”
امتزج صدى صرخة تريستان من الذكرى مع صوت الرجل بجانبها.
استفاقت لتنظر إلى يدها فإذا هي فارغة. رأته سيدريك يلهث، ثم خطف السيف من يدها ورماه بعيدًا، فانكسر على الأرض.
قالت باستحياء:
“أوه… آسفة. كنت أمسكه فقط.”
“ظننت الأمر سيتكرر ثانية.”
فكرت أن هذا الرجل هو ابن من شهد نهاية الساحرة العظيمة بأم عينيه. ضحكت بتوتر وقالت:
“مستحيل، تعرف كم أنا جبانة. ثم إننا هذه المرة لا نستعمل دم الساحر. هل سأطعن قلبي أنا؟ لا يعقل.”
لكن رغم ذلك، زفر سيدريك بقلق، مسترجعًا صورة جراح والده يوم انتهت المعركة، وما رآه في عينيه حينها.
“الطقس الدقيق الذي استعملته الساحرة العظيمة لإغلاق العقد بقي سرًا. لكني علمت مبكرًا لأن كثيرًا من الاجتماعات جرت في بيتنا بتلك الأيام. غرست السيف في قلبها، نزفت حتى أقصى حد، ثم غرست به العاقد فختمته…”
“في أي عمر سمعت هذا؟”
“مباشرة بعد المعركة. كنت في العاشرة.”
هبت ريح قوية فجأة، كأن ختم الساحرة الذي فصل جزيرة السجن عن الزمكان بدأ يضعف.
رفعت إستيل بصرها إلى الرجل وقد صار بالغ، وشعرت بغرابة وهي تنظر نحو الأفق.
“جميعنا أصبنا بالذهول… كنا نؤمن أنها ستنتصر بلا جراح، فهي الساحرة العظيمة. لكن منذ البداية، إيلين إيفرغرين رأت أن السبيل الوحيد للنصر هو أن تضحي بنفسها. كنا متفائلين أكثر مما يجب، أما هي فكانت واقعية، هكذا وصفها أبي.”
كانت الحكاية قاسية جدًا على مسامع طفل في العاشرة. ومع ذلك، جاء وقعها عليه مختلفًا.
هزّت إستيل رأسها، وهي ابنة الساحرة التي ماتت قبل عشر سنوات:
“أمي كانت تنوي الموت منذ البداية. أخرجتني من القصر، ومحَت ذاكرتي، ثم تركتني في الشارع.”
“لهذا، ربما تعلقتُ أنا بالنبوءة. لأن آخر من قابلته الساحرة العظيمة قبل المعركة كان أنا.”
في الأفق، تحت شمس المغيب المضرمة، تمايل شعرها الأحمر مع الريح كآخر وهج لحياتها. تلك كانت الصورة التي حملها الصبي في ذاكرته، ومعها كلماتها الغامضة:
ــ “أيها الصغير، لقد ساعدتني كثيرًا في إعداد الخطة. لذلك، بعد عشر سنوات، سأهديك هدية.”
ــ “وما هي هديتك لي؟”
ــ “عروسك.”
في ذلك الحين مرّت الكلمات على مسامعه عابرًا وكأنها بلا معنى. الحديث عن “عروس مستقبلية” لصبي في العاشرة كان سابقًا لأوانه بكثير. وفوق ذلك، كان سيدريك ذا العشر سنوات منهكًا من كثرة العائلات التي حاولت لفت انتباهه لتتزوجه من بناتهم مستقبلًا. لذا حين سمع كلمات الساحرة العظيمة، لم يشعر سوى بالملل قائلاً في نفسه: “مرة أخرى؟”
غير أنّ غياب الساحرة العظيمة بلا عودة غيّر من نظرته قليلًا.
“كنت أفكر، من هو ذلك الشخص الذي رأته ساحرة لا تحمل أي ملمح إنساني تقريبًا جديرًا بأن تذكره لي؟… بدا الأمر مضحكًا أن أقولها بلساني، لكنني شعرت بما يشبه المسؤولية تجاه الشخص الذي أوصتني به.”
“سيدريك، أنت بطبيعتك تتحمل المسؤولية.”
“ظننت وقتها أنني أستطيع، ولم أكن أعلم أن الأمر يتجاوز قدرتي، لذا أرى أنني كنت مغرورًا بعض الشيء.”
“حقًا؟”
قالتها إستيل، وهي تزحزح الأعشاب الكثيفة بيديها وتنظر فجأة إليه ثم اردفت:
“لماذا؟ لقد اعتمدت عليك كثيرًا حتى وصلت إلى هنا.”
“أنا شعرت أن عليّ حماية الشخص الذي ذكرتْه الساحرة العظيمة… لكن حين التقيت به.”
ثبت نظره إلى ظهر إستيل التي بعد لقائها بأبيها، بدت واثقة تمشي بخطى ثابتة إلى الأمام.
هز رأسه نافيًا.
لا، لم يكن الأمر كذلك. بل العكس تمامًا: هو من تغيّر وتطور بفضل لقائه بها.
وبينما أخذت إستيل تلهث وقد قاربت قواها على النفاد، سألت:
“لماذا تركت تلك الكلمات؟ هل كانت تقصد أن نلتقي بعد عشر سنوات ونختم العقد معًا؟”
“ربما قصدت ببساطة أن تتزوجي رجلًا صالحًا.”
توقفت إستيل للحظة، ثم أطلقت ضحكة قصيرة وهي تلتفت إليه.
كان واقفًا بوجه جامد، لكن أذنيه كانتا حمراوين تمامًا.
أمالت رأسها بخبث وسألته:
“…….. ليست مجرد أمنية شخصية، أليس كذلك؟”
“لن أنكر.”
“يا للعجب، كيف يمكن للإنسان أن يكون بهذا القدر من الوقاحة؟”
أبدت إستيل دهشة ثم غرقت في التفكير.
هل حقًا أرادت الساحرة العظيمة أن تضمن لابنتها زواجًا جيدًا فحسب؟ مستحيل. كانت لتقسم بحياتها أن الأمر لم يكن كذلك. لم يكن منطقيًا أن نتوقع من تلك المرأة تفكيرًا عاديًا. تمتمت:
“لا يمكن أن يكون السبب عاطفيًا أو لينًا… لا بد من وجود دافع آخر، لكن حتى الآن… لا أعرف ما هو.”
لم يكن في حياة الساحرة العظيمة فعل واحد غير محسوب. كل كلمة وخطوة وراءها غاية. إذن، لا بد أن ما قالته لسيدريك قبل أن تمضي إلى ساحة معركتها الأخيرة كان يخفي قصدًا ما.
في تلك اللحظة، ارتفع جسدها فجأة إلى الأعلى. تراجع سيدريك خطوةً إلى الوراء، ثم أنزلها برفق بعدما كان يحملها، وأشار إلى الأمام.
“عذرًا، اضطررت لفعل ذلك بسرعة… هناك شيء أمام قدميك.”
“هاه؟ ما هذا…”
تجمدت إستيل وهي تحدق بما ظهر بين الجذور الكثيفة المتشابكة للأعشاب.
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات