كان إدغار، بشكل مفاجئ وغير معتاد بالنسبة له، يبدو وكأنه يشعر بالذنب.
تجمّد سيدريك من الدهشة، واستحضر في ذهنه صورة إدغار وهو يلتصق به بجانب إستيل، مستفزًا ويستهزئ به.
دون تفكير، انطلقت الكلمات من فمه:
“ألا يكون ما ظنناه مجرد تمثيل؟ هل كان جزءٌ منه صادقًا فعلًا؟”
لم يأتِ أي رد.
ربما كان نصفه إجابة بالإيجاب.
كاد سيدريك أن يغضب، لكنه اكتفى بالصمت
فالذي أمامه رجل فقد كل شيء تحت وطأة قوة خارقة للطبيعة لم يجرّبها هو بنفسه قط.
كان إنساناً غارقاً في ظلام لم يبلغ سيدريك أعماقه يوماً، ولذا كان من العسير أن يفهمه.
استشاط صدره غلياناً لأنه لم يستطع استيعابه، لكنه كان في النهاية… حليفاً.
فمرّر يده في شعره وقال:
“فلننتقل أولاً. علينا أن نعثر على إستيل قبل أي شيء. إذن، إلى أين…؟”
لم يأتِه جواب. كان إدغار قد مضى بخطى حاسمة نحو جهة ما.
“وهذا إلى أين يذهب الآن؟”
تبع سيدريك خطواته بوجه متجهم، ثم سرعان ما توقّفا معاً عند مشهد غريب.
بين أنقاض بناء نصف مهدّم، كان هناك موضع وحيد خالٍ من الغبار، وعلى الأرض ملقاة رداء إستيل الخارجي، كأن أحدهم غطّاها به من قبل… تماماً كما فعلت لوتشي.
“إذن كانت هنا.”
“لكنها لم تمكث طويلاً.”
أجاب إدغار فوراً، ثم التقط الرداء ونظر حوله متفحصاً. وقبل أن ينبس سيدريك بكلمة، كانت طاقة خضراء قد التفّت حول الرداء، مكوّنة دائرة سحرية عملاقة.
ثم بووم!
ارتسم أمامهما سهم ضخم من النور.
رمقه سيدريك بصداع يثقل رأسه، وأطبق جفنيه قائلاً:
“إذن، الوجهة هناك.”
تنفّس بعمق وهو يحدّق في القصر الذي كان يتدفق منه جوّ كئيب خانق.
أومأ إدغار كما لو كان الأمر متوقعاً، وقال بوجه متجهم:
“لكنني لا أعرف شيئاً عن طرقات القصر من الداخل…”
كيف له أن يعرف؟ كان مجرد رجل من العامة، ولم يكن مسموحاً له بالاطلاع على معمار قصر السيّد.
غسل سيدريك وجهه بكفيه وقال:
“أعرف خطوطه إجمالاً. سندخل وحسب.”
رمقته نظرات خضراء متفاجئة.
“ما الأمر؟”
سأل سيدريك متعجباً، فأجابه إدغار:
“أنت لا تتردّد.”
“هاه؟”
“كنت أظنك ستتصرف بحذر.”
“ليس هذا وقت الحذر.”
حاول سيدريك الرد بطريقة طبيعية، لكنه شعر بشيء غريب فتوقف عن الكلام.
صحيح، فهو لم يكن ليتحرك دون أن يكون قد وضع خطة بديلة، فلماذا الآن يسرع؟ هل تأثير إستيل الحر؟ أم لأنها متورطة في هذا الأمر وهو أصبح متوتّرًا؟
ولعله خطر لإدغار الفكرة ذاتها، إذ تمتم:
“لو رأت إستيل ذلك لدهشت.”
“عندما نلتقيها… اعتذر أولاً.”
لم يأته جواب.
كان إدغار قد وصل إلى بوابة القصر، وجثا على ركبتيه يقلب جثة فارس من فرسان المعبد ممددة أمامها.
قال ببرود غير لائق بمواجهة الموت:
“مرّ نصف يوم تقريباً، أليس كذلك؟”
“أغلب الظن. فالفرسان هنا يتواصلون مع المعبد دورياً.”
“وما دام القاتل ليس أحمق، فلا بد أنه أدرك ذلك. قتل الفارس يعني أنه أعلن الحرب على المعبد.”
طقطق إدغار عنقه وهو يتمتم:
“يا للفوضى. لا بد أن طلبك للاستعانة وصل، والكهنة في المعبد أصابهم الإغماء، والفرسان سيُرسلون بحجم قوى مماثل لما كان قبل عشرة أعوام، وعندها سيفوح الخبر فيتهافت العابدون كذئاب مسعورة. لقد وصلنا قبل أن ينفجر كل شيء بثوانٍ معدودة.”
كان التوقيت عجيباً… إستيل أُجبرت على المجيء في نفس اللحظة التي وطئت أقدامهم المكان، قبل لحظة من انفجار حرب كاملة.
مرّر سيدريك يده بقلق في شعره وقال:
“ولماذا لا نستدعي سحرة البلاط الإمبراطوري أيضاً؟”
أجاب إدغار متردداً:
“لست واثقاً من أنهم سيكونون عوناً.”
“ولماذا؟”
التفت سيدريك إلى وجهه، وسرعان ما صمت.
نعم، كيف نسي؟ كم عدد السحرة في معهد الأبحاث الإمبراطوري ممن يحملون ماضياً يتجنب إدغار حتى ذكره؟
“حين تمّت هزيمة الكونت وخُتم، تظاهروا بأنهم ساعدوا قسراً بدافع الخوف، ثم تنصّلوا وعادوا إلى المعهد أو الأكاديمية.”
“وقد قبلوا ذلك منهم؟!”
“كانوا كُثراً، فلم يكن ممكناً رفضهم جميعاً.”
فالساحر شديد الولع بالعلم عادة ما يعتريه نوع من الرهبة أمام الشيطان، ومن بلغ مرتبة الانضمام للمعهد الإمبراطوري لا بد أنه لامس جماعة من عبدة الشياطين ولو مرة. فهل سيقفون بصدق في صف الإمبراطورية إذا مالت الكفة ضدها؟
في الحقيقة… لا يمكن الاطمئنان إليهم.
كلما كان الساحر أقوى، زادت احتمالية أن ينقلب إلى الجانب الآخر حين يرى أن الدفة تميل.
فما حال إدغار لوران، الذي لطالما برّر انحيازه للأقوى بشعار “البقاء للأصلح”؟
عندها تذكّر سيدريك كلام إستيل، وصوتها يتردد في ذهنه:
“صحيح أن إدغار يتكلم بفظاظة، لكنه في الحقيقة إنسان لا بأس به. قوته في السحر ممتازة، وحتى أسلوبه المزعج في الكلام يخفي قدرة على التعليم. لهذا… أريد أن يظل إلى جانبي دائماً.”
ارتسمت صورة ابتسامتها الواسعة في ذهنه، فارتجف سيدريك.
كاد ينساق خلف عاطفة لا لزوم لها، فتوقف عند هذا الحد.
هذا ليس حكمي لأصدره.
كان الساحر قد جرّ جثة الفارس إلى العشب، ثم رفع بصره إلى بوابة القصر العالية، يقيس بيديه كمن يحسب مسافة ما.
ضغط سيدريك كفه على جبينه.
لقد عجز عن التخلّص من عادته كقائد يريد أن يحكم في كل شيء. غير أن مكانه الآن ليس قائداً، بل مجرد ترس في آلة عملاقة صنعتها الساحرة العظيمة.
وتلك الساحرة بدورها، أدخلت في هذه الآلة حتى الرجل الذي فقد كل شيء قبل عشر سنوات واختفى من ذاكرة الناس…
أما من اختير ليجمع كل تلك الأجزاء ويعيد تركيبها فكانت إستيل بلانشيه.
لقد قررت أن تحتفظ بكلتا القطعتين معًا. لذلك، لم يكن لأي جدال منها الآن معنى.
أومأ برأسه، ثم التفت إلى إدغار وسأله:
“وماذا ستفعل؟”
“لا أدري… لكن، أأقوم بهدمه أولًا؟”
“ماذا؟”
وقبل أن يتمكن أحد من إيقافه، كانت دوائر سحرية صغيرة لم يُعرف متى رسمها قد ظهرت على كفِّ إدغار، لتتناثر نحو أرجاء البوابة وتلتصق بها.
دوّيٌ هائل تلاه تطاير شررٍ متوهج، ومع انفجار مدوٍّ انشق الباب الصلب وسقط متهاويًا نحو الداخل.
حدّق سيدريك بالبوابة وهي تنهار، ثم قطّب حاجبيه مفكرًا بمرارة:
‘حقًا… أهذا الأحمق الذي لا يُجدي معه شيء، جزء من خطة تلك الساحرة العظيمة؟’
دويٌّ مرعب دوّى في الأجواء، واهتز المكان كله من فرط الصدمة.
ارتجفت إستل بجسدها ونهضت في فزع، تدير عينيها في كل اتجاه، لكنها لم تُبصر شيئًا.
في تلك اللحظة، التفتت إليها لوتشي، وهي ما تزال تقذف من فمها لهبًا متواصلًا.
“ليس بعد… تابعي ما تفعلين.”
“حسنًا! لكن، ما الذي نصنعه بالضبط؟”
“اجعليه رفيعًا… أكثر رقة.”
“مم، ولكن إلى أي حد؟”
كانت لوتشي قد أمسكت بقطعة فولاذ مصهورة، وبيديها العاريتين أخذت تمدّها ورطيلها حتى صارت خيوطًا دقيقة.
رفعت إستل يديها، مظهرة القيود المحكمة على معصميها، وأشارت بذقنها نحو ثقبٍ ضيق كالذي للـمفتاح.
“إلى أن تصير رفيعة بحيث تدخل هنا، أترين؟”
“هناك؟ أُفف… حسنًا، سأجرب.”
ظلّت لوتشي تئنّ وتضغط وهي تشدّ الحديد المنصهر لتجعله أنحف ما يكون.
كانت إستيل تتابع بعينين متحفزتين، حتى قرّبت القيد من وجهها وأمالت حاجبيها قليلًا، ثم قالت:
“هل لي بطلب آخر صغير؟”
“ما هو؟”
“أثنِ الطرف الأخير قليلًا.”
“حسنًا!”
قبل أن تستشعر غرابة هذا الإذعان الكامل وهو ما لم تختبره قط مع سيدريك ولا إدغار كانت لوتشي قد فرغت من صنع دُبوسٍ يبدو هشًّا، وحملته بين أصابعها الصغيرة وهي تتمايل مقتربة منها.
“والآن، ماذا نفعل به؟”
كان الحديد ما يزال يتوهج بالحمرة، يُصدر أزيزًا وهو يبرد ببطء.
انتظرت إستيل حتى تصلب قليلًا، ثم ابتسمت بعينيها وقالت:
“الآن… ستفتحين به القيد يا لوتشي.”
“مـ… ماذا؟”
“اقتربي وادخلي بين ذراعي.”
كانت تستطيع أن تفعل ذلك بنفسها… لكن أن تُلقي بمثل هذا الأمر على عاتق فتاة صغيرة في عمرٍ ذهني لم يتجاوز الطفولة، كان أمرًا يؤلمها.
غير أن هذا كان الحل الوحيد.
تسللت التنين الصغيرة بين ذراعيها، وفتحت عينيها بدهشة وهي ترمش بسرعة.
“هل تجرّبين إدخال هذا الدبوس في ثقب القفل؟”
“حسنًا!”
ما إن غرسَته حتى صدر صوتٌ معدني مكتوم.
أمالت رأسها في حيرة، وظلّت توخزه مرارًا.
إستيل تتابعها بتوتر، تعضّ على شفتيها حتى تمتمت بتوجيه:
“لا تدفعيه اعتباطًا. اجعلي الطرف المثني نحو اليمين، ثم لُفّيه ببطء وأنتِ تدفعينه.”
“هكذا…؟”
صدر صوت طفيف، لكنه كان واضحًا لها، فهي اعتادت مطاردة ذلك الصوت عمرها كله.
حركت أصابعها داخل القيد، فارتسمت على وجهها ابتسامة ممزوجة بقلق:
لقد ارتخى قليلًا… ممتاز، الأمور تسير كما ينبغي…
ومع وجهٍ لا يستطيع إخفاء التوتر، قالت:
“هل تجلبين دبوسًا آخر؟”
“ها هو!”
“أدخليه أنتِ أيضًا. هذه المرة حاولي من الجهة اليسرى، وسأخبركِ بما يجب أن تفعليه عندما نسمع الصـ…”
دوّيٌ عنيف آخر اجتاح المكان، مصحوبًا برجّة هزّت الجدران.
كادت إستبل أن تسقط، لكنها تماسكت بصعوبة، ثم رمقت جهة الخارج بعينين تومضان غضبًا.
ما الذي يحدث هناك بحق السماء؟ أهي حرب اندلعت؟
وبمجرد أن خطر ببالها ذلك… تجمدت.
لأنها استوعبت أن النظر إلى الوضع الراهن… يجعل احتمال اندلاع حرب أمرًا غير مستبعد أبدًا.
****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات