ابتسم تريستان وهو ينهض ببطء ويتقدم نحو ابنته التي كانت تتراجع إلى الوراء بوجه مرتبك.
“وأيّ شيء في هذا سيّئ؟ إذا ما قورنَت حياة إيلين بحياة بقية البشر في هذه الأرض، فكلهم عديمو القيمة. ليس لأن عددهم كثير فهم جميعاً ثمينون. ما كان ثميناً عندي واحد فقط، ولذلك سأُعيده… ولو كان عليَّ أن أقتل الجميع لأجل ذلك.”
استفاقت أخيراً من صدمتها. ولأنها هي أيضاً قد أُجبرت ذات يوم على التضحية، كادت أن تنخدع للحظة، لكنها سرعان ما هزّت رأسها وصرخت:
“أأنت مجنون؟”
“ولهذا أحتاج إليكِ.”
في اللحظة التي تجمّدت فيها وهي تنظر في عيني والدها اللامعتين أمام وجهها، امتدت يده فجأة وأمسك بذراعها.
قبض على معصمها ورفعه مبتسماً ابتسامة باردة.
“بعد أن أضحّي بكل الأرواح في هذه الأرض، سأحتاج إلى دم إيلين. وذلك الدم لا يوجد إلا فيك.”
غمرها أسوأ ما يمكن تخيّله.
أصدر رأسها طنيناً أشبه بإنذار يصرخ بها: اهربي فوراً!
‘يا إلهي… هل كان كل ما أراده حين طلب مقابلتي مجرّد فخ؟’
حاولت أن تتملّص بكل قوّتها، وهمست بذهول، وعيناها شاردتان:
“الآن، ماذا…؟”
“لن تموتي. سيكون الأمر مرهقاً بعض الشيء فحسب، لكن الدم الذي يُسحب يمكن تعويضه بالعلاج والراحة.”
“أنت مجنون—!”
“قلت لن أقتلك.”
غير أن صدقه المرهوب الذي انبعث من عينيه جعل قفاها يبرد.
اقترب خطوة منها، فتراجعت مرعوبة، لكنه جذبها من جديد.
“أرجوكِ… أنتِ ابنتي. لن أقتلك أبداً. لذا…”
لكن تأكيده ذاك لم يزدها إلا قشعريرة. لو أنّ عينيه كانتا باردتين كعيون قاتل مستعد للتضحية بابنته من أجل إنقاذ زوجته، لكان الخوف أهون. غير أن تلك النظرة الحمراء حملت حنان الأب نفسه، وذلك ما جعلها أشد رعباً… نظرة مجنون سيبقيها حيّة فقط ليَستنزف دمها إلى ما لا نهاية.
انتزعت يدها من قبضته بأسنان مطبقة، وقالت بعناد:
“أرجوك، توقف الآن. ما الجدوى من كل هذا؟ أترى من المنطقي أن تقتل عشرات الآلاف لأجل أن تعيد شخصاً واحداً؟”
“لا قانون يمنع ارتكاب ما لا معنى له.”
ضحك بخفة ساخراً من نفسه، ثم ثبّت نظره في عيني ابنته وأردف:
“قد يكون الأمر كذلك. فقد كانت هي كل معنى حياتي.”
وفجأة، انفتحت أبواب القاعة جميعها كما لو ضربها إعصار، واشتعلت الرياح العاصفة، لتبعثر شعر الأب والابنة الفضيّ نحو السماء.
وضع تريستان يده مبتسماً على عينه اليسرى وسأل:
“كم بقي على انكسار ختمي؟”
“لن ينكسر أبداً.”
زمجرت ابنته بأسنان مطبقة، فابتسم لها ابتسامة مشرقة وقال:
“كاذبة. فأنا أشعر بذلك أكثر من أي أحد. الختم سيتهشّم قريباً، أليس كذلك؟”
كان الكذب في وجه والدها أمراً عسيراً. فجأة انطلقت قيود من مكان ما لتلفّ أصابع إستيل، وبما أنّ قواها السحرية ضعيفة أصلاً، لم تعد قادرة حتى على استخدامها.
انحنى الأب قليلاً ليلتقي بعيني ابنته وقال مبتسماً:
“أخبِريني بما تعرفين.”
“ولماذا أفعل؟ لماذا أبوح لِمن يريد قتل العالم كلّه ليُعيد ميتاً؟”
“لأننا عائلة.”
حبست أنفاسها. فقد تداخلت ملامح ماضيه، يوم كان يعلّمها السحر وهو يضحك، مع وجهه الحالي.
عندها أدركت أخيراً لماذا محَت إيلين ذاكرتها بنفسها… لأن ما لا نفع من تذكّره لا يجلب إلا الألم.
والآن، وقد علمت أنّه لا رجعة، فإن النظر إلى عائلة تؤمن بوجود رجعة كان أمراً بالغ الكراهية.
وحين ظلّت متمسكة بصمتها، نظر إليها بحزن ثم استدار. وفي اللحظة نفسها لفّها ضوء ساطع. أدارت إستيل عينيها متنهّدة:
الآن انتهى أمري… بعد اليدين، لم أعد أستطيع حتى تحريك ساقي.
بينما كان البرق يلمع في السماء خلف النافذة، قال تريستان وكأنّه يستشعر الطقس:
“أريد أن أعرف… ما كانت آخر كلمات إيلين لكِ.”
“ولماذا تسأل؟”
“لأنها لم تترك لي أيّ كلمة.”
ساد الصمت للحظة، ثم بدت عيناه غائمتين وهو يشرح ماضيه:
“حتى في ذلك اليوم على السهل لم تقل شيئاً. ربما كانت منشغلة بصدّي… لكنني حزنت.”
“…….”
“حقاً… ألم تترك لي شيئاً؟”
تملّك الرعب إستيل أكثر، أن يُلقي والدها مثل هذا السؤال في مثل هذا الوضع.
تحرّكت شفتاها بصعوبة وقالت:
“لم تترك لك شيئاً. لكن برؤيتي لك الآن… قد تكون أمي كانت لا تزال تحبك.”
“كانت تحبني بلا شك.”
“حتى وهي تتركني بوصية أن أقتلكَ؟”
انفجرت الكلمات منها بلا قصد، تحت وطأة الغضب، لتستفزه.
لكنها فزعت حين رأت أنه لم يغضب، بل بدا هادئاً، بل وكأنّه مسرور.
ما هذا؟
تساءلت مرتبكة، فتمتم تريستان:
“إذن كانت تفكر بي أيضاً…”
“ماذا…؟!”
وحين استعادت وعيها، كان نور دائرة سحرية يتوهّج تحت يده.
أحدقت بها بذهول بضع ثوانٍ، قبل أن تدرك أنها دائرة انتقال.
ارتسمت على وجهه ابتسامة أبٍ مشغول لكنه عطوف وهو يقول:
“امكثي قليلاً مع إيلين.”
أضاء نور خاطف أمام عينيها، وما لبث أن تبدّد، فإذا بها تجد نفسها في مكان مختلف كلياً.
كان كل شيء مظلماً دامساً. لا برد ولا حرّ، ولا رائحة كريهة ولا طيبة. لا صوت لإنسان، ولا حتى لفأر أو حشرة.
صمت مطلق في فراغ لا نهاية له.
وقفت وسطه مذهولة، محاولة فهم ما يجري، حتى أبصرت شيئاً فزمّت حاجبيها.
في قلب ذلك الفراغ، كان هناك شيء متكتّل. وكأن قوة ما جذبتها، سارت نحوه لتكتشف أنه بلّورة قرمزية قاتمة.
وداخلها، وكأنّه حُبس في كهرمان، كان شيء ما محنّطاً…
(كَهْرمان هنا تعني العنبر (amber)، وهو مادة صمغية متحجرة شفافة تميل للون الأصفر/البرتقالي، تُستعمل في المجوهرات وغالبًا ما تحفظ بداخلها حشرات أو نباتات صغيرة محنّطة عبر آلاف السنين)
“…هاه.”
رأت إستيل ملامح إيلين إيفرغرين كما ظهرت لها في الحلم، فوضعت يدها على جبينها وتراجعت إلى الوراء.
لقد كان المشهد حقيقياً إلى درجة مرعبة، وكأنها ليست ميتة بل غارقة في سبات عميق.
كان الجسد محفوظاً بتمام الكمال، لدرجة أنه لم يكن غريباً أن يفقد تريستان عقله بعد فقدان زوجته.
لكن الصدر المثقوب بطعنة نافذة، والرداء الملطخ بالدماء، أثبتا النهاية التي نالتها.
حدّقت إستيل بجسد أمها الهامد، وتمتمت:
“ماذا عليَّ أن أفعل الآن…؟”
“……”
“قولي شيئاً على الأقل. أما كنتِ في أحلامي لا تكفين عن الأوامر والتوبيخ؟”
غير أن ذلك لم يكن إلا الذكريات التي تركتها إيلين، أما الآن فالجسد أمامها لم يكن سوى جثة هامدة لا حياة فيها.
أطرقت إستيل تنظر إلى الأغلال التي كبّلت أصابعها، ثم انهارت جالسة على الأرضية الحجرية، والقيود المعدنية تحدث صوت احتكاك بارد وهي تجرّ على الأرض.
لقد انتهى كل شيء فعلاً.
لم يبقَ لها الآن سوى جسدها المكبَّل، ومعها جثة أمها وبعض النقوش السحرية المحفوظة في ذهنها والتي لا تستطيع حتى أن تستعملها.
أما السحر الذي كانت بارقة أملها الوحيدة، فلم يمضِ على تعلمه نصف عام، وها قد صارت أصابعها مختومة فلا مجال لاستخدامه.
لم يبقَ لها إلا أن تتحول إلى كيس دم لإحياء الساحرة العظيمة، سواء نجحت الطقوس أو فشلت.
ضحكت بسخرية وهي تحدّق بجسد إيلين:
“وماذا الآن؟ لقد فشلتُ في النهاية.”
تأملت أرجاء المكان جيداً ثم ضحكت بمرارة.
لم يكن فيه سوى باب واحد، باب معدني ضخم لا يمكن كسره باليدين العاريتين.
ترنّحت حتى وصلت إليه، وضعت أذنها على سطحه محاولة استشعار ما بالخارج.
لم تلتقط أي أثر لحركة أو أصوات. لعل السبب أن تريستان لا يملك خدماً أو أتباعاً يستخدمهم هنا.
لكن المشكلة أن غياب الحراس لا يعني أبداً أنها حرة في حركتها.
عادت بنظرها إلى جثة أمها وقالت:
“على الأقل فعلت ما بوسعي، أليس كذلك؟ لقد وصلت إلى هنا.”
تأملت يديها المقيدتين بصمت.
لم يكن هذا أول مرة تُكبَّل هكذا. لكنها في الماضي استطاعت أن تتحايل على من يملك المفتاح. أما هذه المرة، فمحدثها مجنون لا يُجدي معه الكلام.
‘أم أجرّب إطلاق السحر بعشوائية وتحطيم القيد…؟’
لكنها تذكّرت فجأة صوت رجل كان يقلق على سلامتها أكثر مما كانت هي تقلق:
‘يدك محشورة داخل هذا القيد. هل تدركين كم هي أصابع الساحر ثمينة؟ ماذا لو اخترقها شظى عند الانفجار؟’
ذلك الصوت الرقيق الحريص أوقفها.
أجل، لم يكن الأمر بتلك البساطة.
انحنت تسترق النظر إلى ثقب المفتاح.
لم يكن القفل معقداً، فهي قد فتحت من قبل صناديق كثيرة للمسافرين… لكن المشكلة أنها لا تستطيع استعمال أصابعها هذه المرة.
تمتمت بأسى:
“آه… لو كان هناك من يساعدني فحسب…”
بدا أن القفل قد يُفتح بسهولة لو ساعدها أحد.
لكنها لم تكن مرنة كفاية لتجرب بقدميها.
وبينما هي تجرّب حلولاً مستحيلة، إذ بصوت غريب يتردّد في المكان.
طن… طن… طن…
وكأن قطعاً من الحديد تتدحرج على الأرض الحجرية.
رفعت إستيل رأسها بسرعة، بحثت عن مصدر الصوت في الظلام، لكن عينيها لم تعتدّا العتمة بعد.
ثم دوّى صوت طَرق معدني، وكأن أحدهم شدّ المقبض. تلاه أنين خافت ومجهود مبهم.
كان الصوت مألوفاً على نحو غريب.
أخذت إستيل تميل رأسها محاولة استنتاج هوية صاحبه.
الأصوات ازدادت تكراراً، وبدت شديدة الارتباك، حتى اطمأنت قليلاً.
‘على الأقل… ليس والدي.’
إذن ليس الكونت الذي قد يغيّر رأيه فجأة ويأتي ليستنزف دمها. لكن… فمن يكون؟ لا وجود لأي حياة بشرية في هذه المنطقة.
وفجأة، خطرت لها فكرة:
“لحظة… بلى، هناك من بقي حياً.”
تذكّرت ذاك الكائن الذي تركته في الخارج بحجّة أن يراقب الوضع، الكائن الذي تعلم أنه لا يزال حياً.
‘لا يعقل…؟’
وبينما عيناها شاردتان إلى مصدر الصوت المبهم في الظلام، دوّى فجأة صوت غاضب طفولي:
“تبا…!”
وما لبث أن أخذ الباب الحديدي يحمَرّ من شدة الحرارة.
شهقت إستيل وتراجعت بخوف.
إحدى زوايا الظلام ذابت، ومن خلالها اندفعت أشعة من النور.
وفي اللحظة التالية، كان هناك جسد صغير يبتلع آخر نفحات من نيرانه، ثم يفتح فمه مطلقاً زئيراً صغيراً وهو يمد ذراعيه ويندفع إلى الداخل.
“إستيل؟! إستيـــــل!”
******
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات