قبل موعد العشاء مع متعاقد الشيطان مباشرة، كانت إستيل تحرق السجلات الثمينة التي تركتها الساحرة العظيمة.
استغرق منها الأمر وقتاً طويلاً لتكدّس في ذهنها كل الملاحظات التي خلفتها إيلين. وبعد أن تأكّدت من حفظها بالكامل، أشعلت إستيل بوجه جامد شرارة في أطراف أصابعها.
نظرت إلى سجلات الساحرة العظيمة وهي تتلاشى في دخان أسود حالك، ثم أغمضت عينيها بشدة وضغطت جبينها.
“هاه… لا أعلم إن كنت قد فعلت الصواب.”
الآن لم يعد هناك أثرٌ للخطة التي وضعتها الساحرة العظيمة لقتل الشيطان سوى في عقلها هي، إبنته الوحيدة.
لم تأمرها إيلين بذلك.
لكن وهي مقبلة على مواجهة متعاقد الشيطان وجهاً لوجه، رأت أن هذا هو الخيار الأمثل.
تريستان يسميه “عشاءً بسيطاً”، لكن فتاة عاشت طويلاً على قارعة الطريق تعرف الحقيقة.
إما أن تموت، أو تعيش.
كان عليها أن ترتّب أمورها في الحدّ الأدنى، وأن تضمن بصرامة سلامة العالم.
صحيح أن الشيطان لا يمكنه فهم لغةٍ من عالم آخر، لكن شعوراً غريباً كان يقول لها: لا يجب أن تترك تلك السجلات تقع في يديه مهما كان الأمر.
‘هل يجوز لي حقاً أن أفعل هذا؟ إلى أي مدى ستبقى ذاكرتي دقيقة؟’
مسحت العرق البارد المتصبب من ثقل المسؤولية بكمّها، ورفعت رأسها نحو السقف، ثم تمتمت كما لو أنها تطلب إذناً من شخصٍ غير موجود:
“وضع المتعاقد في مركز دائرة السحرية ذات المرايا بزاوية 360 درجة، وارسم فوقها دائرة سحرية بالقوة المقدسة لتقيّد الشيطان. ثم بعد ذلك… اقتله. هذا ما تعنيه الخطة. بهذه الدائرة السحرية التي لا أحد يستطيع تفسيرها إلا أنا وحدي.”
راودها شعور غريب، كأنها ترى ابتسامة إيلين أمامها.
هل بقي في عقلها أثرٌ من تلك المرأة؟ رفعت عينيها نحو السقف مرةً أخرى وسألت:
“هذه خطتكِ، أليس كذلك؟”
لكنها ليست في حلماً، بل واقع، فلا جواب يعود إليها.
كانت إستيل تتلاعب بيديها الفارغتين وقد ضيّقت عينيها، ثم نهضت.
صرير…
انفتح الباب من تلقاء نفسه من دون أن يلمسه أحد.
كان عبق الطعام يتسلل من الممرّ الخالي.
تنهدت إستيل وهي تحدق في الباب الذي فُتح بقوة السحر ثم خرجت إلى الممر.
‘أي طريقة هذه؟ هل هكذا يدعو السحرة أبناءهم إلى المائدة؟’
نفضت الرماد العالق في يديها وسارت نحو الطابق السفلي، وهناك رفعت حاجباً في دهشة أمام ما رأت.
كمية الطعام الموضوعة على الطاولة كانت أكثر من اللازم لشخصين فقط.
بقيت واقفةً مبهوتةً، فإذا بالكرسي يُسحب كأنه كان ينتظرها.
“اجلسي.”
لم تكن لهجته صارمة، لكن وقعها كأمرٍ لا يُرد.
جلست ببطء، ونظرت إلى أبيها الجالس أمامها، ثم أطرقت إلى الحساء الموضوع أمامها.
‘لن يكون من الحكمة أن آكل… أليس كذلك؟’
أمسكت الملعقة وحرّكت بها الطبق بهدوء. فقال تريستان:
“لو كنتُ أريد قتلك، لقتلتك بالسحر منذ زمن.”
“…….”
“كلي مطمئنة. هذا عن صدق.”
‘وكيف لي أن آكل بعد سماع هذا؟’
وضعت الملعقة جانباً، فقال لها تريستان:
“أريد أن أُقارن ذاكرتي بذاكرتك.”
“قد تكون غير كاملة.”
“وأنا كذلك.”
كان وجهه شاحباً، كأنه لم يفق من النوم تماماً، وهو يتابع:
“في الحقيقة، حتى قبل أن أراكِ، كنت أظن في غموضٍ أنني قتلتك أيضاً. قتلتُ من البشر عدداً لا يُحصى، وظننت أن الطفلة التي بينهم ربما كنتِ أنتِ.”
كانت اعترافاً منه بأنه لم يعد يعرف من قتل ولا كيف، حتى ابنته لم يستثنها من هذا الغموض.
أحسّت إستيل بالقشعريرة.
كانت تعرف ذلك، لكن سماعه منه مباشرةً كان صادماً.
نظرت إليه صامتة، بينما هو شرد في الماضي بصوتٍ مفعم بعشرات المشاعر المتشابكة:
“لا أتذكر إلا اللحظة الأخيرة لإيلين. هذا هو المشهد الوحيد الواضح في ذاكرتي.”
“……والبقية؟”
“عندما يشارك الشيطان عقلك، تضطرب هويتك.”
“يعني أنك لا تتذكر شيئاً.”
أومأ الرجل إيماءة موافقة.
خطر ببال إستيل وجه إدغار المفعم بالغضب.
ماذا قد يفكر ذلك الرجل لو علم أن من دمّر موطنه وعائلته لا يتذكر أصلاً ما حدث؟
عضّت شفتها السفلى بقوة وهي تحدق في أبيها.
‘ما الذي أفكر فيه الآن؟’
خرجت كلماتها قبل أن تدرك ذلك:
“تذكرت الآن شيئاً غامضاً. منذ أن بدأت تتغير، لم أرَ أمي لفترة طويلة. ظننت أنها خرجت في رحلة طويلة فحسب.”
“آه.”
“الآن أفهم. كان سلوكك، وأجواء القصر كلها غريبة. لكنني كنت صغيرة ولم أدرِ. كنت ألعب وحدي… حتى تلك الليلة التي دخلت فيها أمي من النافذة لتأخذني بعيداً.”
تصلّبت إستيل وهي تستعيد صورة البيت الموحش وغياب إيلين.
‘الآن فهمت متى كتبت أمي تلك الملاحظات بالحبر الأحمر.’
‘خلال تلك الفترة، كانت تتحرك في الخفاء، تخبئ سجلاتها هنا وهناك، تضع إشارات على الأدلة، لتترك إرثاً لابنتها التي قد تكون حية أو ميتة بعد عشر سنوات. لذلك كانت يائسة إلى ذلك الحد…’
دارت عيناها نحو أبيها وهي تحدجه، فقال تربستان بنبرة أقرب للمزاح:
“آه، تذكرتُ. ذلك اليوم حين خرجت إبلين هاربةً من المنزل.”
“لماذا فعلت ذلك برأيك؟”
لم يظهر عليه أي ارتباك، بل اكتفى بابتسامةٍ هادئة.
أوهامٌ أم حقيقة؟ بدا أن الختم السحري الذي زرعته المرأة التي أحبها في عينه اليسرى يلمع.
رفع تربستان كأس النبيذ الأنيق وقال:
“لتمنعني على الأرجح.”
“وأنت تعرف هذا كله، فلماذا فعلت ما فعلت؟”
“ليس هكذا يُسأل السؤال يا إستيل. اسأليه بشكل صحيح.”
مسح الرجل تلك الابتسامة الخافتة عن وجهه وحدّق في ابنته بصمت. ثم عاد بملامحه إلى برودتها وكأنه يتلمس دهوراً مضت بعينين فارغتين، وتمتم:
“إن أردتِ جواباً أدق، اسألي عمّا كنتُ سأتلقاه مقابل عقدي مع الشيطان يا إستيل.”
كادت تصمت رهبةً، لكن الفضول غلبها.
رفعت إستيل رأسها ونظرت إليه بعينيها تستحثه على الكلام. فمسح هو شعره الفضي بأصابعه وأجاب:
“حياة الساحرة العظيمة مقابل كل الأرواح الموجودة على هذه الأرض.”
ابتسم الرجل وهو يواجه نظرات ابنته المصدومة:
“ذلك كان شرط عقدي.”
روحٌ واحدة مقابل آلاف، او ربما ملايين.
فجأة بدأت كل القطع المتناثرة تتشابك في ذهن إستيل.
تذكرت ذلك الحب الهوسي الذي كان يكنه والدها لوالدتها، وتلك اللحظة التي انهار فيها حين علم بمرض الساحرة العظيمة.
‘آه… هكذا إذن.’
لم يبعث الفهم في نفسها الطمأنينة، بل أثقل قلبها أكثر.
كان نبضها يدق بجنون، وصار رفع رأسها صعباً.
كان من العسير أن ترى إنسانيةً في وجه متعاقد الشيطان الذي أزهق أرواحاً لا تُحصى.
“صفقةٌ جيدة أليست كذلك؟”
كانت ملامح الجنون التي تلوح في عيني أبيها تثير في نفسها القشعريرة.
شدّت على الملعقة في يدها كما لو كانت تتمسك بشيء.
ومرّ أمامها فجوءً وجه إدغار، ذلك الوجه الذي، عندما اكتُشف ماضيه أمامها، أصبح عدائيًا إلى أقصى حدّ.
“حياة أمي الواحدة مقابل قتل آلاف؟ تعتبر هذا شرطاً جيداً؟”
“ليست آلافاً. قريباً ستصبح عشرات، مئات الآلاف. كل الأرواح في هذه الأرض هي الثمن.”
قالها ببرود كأنه يتحدث عن موعد عادي في المساء.
الوجه الذي كان يحمل شيئاً من الإنسانية عندما تحدث عن الساحرة العظيمة اختفى تماماً.
كان يبتسم، لكن ابتسامته لم تكن سعيدة.
تذكرت فجأة كلمات إدغار:
‘… حسناً، لكنني لن أضع حياتي على المحك. إنقاذ العالم؟ هدف عظيم، نعم. ساعدتكُ لأنني كنت أعمى بالبحث. لكن إن جاء اليوم الذي يجب أن أضحي فيه بحياتي، فسأهرب قبل أي أحد.’
‘لستُ مهتماً بالعدالة أو ما شابه.’
لو أن شخصًا كهذا قد سلب المرء أسرته ومكان عيشه في لحظة، لكان مفهومًا أن يتحوّل إلى شخص يائس سوداوي. ( يعني لو تريستان حصله هيك زي ادغار بيكون منطقي لو تعاقد مع شيطان )
حتى الابنة التي قضت طفولتها معه تجمدت من رهبة وجوده.
كان أشبه بكارثةٍ مُصوّرة على هيئة إنسان؛ شخص لا يملك أي حِسٍ من الضمير عند سحق الآخرين بقوته، فراغٌ قائمٌ على ملء نقصه الخاص فقط.
كان كفيه تؤلّمانه من شدة قبضته. بالكاد تمالكت إستيل نفسها ورفعت رأسها وسألت:
“لقد انتهى الأمر بالفعل. لم يعد هناك ما يمكنه أن يُنتزع.”
“لقد ماتتْ في معركتها معك. ودفنوا قبرها، وكان ذلك قبل عشر سنوات. تقول إنك تستطيع إعادتها للحياة؟ هذا لا يصح…”
“هناك جثة.”
ماذا؟
نظرت إليه بعينين ذهبيتين متّسعتين من ذهول.
لم تعد تدري من أين يبدأ الخطأ.
كان عليها أن تتراجع عن فكرة أن هذا الرجل إنساني أكثر من والدتها.
مسحت جبينها وقالت:
“…جثة؟”
“في القبو. الشيطان احتفظ بها محفوظة كي يعيد فتح عقده معي. في حالةٍ كاملة.”
يا له من مجنون…
بلا وعي، شتمته بلا رحمة في صدرها، ثم غطّت وجهها بيدَيْها.
بعد لحظة رفعت رأسها وسألت من جديد:
“هل تعتقد أن أمي كانت ترغب في ذلك؟”
“لا. لو كانت تُريد ذلك لما كنتُ قد أحببتها.”
عبّر وجه متعاقد الشيطان عن تقلّبٍ كما لو استعاد صورة زوجته الأخيرة.
لاحظت إستيل أن لون عيني أبيها تزداد حمرةً شيئاً فشيئاً، فابتعدت ببطء عن مقعدها وقفَزتْ واقفة.
بدا أن تصرّفها يزعجه؛ ضحك الرجل بسخرية ثم قال بنبرة قاسية:
“لم يكن هناك من أكثر تضحيةً من إيلين. قدّمت جسدها وحياتها لتصدّ أعداءً آذوا هذه البلاد وكثيراً من الناس؛ بعض أعمالها عُرِفت، لكن أغلبها طُمِس.”
“…….”
“لولا وجود إيلين، لانقرض نصف من على هذه الأرض، إمّا بموتٍ سابق، أو بعدم ولادتهم أصلًا. فالأرواح التي تعيش الآن، إنما تحيا بفضلها.”
قال كما لو كان الأمر أمراً عابراً، ثم واصل بنبرة لاغية:
“فهل سيكون من الغريب أن أموت من أجلها؟”
“لماذا نُضحّي بالأكثرية من أجل واحدٍ—”
“ذلك الواحد كان كل شيءٍ بالنسبة إليّ.”
عندما قالها بصوتٍ كأنه يضغط على أسنانه، شعرَتْ إستيل فجأةً بإحساسٍ مألوف وارتجفت.
مرت شظايا من الماضي عبر ذهنها.
المعبد الذي طلب منها أن تموت من أجل الكثير، ووالدُها الذي يعلن استعداده لقتل الجميع من أجل الشخص الوحيد الذي يحبه، كل ذلك عاد يطوف في رؤاها.
****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 126"