حين فتحت عينيها، وجدت نفسها من جديد في وسط الأطلال التي كانت فيها قبل قليل.
كانت لوتشي تغطّ في نومٍ عميق عند قدميها، وكأن لا وحش بريّ ولا حشرة في المكان.
ساد سكون مطبق إلى حدٍ جعله أكثر رعبًا من أي ضوضاء.
شددت إستيل قبضتها، وحدّقت بحدة إلى أطراف قدميها.
‘امرأة مجنونة… كيف يمكن لامرأة كهذه أن تكون أمي…’
باختصار، كان الحلم يقول لها: افعلي كما تشائين.
لقد سلّمتها كل ما تريد أن تبلغه إليها، وما تبقى فهو أرض مجهولة حتى لها.
كلام فيه ثغرات واسعة على غير عادة ساحرةٍ عظيمة تدخلت آلاف المرات في مجرى التاريخ.
صرّت إستيل أسنانها وتمتمت:
“حسنًا… أجل، ولِمَ لا…”
أهناك ما هو أسوأ من الموت أصلًا؟
سواء ظلّت تنتظر عبثًا إرشاداتٍ من الساحرة العظيمة لن تأتي أبدًا، أو قررت أن تتصرف وفق ما تراه، فالنتيجة في النهاية موتٌ واحد.
إن كان لا مفرّ، فالموت بعد محاولة أفضل من الموت ساكنة.
كان عليها أن تدخل القصر على أي حال. إن كانت الأم قد تركت أدلة أخرى، فلا شك أنها هناك. كما أنّ لقاء الأب أمر لا بدّ منه ولو مرة.
الغريب أنّ حلمها بأمها أيقظت فيها روح التحدي. فبسطت الكتب المبعثرة حولها، وبدأت تقلب كالمجنونة في دفاتر الساحرة العظيمة.
تماوجت في عينيها الذهبيتين لمعة الجنون التي ورثتها عنها.
“هذا… وهذا… وأيضًا ذاك.”
مزقت الصفحات التي تحمل النسخة الأولى من الدائرة السحرية والنسخة الثامنة والعشرين، تلك التي تركتها الساحرة ولم يستطع أحد حلّها، والتي نسختها من إدغار وحشرتها في جيبها.
ثم مزقت السجل الذي وجدت فيه في الأكاديمية دائرة المرآة السحرية.
وأخيرًا أمسكت آخر يوميات.
“…وهذه، بكاملها.”
نهضت إستيل وجيبها ممتلئ بالدفاتر والورق، وألقت نظرة بعينين نصف مبتلّتين على الشمس الغاربة، ثم حدّقت إلى القصر المتهدم تحت سماء مصبوغة بالدماء.
“فلنذهب.”
أما اصطحاب لوتشي… فذاك سيكون عبئًا ثقيلاً.
يكفي أن تراقب الوضع سريعًا ثم تعود لتقرر ما تفعل.
ابتلعت ريقها بمرارة، وخلعت معطفها لتغطي به لوتشي قبل أن تخطو بخطى بطيئة نحو الخارج.
تفكري فيما وراءك؟ حسنًا. سأكون ابنة مطيعة لآخر مرة. وهذه الأخيرة فقط. بعد هذا أقطع صلتي بالوالدين تمامًا.
تركَت خطواتها الصغيرة آثارًا فوق أرض مغطاة بالتراب، وهي تسير رويدًا نحو القصر الذي كان بيتها ذات يوم.
***
الإقطاعية كانت ساكنة إلى حدٍّ مرعب.
مذبحة العشر سنوات الماضية قد تركت أثرًا عميقًا.
كانت تعرف أنّ كل كائن حيّ في هذا المكان قد هلك، لكن حتى الريح لا تهبّ، وكأنها محبوسة في غرفة لا في العراء.
أهذا أيضًا من تأثير أمها؟
عندما بلغت مدخل القصر، توقفت فجأة.
كانت تظنّ المكان خاليًا، لكنه لم يكن كذلك.
أول ما وقعت عليه عيناها: زيّ فرسان المعبد، تمامًا كما رأت في المعبد. لكن ما أثار الرعب أكثر هو أن صاحبه كان مطروحًا أرضًا.
لم يأت جواب. ازداد جسدها ارتعاشًا وهي تزحف نحوه زحفًا، ثم هزّت كتفه بيد مرتجفة.
“اسمعني…!”
في تلك اللحظة أدركت. جسده لا يحمل أي دفء ينبغي أن يكون في جسد إنسان حي.
ارتدت مذعورة واعتدلت واقفةً دفعةً واحدة. لكن قدرتها على الاستنتاج لم تخذلها؛ وصلت إلى النتيجة سريعًا.
عضّت شفتها وهي تتراجع بخطوات مترددة.
إنه ميت…
وهو بالتأكيد ليس من ضحايا المذبحة القديمة، بل قُتل حديثًا. النتيجة بسيطة:
ختم المتعاقد مع الشيطان بدأ يتصدع حقًا.
كان هذا الفارس من المكلّفين بمراقبة المكان.
التفّت لتتجاوز جثته نحو الباب، لكنها جمدت في مكانها. أن تدخل هكذا مباشرة سيكون بمثابة أن تسلّم نفسها طوعًا.
ترددت لحظات، ثم رفعت بصرها إلى الأسوار الشاهقة.
دقائق بعد ذلك، تسلق ظلّ صغير الجدار وعبره.
***
كان داخل القصر في فوضى مروّعة.
النباتات التي كانت تزين الحدائق تمددت بعنف، جذورها وسيقانها كأنها تتشعب في كل مكان، حتى صارت الأرض وعرة ومشققة. لو أنّ جذور الأشجار هزّت أساس المبنى لانهار في أي لحظة، لما كان ذلك أمرًا مستغربًا.
جرّت إستيل قدميها فوق الأرض، تخطّ خطوطًا بطرف حذائها، وهمست:
“الذكريات…”
هل يمكن أن تعود؟ ربما. لكن في الحقيقة، لم تكن واثقة. الخراب كان طاغيًا إلى درجة يستحيل معها التعرّف على شيء. ومع ذلك، لمجرد وقوفها في هذا المكان، تسللت إلى خاطرها ومضات طفولةٍ ضاحكة في بيتها… لحظة، بيت؟
شهقت متذكرةً شيئًا، وتمتمت:
“في ذلك الوقت كانت تجري أبحاثها.”
لقد سخّرت الساحرة العظيمة حياتها كلها لإيقاف المتعاقد مع الشيطان. حتى وهي تدّعي أنها غفلت لحظات، قالت في الحلم إنها زرعت “بذورًا احتياطية” تحسبًا لأي طارئ.
أي أنها لم تُسقِط كل شكوكها حتى بعد زواجها من تريستان بلانشيه.
لهذا وضعت خططًا لِما بعد موتها بعشر سنوات، وجعلتها واقعًا.
ومن البديهي إذن أنها واصلت أبحاثها حتى بعد زواجها من تريستان، وأنها خلال تلك الأبحاث تحسبًا للمستقبل نقلت بعضًا من علمها سرًا إلى ابنتها.
‘هذه اللغة… هي سرّ بيني وبينك.’
أين كانت الغرفة التي علمتني أمي فيها تلك اللغة؟
لم يكد عقلها يسترجع حتى بدأت قدماها تتحركان وحدهما بتردد، تقودانها إلى مكان ما.
لم تكن تعرفه يقينًا، بل سلّمت نفسها للإحساس فقط، فصعدت الدرج خطوةً خطوة.
الطابق الثاني، الثالث، ثم طابق آخر… حتى بلغت الطوابق العليا من القصر، وهناك وقعت عيناها على لافتة جعلتها تطرف بجفونها.
[دخول ممنوع قطعًا.
من يتجاوز يُحوَّل إلى خلد]
كان ذلك بخط يد أمها المألوف لديها الآن.
وفجأة انتابها شعور بأن هذا الطابق خاوٍ على نحو خاص. صحيح أن القصر بأسره، بل والإقليم كله، صار أطلالًا، لكن بدا وكأن هذا المكان لم يكن مأهولًا حتى قبل الكارثة.
نقرت اللافتة بإصبعها لمرة واحدة، ثم وضعت يدها على مقبض الباب.
وفي تلك اللحظة اجتاحها إحساس غريب وكأن مجال بصرها انقلب رأسًا على عقب، وتبدّل المشهد من حولها في غمضة عين.
استغرق الأمر قليلًا حتى استوعبت ما حدث.
الخلاصة بسيطة: ما إن لامست المقبض حتى انتقلت إلى داخل الغرفة مباشرة.
“ماذا… ما هذا؟!”
شهقت مبهوتة، وضغطت على صدرها الموجوع من شدة خفقان قلبها.
كان دخولًا غريبًا للغاية.
الأمر أزعجها وأثار حنقها، لكنها لم تملك رفاهية السخرية من طرق أمها الملتوية.
أمام جدار مغطى برسومات هندسية معقدة، انهارت جالسة على الكرسي عند المكتب، ثم أخرجت بعجلة الأوراق التي حشرتها في جيبها من قبل.
“لنرتبها حسب الترتيب الذي حصلت فيه عليها أولًا.”
قالت ذلك وهي تقضم ظفرها بقلق.
[أولًا: الدائرة السحرية ذات المرايا الـ٣٦٠ درجة، التي لا أدري أصلًا فيمَ تُستخدم.]
بقيت لغزًا حتى الآن. وضعت الورقة جانبًا، ثم التفتت إلى الورقة التالية:
[ثانيًا: الدائرتان السحريتان، النمط الأول والنمط الثامن والعشرون، المرسومتان بلغة غامضة لم يستطع أحد حلها.]
لم تكن حروفًا بالمعنى الدقيق، بل أشكالًا وخطوطًا متشابكة بلا قاعدة واضحة، لذلك استعصت على المفسرين، ولم يستطع أحد فهم معناها أو تشغيلها.
كانت هذه إذن دوائر مجهولة تركتها الساحرة العظيمة للبشرية.
تأملت نسخها المشوهة وهي تعض شفتها، ثم نقرَت بطرف إصبعها سطح المكتب وقالت:
“لكن لقب الدوائر المجهولة صار من الماضي… لأنني أنا التي حللتها.”
وضعت الورقتين فوق بعضهما، فامتزجت الخطوط والأشكال المبعثرة لتكوّن بناءً متماسكًا. لم تكن هذه اللغة من لغات هذا العالم، لكنها كانت الوحيدة التي ورثت أسرارها عن الساحرة العظيمة.
ثم راحت تتمتم ببطء كلمات بلغة لا يعرفها أحد في هذا العالم:
“الإبادة الأبدية…”
تأملت بعينيها خطوط الدائرة المعقدة التي التفت داخلها وبدأ رأسها ينبض ألمًا.
كانت هذه الدائرة السحرية أقوى بمراحل عدة من الدائرة السابقة التي كان يمكن ختمها بالكاد بعد المرور بعملية متعبة تتمثل في تقطيع الشياطين إلى أجزاء وتوزيعها في خمس مناطق من القارة.
حتى إستيل التي لم يكن لديها بعد اطلاع كبير على السحر، شعرت بقوة هذا الختم فورًا.
وبينما كانت ترسم بعناية دائرة سحرية معقدة جدًا بحيث يصعب تخمين طريقة رسمها، تمتمت:
“لا أحد يمكنه فكها… إلا أنا….”
الدائرة السابقة نفسها كانت معقدة بالمثل.
فقد خلطت لغات قديمة للبلاد المندثرة، مع عدة لغات أجنبية، مما جعل العلماء السحرة يقضون وقتًا طويلًا لفك رموزها. ومع ذلك، لأنها كانت من لغات هذا العالم، تمكنوا بعد جهد طويل من حلها.
لكن هذه الدائرة…
‘يمكن للشيطان أن يتقن تمامًا كل لغة يستخدمها من يعرف بوجوده في هذا العالم.’
‘لكنني جئت من عالم آخر.’
حدقت إستيل في الدائرة التي كُتبت بلغة من عالم آخر لا وجود فيه للشيطان، أي خارج نطاق تأثيره، وهزت رأسها بدهشة.
إذًا، بمجرد تفعيلها بشكل صحيح، هذه الدائرة السحرية لا يمكن حتى للشيطان تفسيرها. وإذا لم يتمكن حتى من فهمها، فلا أحد يمكنه فكها…
فجأة، بدأ قلبها يخفق بجنون.
شعرت بكلمات الساحرة العظيمة تصل إلى جلدها: كل شيء قد تم نقله إليها.
“واو… ماذا أفعل؟ أريد حقًا الهرب…”
صفعت إستيل خدها وقالت لنفسها:
“ركّزي.”
ركزت.
حتى لو هربت، فإن الهلاك سيلحق بها…
أخذت نفسًا عميقًا وأخرجت السجل التالي:
[ثالثًا، دائرة تقييد مكتوبة بلغة المعبد.]
قال سيدريك إن الدائرة لن تعمل بالقوة المقدسة، فبالرغم من أنها مكتوبة بلغة المعبد، إلا أن من يعرفون هذه اللغة يجب الا يجيدو السحر، لذلك لن تمتلك أي قوة فعلية. ( اي ان الي يستخدمو السحر مراح تكون للغة فائدة )
عبثت إستيل بالدائرة بلا معنى، وهي تفكر:
إذًا يريدون مني استخدامها لأنني أفهم لغة المعبد؟ لا… لا… لو أرادوا مني استخدامها، لكتبوا الدائرة بلغة عالم آخر. إذًا يريدون مني استخدام القوة المقدسة…
ثم تمتمت:
“هل يوجد شيء يمكن استخدامه كوسيط؟”
لم تستغرق لحظة حتى أدركت دهشتها من قولها ذلك، إذ خطرت في ذهنها كائن حي يتوافق مع كلا القوتين المتعارضتين: السحر والطاقة المقدسة.
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات