اغشى الغموض بصره الأخضر كأنه يستحضر ماضياً بعيداً.
حدّق في قطرات الماء التي تتساقط في الظلمة الحالكة، وتمتم:
“بعقلك، هل يمكن لمجرد رجلٍ من العوام أن يُقبل في معهد السحر مهما كانت موهبته؟”
هذه أول مرة يسمعها سيدريك. قطّب حاجبيه وأجاب:
“كنتُ أظن أن الأمر كذلك. فمن بعدك، بدأ بعض القلائل من العوام دخول المعهد. والإمبراطورية تريد احتكار السحرة الموهوبين لتقييد معابد القوى المقدسة، فلا مجال لانتقاء الطبقات. ألستَ ترى؟”
قهقه إدغار ساخرًا:
“لو عشتَ كابنٍ لأسياد، لرأيتَ الأمور بتلك البراءة. يا للحسد.”
كان كلامه صريحاً حدّ الوقاحة. لم يجد سيدريك رداً، فألقى إدغار كلماته كالطَعن:
“العوام لم يُسمح لهم أصلاً بالتقدّم لامتحان المعهد. وبما أنه لا وجود لأي مؤسسة رسمية أخرى لتعلّم السحر، فإن السبيل الوحيد لشق هذا الطريق كان بالحصول على توصية من الساحرة العظيمة.”
“فالثمن كان توصية إذن؟”
لم يُجب إدغار، لكن ملامحه المتجهمة وكأنه يستعيد ذكريات أليمة، دلّت بوضوح على أن هذا صحيح.
عاد الارتباك يعصف بسيدريك، وأخذ يذرع المكان بقلق.
أيكون ما كلفته الساحرك العظيمة بعد عشر سنوات كاملة، مقابل ذلك الثمن، هو أن يدفع بابنتها إلى الهلاك وحدها؟ دون أن يعينها أحد؟
عضّ سيدريك شفته بشدة.
“ما زلتُ غير قادر على الفهم.”
“الساحرة العظيمة لم تحتاج قط إلى أن تفهمها. لم يفعل أحد حتى الآن.”
وهذا ليس بخطأ.
فما شهدته هذه البلاد من شخصية كساحرة عظيمة لم يتكرر قط.
أمرأة لم يكن حتى الإمبراطور بحاجة لإقناعها.
مجرّد أن تقول ‘هكذا أرى’، كان كافياً ليتطلّع إليها الجميع باحترام كبير. وتلك هي “إيلين إيفرغرين”.
لكن، ماذا يفعل إن كان يرفض الانصياع لتلك النبوءة؟ وهو القائد الأعلى للفرسان المقدّسين، ويعلم أكثر من أيّ أحد حجم تأثير تنبؤات الساحرة العظيمة في ردع الشيطان.
حتى لو أجمع العالم بأسره أن كلامهل حق، إن لم أرغب أنا في اتباعها…
“أيُّ عالمٍ ذاك الذي لا يقوم إلا على قتل البشر ليستمر قائماً؟ لا يمكن أن يكون عالماً سليماً.”
“هاه……… إجابة صحيحة.”
ومع ذلك، كانت تلك المرأة قد قالت له شخصياً مثل هذه الكلمات.
أعاد سيدريك تفكيره، ثم واجه إدغار بصرامة معلناً:
“سأذهب. دعني أرحل.”
ابتسم إدغار بسخرية، مشكّلاً بيده إشارة بذيئة، وكأنه يقول ‘لن أسمح، فاقتُلني إن استطعت.’ اشتعل غضب سيدريك فجأة، فأمسك بياقته بعنف.
“كنتَ معلمها ذات يوم. ألا تشعر بالقلق؟ إنها ذهبت لملاقاة الكونت وحدها، دونك ودوني──”
“لا أرى أن القلق عليها من شأنك.”
“ماذا؟”
“أتقلق على كارثة؟ القلق ينبغي أن يكون على البشر.”
أصابه الذهول من هذه العبارة غير المتوقعة، فحدّق إليه بعينين ضيّقتين متسائلاً عن مغزاها.
“إستيل بلانشيه ليست كارثة.”
“صحيح، إنها معنا. لكن إن قارنّا قوتها، فهي تكاد تبلغ مرتبة الكوارث. فما بالك ووالداها معاً كارثتان.”
“تكلّم بوضوح──”
“أقول إن الأمر يتجاوز طريقتنا البشرية في التفكير.”
تكلّم إدغار بعينين باردتين، لكن بصوت متوتر يخون انفعالاً لم يعتد عليه.
“قبل عشر سنوات، توقّعت كل هذا قبل أن تموت، وصمّمت بحيث تصلني الرسالة بعد أن تمرّ عبر محطات عديدة، وفي اللحظة المحدّدة تماماً. تلك هي الساحرة العظيمة. أترى أننا نملك الحق في أن نقول إن حكمها صائب أو خاطئ؟ لو قلنا ذلك، فذلك محض غرور.”
أخرسته هذه الكلمات.
لم يتوقّع أن يجد نفسه عاجزاً عن الرد، فشعر أن كبرياءه قد انجرح.
كان كل ما ينوي فعله هو محاصرة إدغار ومطالبته بالكفّ عن هراء لا يُصدَّق، لا أن يجد نفسه مقتنعاً.
وكان سيدريك يعرف جيداً أنه يتعامل مع أمر عسير.
فالذي يحرّك خيوطهم هي عبقرية لا مثيل لها رحلت منذ عشر سنوات، وأمامهم عليهم مواجهة أعتى قاتل في التاريخ، ذلك المتعاقد مع الشيطان.
وقد سمع من أبيه ميكاييل القائد السابق للفرسان المقدّسين، والذي تولّى قيادة المعركة الأخيرة بنفسه، كم كانت قوّة ذلك الشيطاني مروّعة.
أخفى اضطراب ملامحه وقال بصلابة:
“ومع ذلك، فالخطأ يبقى خطأ. أتُرسلون ساحرة لم يمضِ نصف عام على تعلّمها السحر، وحدها، في مواجهة متعاقد شيطاني؟”
فأجابه إدغار:
“لم تكن وحدها. أرسلنا معها تنيناً.”
“تنين صغير غير مستقر، لم يكتمل نموّه بعد.”
“صحيح. لن أدّعي أن الأمر بلا خطر.”
رفع إدغار يديه مستسلماً كمن يعترف، لكنه كتم تأوهاً وقد تجعّد جبينه ألماً. فمع أنّه أعاد ترميم جسده بالسحر بعد أن تمزّق وتفجّر، إلا أن التعافي لم يكتمل. ابتسم بمرارة ورفع رأسه قائلاً:
“دعني أسألك إذاً: هل هناك شيء في رحلتنا حتى الآن كان بقرارنا نحن؟”
“…….”
“كلها كانت وفق مخططات الساحرة العظيمة. منذ البداية، نحن نسير على خطى وصيتها.”
ولم يكن في كلامه خطأ.
“إذن، أليس ينبغي أن يكون الأمر كذلك هذه المرّة أيضاً؟”
فأطبق الغيظ قلب سيدريك إذ لم يجد حجة للرد.
حتى اختياره لقوّة القوة المقدسة بدلاً من السحر، ومن ثم تسلّمه منصب قائد الفرسان المقدّسين، كان فيه أثر للساحرة العظيمة.
إستيل أيضاً ربتها الساحرة العظيمة، ثم تخلّت عنها، وحين حان الوقت، حمّلتها مهمّة إنقاذ العالم وأطلقها في رحلتها.
ولوتشي هي الأخرى، ربتها الساحرة العظيمة، ثم وضعتها في مكتبة الشيطان.
أما إدغار الذي ظنّ نفسه أكثر حرية، فقد تبيّن أنه بدوره مقيّد بوعد قطعه لتلك المرأة.
في النهاية، كل شيء كان تحت سيطرتها.
هزّ إدغار رأسه كمن ملّ، وحدّق شارداً في السقف المعتم. ورأى سيدريك في ملامحه لمحة مريرة.
“هذا هو حدّي. هنا تنتهي مهمتي.”
“……”
“وكذلك حدّك أنت. أن نجلس مكتوفي الأيدي، ننتظر. سواءً كان موت إستيل، أو فناؤها، أو خلاصها.”
كأنه يكرّرها لنفسه، همس إدغار مؤكداً:
“لسنا من يُسمح له بالتدخّل.”
“…أما أنا.”
“سلطتنا تنتهي هنا.”
كان صوته قاطعاً حاسماً، حتى غامت عينا سيدريك سواداً.
أن يقال له أن يتركها هكذا… أن تواجه النهاية المجهولة وحدها؟
ربما، في أفضل حال، ستعود حيّة سالمة بعد أن تهزم وحدها الكونت بلانشيه، أخطر ساحر في التاريخ، في معجزة لا تُصدّق.
لكن احتمالات السوء أكبر بكثير: أن يفنى الجميع، أو أن تموت إستيل وتحافَظ على العالم، أو أن تعود جريحة فاقدة لابتسامتها القديمة…….
قبض سيدريك على يده بقوة، وقلبه يعتصره الفزع.
ارتسم في ذهنه مشهد كتفيها الصغيرين المرتعشين، ويديها المتمسكتين به بتوسل وهي تمضي رغم خوفها.
كان يعرف تماماً متى ترتجف إستيل من الرعب، وكيف تواصل المضي قدماً رغم خوفها. والآن يُطلب منه أن يرسلها وحدها إلى ساحة المعركة؟
استحال ذلك في قلبه.
لكن، إن خرج هو بنفسه، فماذا لو انحرفت بذلك خطط إيلين إيفرغرين العظيمة؟ وماذا لو كان تدخّله سبباً في فشل إستيل؟
“تسك… آل بلانشيه هؤلاء… كلما ارتبطنا بهم، لا يتركون لنا سوى شعورٍ بالعجز.”
“……”
“حتى حين فقد الكونت بلانشيه السيطرة في ذلك الوقت…… لا، دعك.”
تصلّب إدغار، قاطعاً كلامه بوجه مخيف، وعضّ على أسنانه.
سقط صمت ثقيل، لا يُسمع فيه سوى قطرات الماء تتساقط على سطح راكد.
ومع طول الصمت بينهما، تكلّم سيدريك أخيراً.
خرج صوته متيناً، لا يفسح مجالاً للتراجع:
“……..صحيح. قد يكون الأمر كما تقول. وأعترف أن في كلامك وجهاً من الإقناع.”
“حقاً؟”
“لكن سواء أكانت نبوءة الساحرة العظيمة أم غير ذلك، لا يهمني. دعني أذهب.”
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات