استفاقت إستيل مذعورة كأن أحدهم قد صفعها على وجهها وهي نائمة.
فإذا أمام أنفها مباشرة زهرة كانت تضحك بصوت مزعج، لكنها حين رأت الفتاة تستيقظ، أطلقت صرخة وحشية.
ارتعبت إستيل أيضًا، فاشتعلت النار من أطراف أصابعها.
مع صوت فوووش امتدت النيران سريعًا لتحيل المكان بحرًا من اللهب. ثم صوبت النار إلى مركز الزهرة التي همّت مجددًا بنفث غبارها الخانق، فأحرقتها وهي تحدق فيها بوجه متوجس.
“كياااااا!”
زمجرت الزهرة ثم انهارت، بينما هتفت إستيل:
“حقًا… إن أردتَ أن تغرقني في نوم، فاجعلني أحلم حلمًا جميلًا، لا كابوسًا كهذا!”
ارتجف جسدها، وأزاحت رماد السيقان المحترقة.
‘يا إلهي… أشعر بالقذارة…’
عَضّت على أسنانها، ثم راحت ترسم دائرة سحرية جديدة.
لعلها كانت تستعيد في ذهنها ما راجعته قبل أن تفقد وعيها مباشرة، لذلك رغم تعقيدها رسمتها بسرعة فائقة.
تشابكت الأشكال الهندسية لتكوّن الدائرة السحرية، وما إن لامست الزهرة حتى انفجرت إلى آلاف الشظايا وسقطت أرضًا بارتطام مدوٍّ.
وضعت إستيل يدها على رأسها المؤلم، وخرجت مترنحة من بين الأدغال قبل أن تنهار جالسة على الأرض.
“آه… رأسي…!”
لابد أن ما رأته كان شبيهًا بمشاهد العمر السريع، مثل شريط يمر أمام العين.
‘أمي حقًا قاسية… كأن إعادة الذكريات بحد ذاتها لا تكفي لإيلامي، بل تعيدها بطريقة مزعجة كهذه؟’
زفرت بضيق ومسحت وجهها بيدها.
“أنتِ قادرة على فعل أي شيء. لا قيد عليكِ، ولا قدر يرسم طريقك.”
والآن… لم يعد بإمكانها إنكار الحقيقة.
أمها، الساحرة العظيمة قد أحبتها على طريقتها.
أحبتها لدرجة أن ألقتها في الشوارع، وانتزعت ذكرياتها، كي تحميها من قدرٍ لم يكن ينبغي لها أن تولد فيه أصلًا.
فهل تراها أماً صالحة إذًا؟ كلا. لكنها لو سُئلت هل كان بوسعها أن تختار غير ذلك؟ لآثرت الصمت. ( يعني امها هل كان فيه شي ثاني تقدر عليه غير هل حل؟ )
كان الأمر محض لعنة كبرى، حظّ عاثر لا مفر منه.
وكل ما حدث أنّها كانت عالقة فيه.
ولا أحد يُلام.
رفعت بصرها إلى سقف المختبر، الساكن كأن الزمن قد توقف، ثم تقلّبت بتعب لتستلقي على جانبها.
في تلك اللحظة، انكشف من بين رماد النبات العملاق الذي أحرقتْه شيءٌ ما.
أبصرت غلافًا مألوف الشكل، فقهقهت بمرارة:
“لم يعد الأمر يثير حتى السخرية…”
جرّت جسدها المثقل نحو الرماد، التقطت الكتاب، وقرأت ما كُتب على غلافه:
[دفتر التصميمات.]
كان عنوانًا مختلفًا عن الدفاتر السابقة. ما إن لامسته بأناملها حتى عضّت على شفتها، ورفعت رأسها، فإذا بغصّة مؤلمة تعصف من أعماقها.
حدّقت بكرسي المختبر الخالي، وغرزت أسنانها في بعضها:
“هل منحتني ذكرياتي فقط كي تُثبتي أن تخلّيكِ عني كان منطقيًّا؟ حسنًا… أعترف. لقد كان تركي منطقيًّا، من أجل حياتي، ومن أجل التخلّص من المتعاقد مع الشيطان.”
لكن لا جواب. فالميتون لا يتكلمون، وأمها التي رحلت قبل عشر سنوات لم تترك سوى ذاكرة.
انهمرت دموعها الساخنة على خديها.
“ومع ذلك، سأظل أقول إنّ ترككِ لي كان خطأ. سأظل أقول إن إنقاذكِ العالم والتخلي عني هو الخطيئة التي ارتكبتِها.”
ركلت بعصبية مكتب الساحرة العظيمة وهي تلهث غاضبة.
“أؤمن أن الإنسان الحقيقي هو من يصمد حتى في اللحظة التي يبدو فيها التخلي هو الخيار المنطقي. ولهذا… كان رحيلكِ صوابًا. وكان موتكِ صوابًا.”
ألقت كلمات مسمومة في الهواء، رغم أنه لا أحد ليسمعها.
وفجأة، اجتاحها شعور قاتل بالوحدة.
كانت تعرف… أن هناك دومًا من يتعيّن عليهم التضحية لأجل الآخرين. وقد خبرت ذلك في شوارع الأزقة حين لم تجد قوتها إلا بالسرقة، ورأت كيف يسير هذا العالم. فلم يكن غريبًا عنها.
لكن…
انهمرت دموعها على أرض المختبر البارد الخالي من البشر.
“لكنني حين كنت في العاشرة كنت سأفضّل أن أبقى معكما، حتى لو قُتلت معكما.”
الذكريات تجلب المشاعر معها.
قلبها الذي لم يعرف أنه جُرح، بدأ يؤلمها بشدّة.
كانت طفلة تحب أمّها التي تُريها العجائب، وأباها الذي يلاعبها بحنوّ.
حبًّا شديدًا حتى إنّ نسيانه بدا لها الآن أمرًا لا يُصدَّق.
‘فلماذا لم تبقوا معي للنهاية، مهما كان المصير؟…’
كبرت وقد أدركت أن تلك مشاعر طفولية أنانية.
عقلها يفهم والديها. لكنها لم ترد أن تكف عن التصرّف باندفاع صبياني.
لأنها…
“لأنني سأظل إلى الأبد أصغر منكما. فسامحاني.”
مسحت دموعها بكمّيها في عصبية، وظلّت تبكي بعينيها المحمرتين.
***
مر وقت طويل حتى هدأت.
وربما كان خيرًا ألا يوجد أحد معها. فلو جاءتها كلمة مواساة واهية، لانفجرت بالبكاء أكثر.
مسحت أنفها، فردّت ساقيها بعد أن كانت جاثمة، وتمتمت:
“عليّ أن… *شهيق*… أقرأ على كل حال.”
بدأت تقلب الصفحات ببطء.
لم يكن دفترًا طويلاً، بل حُشد بملاحظات قصيرة متفرقة.
وما إن تأكدت من لون الخطوط حتى تجمّدت ملامحها.
“كلها مكتوبة باللون الأحمر…”
ومن خبرتها حتى الآن، فإن ما كُتب بالأحمر، كان دومًا الأحدث زمنًا…
لقد فهمت الآن الترتيب.
فقد كتبت إيلين هذا الدفتر وألصقت على ملاحظاتها ملاحظات قصيرة من دفاترها السابقة.
رفعت إستيل شعرها بسرعة وبدأت تتصفح الجمل القصيرة باندفاع.
[القوة المقدسة والسحر، والوسيط الذي يربط بينهما.
— شخص واحد قادر على استخدام قوة مقدسة بمستوى ميكاييل، قائد فرسان مقدسين ✓
— شخص واحد يمتلك قوة سحرية تضاهي قوة الشياطين ✓
— كائن واحد متوافق مع كل من القوة المقدسة والسحرية، قادر على احتواء كلا القوتين ✓]
[استخدام دائرة سحرية تحاصر وتقيد، لا يمكن فكها، ثم الانقراض.]
[لتطبيق السحر، تحتاج اللغة. لا يكفي مجرد شفرة. يجب أن تكون لغة تحتوي على القواعد والنطق والمعنى. لا يكفي مجرد رموز.
كل السحرة يعلمون القاعدة: كلما كان المطبق على اللغة متمكنًا، زادت قوة الدائرة السحرية.
ولكن يا إستيل، هل تعلمين؟]
اهتزت إستيل فجأة حين قرأت الجملة، وكأنها موجهة إليها مباشرة، فتجمدت في مكانها.
[هناك قاعدة أخرى، لم يجربها أحد من قبل، ولا يعرفها أحد غيري.
كلما كان الخصم غريبًا على اللغة أو لا يعرفها، أصبح فك الدائرة أصعب.
الشياطين قادرة على التحدث بأي لغة يعرفها كل من يعي بوجودها في هذا العالم. ولهذا، أياً كانت الدائرة التي تُرسم لسجنها، فإنها ستتحطم عاجلاً أو آجلاً.
ولكني أتيت من عالم آخر.]
رفعت إستيل رأسها ببطء بعد أن تجمدت لحظة.
التجسد، تسكن روح أخرى في الجسد.
أمها الساحرة العظيمة التي أنقذت العديد من البشر، كانت متجسدة. جسدها كان من هذا العالم، لكن روحها لم تكن منه.
أمها جاءت من عالم آخر بعد أن قرأت قصة هذا العالم، وجلبته معها.
معرفة الساحرة العظيمة لم تقتصر على هذا العالم فقط. ومع هذا التفكير، استحضرت إستيل فجأة كلمات إيلين:
‘لقد صنعتكِ بحياتي، ونقلت لكِ كل ما أعرفه، وأنتِ كيان من خارج نطاق القدر. هل تعلمين كم هذا عظيم؟’
تلاشى شيء ضبابي في ذهنها.
ومثل البرق، خاطت ذكريات قصيرة ثم اختفت.
كانت ذكريات طفولتها.
جلست أمام مكتبها، وأعطتها إيلين ورقة، وأمسكت يدها الصغيرة غير القادرة على الإمساك بالقلم بها.
الورقة كانت تحتوي على جدول ضخم مليء بحروف غريبة لم ترها من قبل.
تذمرت إستيل ورمت الورقة بيدها، فأمسكت إيلين بها وأعادتها إلى الأمام وهي تبتسم بنظرة حنونة.
‘هذه اللغة سر بينك وبينّي.’
ضحكت الطفلة ضحكة عالية من الفرح. ودغدغت إيلين شعرها وهمست:
‘لا تخبري أحدًا بها، حتى لو أخبرتِ أحدًا، فلن يفهم أحد.’
تطلعت عينا الطفلة اللتان فقدتا بعض بريقهما مقارنة بعين الساحرة، إلى الجدول بلهفة.
وكل كلمة تلفظتها الساحرة العظيمة، حاولت الساحرة الطفلة تقليدها بجد، فلمست إيلين أنفها بلطف.
‘وأتمنى أن تنقطع هذه اللغة عندك. لأن نشر ما هو من عالم آخر هنا لا فائدة منه.’
فتحت الطفلة عيناها في الحاضر بعد أن تعلمت كل ما كانت تعرفه الساحرة العظيمة.
تنفست بلهفة، ونهضت بسرعة، وركضت نحو المخرج كالمجنونة.
كانت الحروف على الورقة التي مدت لها الساحرة في ذاكرتها مألوفة جدًا لها.
‘إنها…’
‘الدائرة السحرية المكتوبة بلغة مجهولة موجودة نوعان: النوع 1 والنوع 28. ولهذا بقيتا لغزًا. حتى أنا لم أتمكن من حلها.’
ربما بسبب الحماس الشديد، شعرت بالدوار رغم أنها تركض. تمتمت بصوت فارغ:
“…لقد حللتها.”
فتحت الباب الذي كان مسموحًا لها وحدها فتحه.
وما إن فتحت الباب، ظهر أمامها ممر مظلم تحت الأرض.
“يبدو أنها انتهت.”
وفي الخلفية، تابع الشخص الذي حفر كل أبحاث الساحرة العظيمة أثرها، لكنه تعثر عند لغز اللغة المجهولة، محاولًا فهم دائرة النوع 1 والنوع 28، بينما كان السحر الذي أطلقه يضيء المكان بخفوت، وكان صوت الماء يتردد في الأرجاء.
ابتسمت إستيل على وسعها وأمسكت بيد الرجل.
“خمن ماذا حللت؟!”
كانت يده أبرد مما توقعت، وعندما حاولت التفاعل مع برودته، وضع إدغار يده على خدها، واضغط على عينيها المنتفختين، ثم تمتم مازحًا كالمعتاد:
“هل بكيتِ؟”
“آه، نعم… قليلًا.”
“هاه، تبا.”
تفاجأت إستيل من شتم إدغار المفاجئ، وفتح عينيها على وسعه.
كان فمه يرتعش وكأنه يحاول رسم وجه شرير.
ثم، كما لو اتخذ قرارًا، نظر إليها مباشرة وهمس:
“أن تجعلي إنسانًا يبكي هكذا… هذا أمر قاسٍ.”
وبينما كانت على وشك أن تسأله “لماذا تتصرف هكذا؟”، لمع ضوء مفاجئ أمام عينيها.
شعرت كما لو أن أحدًا سدد ضربة قوية إلى صدرها، فأصابها ألم خانق وغثيان.
وكان آخر ما وصل إلى مسامعها:
“لن أعتذر. حتى يسهل عليكِ شتمي لاحقًا.”
لم تعرف إستيل ما إذا كان صوته يحمل ارتياحًا لتحقيق غاية طال انتظارها، أم ألمًا من ارتكاب أمر لم يرغب به. فبعد أن سقطت أرضًا، لم يكن بمقدورها أن تعرف.
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات