رفعت بصرها إلى أمها مستنجدة، لكن لم يأتِها أي رد. فإيلين كانت منكّسة الرأس وكأن أنفاسها قد انقطعت.
حولت إستيل نظرها عنها، وفجأة انقضّت عليها مجدداً تلك المجسات السوداء، فصرخت واستدارت لتتجنبها.
وفي تلك اللحظة، ارتسمت في ذهنها كتابات بخط أمها:
[الواقع هنا. لذا عليك أن تختاري إين تفرين جيداً.]
‘اختيار اتجاه الهرب جيداً…؟’
دوّى صوت ارتطام، وهجمت الموجة السوداء نحوها ثانية.
تدحرجت على الأرض لتتفاداها، وعيناها تفتشان المكان بقلق.
لكنها لم تجد وقتاً للتفكير، فالهجوم التالي انقضّ عليها مباشرة.
لا تدري كم مرة هربت وتفادت تلك القوة.
أنفاسها انقطعت، وصدرها يعلو ويهبط بشدة.
تزحف على أربع محاولة تجنب الضربة، وتصرخ:
“ه… هاه… آه… لا… أستطيع…”
وكان إحساسها صادقاً: لم يعد في وسعها أن تصمد أكثر. حتى قدرتها الجسدية التي لم تكن سيئة، أوشكت على النفاد من كثرة الفرار.
لا بد من حلّ حاسم.
فتذكرت كلمات أمها.
وفجأة تمتمت وقد أشرق في ذهنها خاطر:
“الواقع… ليس هنا، بل في المكان الذي تركته خلفي.”
هذا حلم.
كانت تعلم ذلك، لكنها انساقت في وهمه حتى أخذت تركض لتنجو بحياتها.
لكن طريقة الاستيقاظ من الحلم…
أغمضت عينيها بقوة، وهي محاصرة بتلك الموجة السوداء.
‘جنون… فقدت عقلي… كيف أجرؤ على فعل شيء كهذا؟’
وفجأة اخترقها الألم كأن العظم انثقب، مع صوت نفاذ المجس إلى جسدها.
سقطت إستيل وجسدها يرتجف تحاول بكل ما أوتيت أن لا تفقد وعيها.
‘إن كان الواقع هناك حيث تركت أمي مذكرتها… إذن السبيل للهرب هو أن أموت هنا في هذا الحلم.’
ثم دوّى انفجار هائل بجوار أذنها، وانطفأت رؤيتها دفعة واحدة.
وبعدها…
“أول دائرة سحرية؟ إذن لا عجب أن الدم لا يخون.”
“إستيل بلانشيه! قلتُ لكِ ثلاث مرات ألا تكوني انتقائية في طعامك!”
“لا تركزي كثيراً على السحر، استرخي أكثر…”
تدفقت أصوات كثيرة في رأسها.
صور متلاحقة وسريعة عبرت أمام عينيها حتى أوشكت أن تخنق أنفاسها. فتقبلتها واجمة.
ما رأته لم يكن ذكريات من منظور الساحرة العظيمة، بل ذكرياتها هي التي فقدتها طوال عشر سنوات.
خطواتها الأولى… ابتسامة أبيها المشرقة… عيد ميلادها… أحداث كثيرة تدفقت حتى توقفت فجأة.
شعرت ببرودة مألوفة تداعب وجنتها.
رفعت نظرها، فإذا هي في شارع تعرفه جيداً؛ سماء حالكة، زقاق مهجور، وبرودة الأنهار الجليدية في غلاسيوم.
“هل تشعرين بالبرد؟”
تحت ضوء قمر أزرق باهت، كانت أمها جاثية على ركبة واحدة، تنظر إليها بعينين زرقاوين صافيتين.
“حتى لو كان بارداً، لا مفر. من الآن فصاعداً يجب أن تعتادي عليه.”
إنه يوم تخلّت أمها عنها في غلاسيوم.
مضت فترة طويلة، وصورة أمها بدت أضعف وأنحل.
مدّت الصغيرة إستيل يدها تتحسس خدها بقلق:
“أمي، أنتِ تتألمين؟”
“همم… لن أكذب. نعم، أنا اتألم، أتألم منذ زمن بعيد.”
“إذن دعينا نذهب إلى الطبيب. سيعالجك…”
لكنها هزّت رأسها مبتسمة بخفة “لا، لا…” ثم أطرقت بنظرها إلى الأرض.
كان ذلك أول مشهد ترى فيه ابنتها ضعفها، فتجمدت إستيل مذعورة، وبدأت تهذي تحت وطأة الجو الغريب:
“أمي… أين كنتِ كل هذا الوقت؟ أبي لا يعود إلى المنزل… لماذا خرجتِ من القصر خفية عن المربية والخادمات؟ الجو بارد، لنعد سريعاً.”
“آسفة، لا أستطيع العودة الآن.”
ارتبكت الصغيرة، وارتعشت عيناها الذهبيتان الموروثتان عن أمها. أما إيلين فسرعان ما استعادت صرامتها، وكأنها لم تُظهر ضعفها أبداً.
ارتسمت ابتسامتها الغامضة، تلك التي لم يفهمها أحد… سوى الرجل الذي أحبها.
بدهشة، سألتها إستيل:
“لماذا؟ إلى متى؟”
“لأن شيئاً مرعباً جداً ظهر في الإقليم. المدة… لنقل عشر سنوات؟”
قالتها بنبرة هادئة، فشعرت الطفلة ببعض الطمأنينة.
‘أمي تمزح ثانية؟ ما الخطب هذه المرة؟’
رفعت كتفيها بتذمر:
“عشر سنوات كاملة؟ لكنك أنتِ وأبي قادران على القضاء عليه!”
“لا، القضاء عليه ليس من نصيبي.”
اندفع هواء غلاسيوم البارد عبر الزقاق، وشَعرها الأحمر تماوج مثل لهب يوشك أن ينطفئ.
وخزت ابنتها بخفة في خدها وابتسمت بهدوء:
“مهمتي فقط أن أُعِدّ الطريق. القضاء عليه سيكون من نصيبك. تستطيعين ذلك، أليس كذلك؟”
“هممم… على حسب قوته. لكن… لا أظن أن هناك شيئاً لا أستطيع فعله.”
ضحكت الساحرة العظيمة وهي تربّت على رأس ابنتها الصغيرة، تلك الطفلة التي لم تكن تدري بعد كم كان قدرها قاسياً:
“إنه قوي جداً. لو هزمته، سيدون اسمكِ في التاريخ.”
“حسنًا، سأفعل ذلك. سأصبح ساحرة قوية مثل أمي، وأبي أيضًا. أعرف الدائرة السحرية التي كنتِ تدربينني عليها كل ليلة، تلك التي تستطيع هزيمة الشياطين. الآن أستطيع أن أرسمها حتى وعيناي مغمضتان! أأريكِ إيّاها؟”
“أنتِ مدهشة يا إستيل. وشجاعة أيضًا.”
خاطرت ظلال القلق بعيني إيلين، لكن للحظة فقط.
فهي امرأة عقدت العزم على تغيير مصير هذا العالم، وقد اتخذت قرارها بأن تتهيأ حتى للموت في سبيل ذلك. ولأجل هذا السبب ظلت متوارية عن الأنظار طيلة الوقت، تصوغ الخطة بدقة، وتستعد الآن لتضع جوهر تلك الخطة ‘ابنتها’ في مكانها المناسب.
لا حب ابنتها البريء ولا ما ستلاقيه الطفلة من شقاء ومحن كان قادرًا على زعزعة عزيمتها.
كانت تدرك أنها أمّ أنانية، ربما أقرب إلى أمّ فاسدة، لكنها وُلدت هكذا، جوهرها أن تمضي فيما تريد حتى النهاية، وبأي وسيلة كانت. حتى ولادتها لم تغير من طبيعتها تلك.
ابتسمت إيلين بنظرة حانية تخفي وراءها الكثير، وهي تخاطب طفلتها التي قبضت يديها الصغيرتين بحزم:
“لكن، حتى تتمكني من هزيمته، لا بد أن تبقي مختبئة حتى تصبحي قوية بما يكفي. ولذلك…… سيكون الأمر أشبه بلعبة اختباء تستمر لعشر سنوات كاملة.”
“لكنني أستطيع فعلها حتى الآن!”
“لا، ليس بعد. فأنتِ، ابنة دمي، ستجدين نفسك مضطرة لمواجهة القدر والشيطان معًا، وهذا يفوق طاقتك الحالية.”
وضعت كفها على جبين إستيل وضغطت بخفة، وهمست:
“سأجعلك تنسين من تكونين. لن تعرفي الحروف ولا السحر، ستعيشين مختبئة بين الناس كواحدة منهم. بلا وسيلة للعيش، ستضطرين لأن تصبحي نشّالة صغيرة لتنجو. عندها لن يعثر عليك أحد، حتى القدر نفسه.”
توسعت عينا الطفلة البريئتان في دهشة، فيما ابتسمت إيلين ابتسامة غامضة لا تدري ابنتها لها تفسيرًا.
‘هل تفهم هذه الصغيرة ما معنى أن تنسى من هي؟’
لكن الطفلة تمتمت في حيرة:
“ولكن… ماذا لو لم أنجح؟ أعلم أنني ابنة أمي وأبي، ولذلك فأنا قوية جدًا، ولن يحدث هذا… ومع ذلك، ماذا لو حدث؟”
“إستيل، أنتِ لن تخسري. أتعرفين لماذا؟”
رفعت الطفلة بصرها نحو ابتسامة الساحرة العظيمة الواثقة الرفيعة، تلك التي طالما نظر إليها جميع أهل هذا العالم بإجلال.
لعبت إيلين بخصلات شعر إستيل الفضي الذي يشبه ضوء القمر، وأجابت عن سؤالها بنفسها:
“لأنكِ خُلقتِ من حياتي أنا، ولأنني أورثتكِ كل ما أعلمه، ولأنكِ كيان من خارج نطاق القدر نفسه. أتدرين كم هو أمر عظيم؟”
صحيح أنّ روحها في الأصل غريبة عن هذا العالم، لكنها ظلت أسيرة لقدر جسدها.
أما هذه الطفلة، إستيل بلانشيه التي لم يكن للقدر أن يسمح بوجودها أصلًا… فهي كائن مستقل تمامًا، حرّ بحق.
ابتسمت وهي تحدق في ابنتها، ثم قالت:
“أنتِ قادرة على فعل أي شيء. لا قيد عليك، ولا قدر يرسم لكِ طريقك.”
أما القيود، وأعباء القدر، وعقوباته، فكلها ستتحملها هي. كي تنعم ابنتها بالحرية.
ابتلعت غصتها، وبدأت أصابع الساحرة العظيمة ترسم تعويذة تمحو بها ذاكرة الطفلة.
بدأت خطوط ذهبية تتوهّج ببطء في عمق العتمة، أبطأ مما كانت عليه في أي وقت مضى.
حرفًا حرفًا، راحت تحفر أوامرها، بينما تهمس بكلمات ستُمحى قريبًا من ذاكرة ابنتها:
“أعلم أنّ من الجائر أن أحمّلك هذا العبء، لكن… أحبك كثيرًا. في البداية أنجبتك لأجعل القدر ينكسر تمامًا، لكنني مع الوقت أدركت كم أنتِ محبوبة… أدركت أنني لا أستطيع إلا أن أحبك.”
أنهت أخيرًا آخر سطر من التعويذة، وأتمّت النقطة الأخيرة. رأَت الضوء يشتعل، والقوة تتحقق، ثم نهضت.
نهضت لا كأمّ فقط، بل كالساحرة العظيمة إيلين إيفرغرين.
“أنا حقًا أحبك. لكن الحب شيء، وهذا الأمر شيء آخر.”
قالتها وغادرت، بلا رجعة.
تركت ابنتها وحيدة في زقاق مدينة شتوية منسية.
لتقف في وجه الرجل الذي عقد عهدًا مع الشيطان بدافع حبه لها، لتقوم بما تستطيع أن يكون آخر ما تفعل.
ولتُحرق حياتها حتى الرماد… وتختفي.
****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات