رفعت بصرها إلى السماء وقد استبد بها شعورٌ مريب، ثم أنزلته لتطلق تنهيدةً ثقيلة.
قبل لحظات فقط كانت النباتات من حولها تتلألأ بالخضرة، أما الآن فقد اسودّت أوراقها وهي تحيط بها كالأغلال.
ومن قلب ذلك المشهد الموحش تفتحت زهرة سوداء عملاقة.
“هـ…!”
كانت ساقاها وذراعاها مقيدة فلا تقوى على الحركة، فيما اقتربت الزهرة منها لتفتح بتلاتها ببطء.
لحسن الحظ لم تُقيّد أصابعها، فمدّت يدها لتطلق شعلةً سريعة، غير أن رائحةً كريهة نفّاذة باغتتها واخترقت أنفها.
“ما…!”
كان العفن مرعبًا حتى خُيّل إليها أن وعيها يتلاشى.
لكن لا… لم يكن فقدانًا للوعي، بل أقرب إلى النوم.
‘نوم؟ كيف للنوم أن يأتي مع رائحةٍ كهذه؟’
أجابت نفسها بسرعة:
“يا غبية، إنه شيطان. لا تنتظري منه أن يسير وفق المنطق!”
لم تجد وقتًا للاعتراض، فقد بدأت جفونها تثقل وتغلق.
وفي تلك اللحظة، برزت أمام ذهنها كلمات تلك المذكرة:
[الواقع هنا. فلتختاري بحكمة إلى أين ستفرّين.]
إلى أين؟ أي جهةٍ أهرب؟ يمين؟ يسار؟
حاولت تحرير معصمها من الأغلال التي تشدّه، وأصابعها تتحرك بتوتر، لكن صوتًا مألوفًا دوى في أذنها:
—”لماذا أتزوج؟ أليس الأمر واضحًا؟”
إنها إيلين إيفرغرين، الساحرة والعرافة العظيمة وأمها. صوتها أخذ يتردد في الأرجاء ثم علا شيئًا فشيئًا.
وعلى جفنَي إستيل المغلقين، انبثق مشهد جديد.
رأت أمها تعقد حاجبيها قليلًا ثم تبتسم وتجيب وكأنها تعترف:
—”السبب ذاته الذي يدفع الجميع… زواج من أجل سببٍ بديهي.”
“حلم؟”
تمتمت إستيل مرتبكة، لكن سرعان ما أدركت:
نعم… إن ما عليها أن تبحث عنه الآن هو الطريق للهروب من هذا الحلم.
***
“السبب ذاته الذي يدفع الجميع…؟ إيلين، هل كنتِ بحاجة إلى لقبٍ نبيل؟”
كانت أمامها إيزابيلا، أصغر سنًا بكثير مما رأتها إستيل آخر مرة.
أشعة الشمس الذهبية تناثرَت فوق الطاولة الصغيرة حيث جلستا تتناولان الشاي.
تضايقت إيزابيلا، وهي تنفخ وجنتيها ببرود لا يليق بمقامها:
“بوسعكِ أن تحصلي على ما تشائين دون الحاجة إلى الزواج أصلاً.”
“آه؟”
“ألم يكن زواجك بدافع الحاجة؟”
تمتمت وهي تلامس شيئًا مدوّرًا دافئًا في حجرها، وقد غطته ببطانية صغيرة.
أذهلت ملامحُها إيزابيلا حتى وثبت من مقعدها فاغرة الفم:
“مستحيل! لا تقولي إنكِ حامـ—”
“ليس كذلك.”
“لكن زواجك المفاجئ… هل كان لأنـ—”
“قلتُ لكِ ليس الأمر كما تظنين.”
توقعت هذا الالتباس.
تنهدت إيلين بفتور، ثم أعادت تغطية ما في حجرها كي لا يتسرب إليه الهواء البارد.
تنفست إيزابيلا الصعداء وجلست من جديد، تضحك بمرح:
“كنتُ واثقة أنكِ ارتكبتِ حماقةً ما! إذن، ما هذا؟”
رفعت إيلين البطانية قليلًا، كاشفةً عن بيضة تنبض بالدفء.
أمالت رأسها وكأنها تفكر كيف تُعرّفها، ثم حسمت الأمر بابتسامة هادئة:
“فلنقل… طفلٌ متبنّى التقطتُه في طريقي. بدا لي أنه بحاجةٍ إلى الحب، فاحتضنته.”
“زواج، تبنٍّ… لماذا تكون حياتك مليئة بالمفاجآت كلما التقينا؟”
قهقهت إيلين بخفة وأجابتها بمكر:
“تعترفين في قرارة نفسك أنها ليست مسألة كبيرة، أليس كذلك؟”
“وهل هذه أول مرة تفعلين شيئًا غير مألوف؟”
إيزابيلا رغم أنها تنتمي إلى الطبقة الأرستقراطية المحافظة، لم تجد في الأمر غرابة كبيرة.
فمن يعرف إيلين منذ أيام صباها، حين كانت تنطق نبوءات عن حروبٍ قادمة ووحوشٍ ستغزو الأرض، لن يستغرب أن تراها الآن تربي تنينًا صغيرًا.
تأملت إيلين صديقتها الجالسة أمامها.
وجنتاها ممتلئتان بالعافية وقد توردتا بحمرة صحية، وعيناها الزرقاوان تتلألآن تحت الشمس كالجواهر، وشعرها الذهبي ينسدل بلا شائبة.
هذا المشهد كان يليق ببدايات قصةٍ سعيدة، لكنه لم يستمر طويلًا في الرواية التي تعرفها إيلين.
فمع مرور الوقت تكاثرت الأهواء والمصائب التي أنهكت إيزابيلا، حتى غابت عنها الحيوية، ولم يعد شيء يعيدها كما كانت… حتى بعد أن أنقذها ميكاييل.
لكن هذه المرة مختلفة.
الزمن تجاوز النهاية التي تعرفها إيلين منذ عام. ومع ذلك، ها هي إيزابيلا تعيش سعيدة، لم يمسسها أي مأساة، وما زالت تبتسم.
وذلك بفضل الدماء التي سفكتها إيلين بنفسها.
أما أولئك الملوك والحكام في البلاد المجاورة، فقد حالت السياسة دون إزاحتهم كليًا… لكن على الأقل…
“لماذا لم تخبريني بقدومك مسبقًا؟ لو جئتِ مع ميكاييل لكان أفضل.”
“ولمَ أتطفل على العشاق؟ لستُ منعدمة الإحساس.”
“وأنتِ لستِ غريبة عنه كي تخجلي!”
نعم، الآن صار لرفيقتها سندٌ قوي، هو ميكاييل قائد فرسان المعبد. لذا لم تعد إيلين قلقة على مصيرها.
نظرت إلى الحديقة الغنّاء التي تملؤها زقزقة الطيور، وابتسمت بارتياح.
لكن إيزابيلا رمقتها بنظرة مشككة وسألتها:
“حين تبتسمين هكذا… ما الذي يدور في رأسك؟”
“وهل ابتسمتُ بطريقة غريبة؟”
“حسنًا، دعكِ من هذا… في الحقيقة لدي ما أقوله.”
ظنت أنّها ربما أحضرت خبرًا طريفًا من صالونات المجتمع كالعادة. غير أنّ عيني إيلين اتسعتا في اللحظة التالية.
“مفاجأة! أنا أيضًا سأتزوج!”
لا تدري متى خبأتها، لكن إيزابيلا مدت على الطاولة كتالوجًا لفساتين الزفاف وهي تبتسم ببهجة عارمة.
تجمدت إيلين وهي تشرب الشاي، ثم أنزلت الكوب بارتباك، وما لبثت أن بصقت ما في فمها على الأرض.
“كُح، كُح…”
أخذت تسعل بوجهٍ مذهول ثم تجهمت بانزعاج وسألت:
“…ما هذا؟”
“أليست أخبارًا سعيدة؟ ما الذي يوترك؟ هل ارتكبتُ خطأ ما؟”
لا بد أن ملامحها كانت مخيفة حقًا. فهي لم تمرّ بمثل هذه الدهشة في حياتها.
خدشت إيلين خدها بارتباك، غير قادرة على إخفاء تعبيرها المتردد.
لقد مرت عليها أحداث غير متوقعة كثيرة، وشهدت وقائع كان ينبغي أن تقع ثم طُمست، وحلت بدلها حوادث أخرى… لكنها لم تُصدم في حياتها كما صُدمت الآن.
على صفحات الكتالوج انتشرت التصاميم المبهرة:
من الفساتين الضيقة التي تُبرز القوام الرشيق، إلى الفساتين الفخمة التي تعكس ثراء بيت الدوق. كلها تليق حقًا بأعظم زيجة في الإمبراطورية. لكن… تلك لم تكن المشكلة الحقيقية.
بعد أن كتمت سعالها وضعت الكوب وألقت سؤالها:
“متى؟”
“زواجي من بيت الدوق يتطلب حسابات كثيرة. أظن الخريف سيكون مناسبًا… آه، هذا يعني أن موعد زواجنا سيكون متقاربًا! يا لها من مصادفة! هل نُخطب أطفالنا معًا منذ الآن؟ ما رأيك؟”
“الأطفال، نعم… عادة ما يُنجب الزوجان أطفالًا بعد الزواج…”
بينما غرقت إيلين في تفكيرها، كانت إيزابيلا تكاد تطير من الفرح.
“ومن قال إنه سيكون ابنًا أو ابنة؟ الأمر لم يتضح بعد.”
“لكن أليس الأولى أن تُنجب ولدًا؟ وأنت لستِ لطيفةً بطبعك أصلًا… آي! لمَ هذا؟! توقفي عن الشدّ!”
قامت إيلين بقرص خدها بغيظ، بينما رفعت الأخرى يدها لتفرك جبينها بتعبيرٍ حائر.
أطفال، نعم… لم تكن فكرة بعيدة عنها. بل على العكس، كانت أول ما فكرت فيه.
رمقتها وهي تستعد لزفافها بوجهٍ تغمره السعادة، فابتسمت إيلين بخفة، لأنها تذكرت شخصًا ما. ثم احتضنت البيضة الصغيرة بحذر ونهضت، وقالت كأنها تعطي أمرًا:
“أرسلي لي بطاقة الدعوة. أود الاحتفاظ بها ذكرى.”
“أنتِ دائمًا تتظاهرين بالبرود، لكنك في النهاية أحنّ الناس عليّ.”
قالتها إيزابيلا ضاحكة، ممتنة في الوقت ذاته.
“بالطبع سأرسلها! لكن إلى أين؟ فأنتِ لا تثبتين في مكان.”
“أرسليها إلى إقطاعية دونكلاي. فأنا مقيمة هناك هذه الأيام.”
ربما كان هذا التصريح متقدمًا جدًا على أذنَي إيزابيلا. لكنها نطقت به على أية حال، ولم يعد بالإمكان التراجع. وكما توقعت، شهقت صديقتها وارتفعت من مقعدها تضرب الطاولة بقوة.
“أنتِ تعيشين معه؟! إيلين إيفرغرين، لقد تجاوزتِ الحدود!”
“لا أعيش معه. مجرد إقامة مؤقتة.”
“ولماذا؟ بيتك قائم، وحتى القصر الذي منحك إياه الإمبراطور موجود!”
كان معها حق. فإيلين تمتلك بيتين في الإمبراطورية:
قصر آل إيفرغرين، والقصر الذي أهداه لها الإمبراطور تقديرًا لخدماتها.
وكان يمكنها أن تحظى بالتكريم في أي منهما. غير أنها تمتمت ساخرًة وهي تُحضّر دائرة السحر الخاصة بالانتقال:
“لكن في كليهما لا يوجد خطيبٌ ماكر يشبه الثعلب.”
“هاه؟!”
“استعدي جيدًا للزفاف… ولا تنسي الرسالة.”
ابتسمت وهي تلوّح بيدها، ثم اختفت في دوامة الانتقال.
مدّت إيزابيلا يدها محاولة الإمساك بها، لكن الأوان كان قد فات.
حدّقت بالحديقة التي خلت فجأة، وتمتمت بدهشة:
“حتى هي… تعيش قصة حب.”
***
وفي لحظة، أضاءت الغرفة بوميضٍ قوي، وظهرت إيلين وسطها. وما إن خبت الأضواء حتى أحاط خصرها ذراعٌ قوي، ثم طبعت شفاهٌ حارّة قبل أن تتمكن من النطق.
كان تريستان، ابتسم بخبث وهو يلتهم كلمتها قبل أن تخرج: “لقد عدت.”
“ا- انتظر قليلًا…”
“لقد انتظرتك طوال اليوم.”
لم يكن في كلامه أي مجال للتراجع.
رفعت يديها استسلامًا، فيما أعاد الرجل قبلته مبتسمًا بخفة.
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات