لم أدرِ كم هو العمق الذي سقطنا فيه، ولا كم من الوقت مرّ ونحن نهوي.
لم أعد أفرق حتى بين إن كنت قد فقدت الوعي ثم أفقت، أم أنني ظللت واعية طَوال الوقت.
شدة السقوط عطّلت حتى الدوائر السحرية، فلم يبقَ أي ضوء، فقط ظلام دامس نهوي خلاله منذ دقائق.
ـ “قالوا إنه المكان الأعمق… لكنه أعمق من العادي بكثير!”
كانت تصرخ وهي متشبثة بحاجز السفينة تتأرجح كخرقة في مهب الريح.
“إلى متى سنظل نهبط هكذا…؟”
“أظن أن الوقت قد حان الآن.”
“ماذا؟!”
تشببب!
وقبل أن تسأل، ارتطم جسدها بسطح السفينة سقوطًا مدويًا.
اهتز المركب بشدة قبل أن يستعيد توازنه.
تمددت إستل على ظهرها تحدق في الظلام الحالك، ثم وضعت يدها على فمها.
“أووه… أريد أن أتقيأ…”
“دوار البحر مجددًا؟ يا للعجب.”
رسم دائرة سحرية فانبثق منها ضوء أخضر.
اقترب إدغار منها ببطء بعد أن حدّد موقعها، وأسندها برفق وربّت على ظهرها.
كانت إستل تتقيأ خارج السفينة، والدموع تترقرق في عينيها وهي تلتفت.
“سيدريك… ولوتشي؟”
“لقد وصلا بسلام.”
“أنا هنا!”
كانت قد خشيت أن يكون الهبوط الطويل قد أطاح بالطفلة الصغيرة لوتشي في مكان ما، لكن تبين أن خوفها في غير محله. فالضعف الأكبر بينهم كان فيها هي وحدها.
تدلت على الحاجز بجسدها المترنح كقطعة قماش مبتلة، وتمتمت:
“هاها… كدت أموت من خفقان قلبي.”
وبينما اعتمد سيدريك على ضوء إدغار المرتجل ليتفحص المكان، تقلص ما بين حاجبيه.
“أين نحن؟”
“انتظر قليلًا، سأوسع الدائرة السحرية لنرى…”
في تلك اللحظة، اندفعت أنوار ساطعة غمرت المكان.
أغمضوا أعينهم للحظة بعدما اعتادت على الظلام.
وعندما فتحوها مجددًا، رأوا سيدريك يطلق طاقة هائلة من نورٍ مقدّس من راحة يده ببرود.
أما إدغار فأزال دائرته السحرية تمامًا، ثم رفع كتفيه قائلًا:
“أسرع مني بكثير.”
“أشعر وكأننا في… مجارٍ قديمة.”
تجلّت أمامهم جدران حجرية بالية لكنها ما زالت صامدة، تحيط بهم من كل جانب.
رفعوا رؤوسهم، فرأوا أعمدة شاهقة تحمل سقفًا مرتفعًا، تتساقط من بين فراغاتها شلالات ماء تهدر من الأعلى.
كان المشهد مهيبًا جعل إستيل تفتح فمها مبهوتة.
“هذا…!”
قال إدغار وهو يمرر يده على جدار مغطى بالطحالب:
“حتى في هذا العمق، ما تزال بقايا الدول القديمة باقية… لا بد أن الساحرة العظيمة كانت تعلم بوجودها.”
فجأة صاحت إستيل وقد تذكرت:
“آه، صحيح! يجب أن أجد أمي!”
وبينما هي تمسح المكان بعينيها اعتمادًا على نور سيدريك، وقعت أنظارها على شيء.
“انظروا! هناك شيء هناك!”
وسط عشرات الممرات المقوسة، كان هناك ممر وحيد لا ينفتح على فراغ مظلم، بل يغلقه باب.
وكانوا قد صنعوا سُلّمًا يؤدي إليه، كأنما لإرشاد الزائرين.
دون أن يُطلب منه، أثار إدغار تيارًا من الريح دفع السفينة حتى الباب.
بدا الباب أحدث نسبيًا من القنوات القديمة، وإن ظهرت عليه آثار زمن طويل.
وقفت إستيل أمامه ومدت يدها ببطء نحو المقبض.
ـ “درك!”
ارتج الباب وفتح محدثًا صريرًا كاشفًا عن قاعة أوسع بكثير مما توقعت.
تقدمت إستيل أولًا إلى الداخل، ثم التفتت بدهشة إلى الرجلين اللذين لم يغادرا السفينة.
“ما بالكما؟ أتتركانني وحدي؟”
أجاب سيدريك بجدية:
“لا يمكننا الدخول.”
“ماذا؟!”
مد يده، فإذا بجدار شفاف يسطع من الدرج كحاجز يمنع أي دخيل.
جدار كأنه حاجز مقدس يرفض الغرباء. نظرت إليه إستل مذهولة:
“هل السبب القوّة المقدسة؟”
“ليس بالضرورة.”
أشار سيدريك إلى إدغار ليجرب بدوره.
مد يده، لكنها اصطدمت بالحاجز وارتدت للخلف.
اهتزت ذراعه وكأنه ورق.
فكرت إستيل في نفسها:
‘أهذا الرجل هش لهذه الدرجة…؟’
ثم جمدت في مكانها.
“انتظروا… إذن يعني…”
“نعم.”
ارتجفت عيناها الذهبيتان بقلق.
“عليَّ أن أدخل وحدي؟”
تردّد سيدريك، وعيناه الزرقاوان تضطربان، ثم أجاب بعد صمت:
“… ربما، هكذا يبدو.”
قالت بتوتر:
“ولوتشي؟”
رد إدغار وهو ينظر إلى الصغيرة التي كانت تضرب الهواء بساقيها بغضب وهي عالقة بيده كجرو صغير:
“لقد حاولت اللحاق بك أولًا… لكن كما ترين، النتيجة فاشلة.”
“آآآه! هذا يثير جنوني!!”
“اهدئي، ستكسرين عظامك.”
كانت ساقاها تصطدمان بالحاجز وترتدان بلا توقف.
نظرت إستيل إليهما بارتباك ثم ابتسمت بتصنّع:
“هاها… ألا يكون هناك خطأ ما؟”
تقدمت مترددة عائدة نحو الدرج، ثم مدّت ساقها إلى الخارج محاولة تجاوز الحاجز.
لم يعترضها شيء، بل خرجت قدمها بسهولة إلى الجانب الآخر.
رفعت رأسها بوجه مدهوش، وهمست:
“… حقًا؟”
قال إدغار بنبرة جازمة:
“يبدو أنها إرادة الساحرة العظيمة.”
“أن أدخل وحدي…؟”
تركها في ذهولها، ثم أخذ يداعب الحاجز بلمساته، جرب أن يطلق طاقته السحرية عليه، ثم خلص إلى نتيجة:
“هذه قوة أمك. إنها وصيتها.”
“حقًا؟ آه… أمي، لماذا تعاملينني هكذا؟”
‘هل عائلتي معروفة بصرامة التربية؟’
هكذا تساءلت بذهول. حينها سألها سيدريك بنبرة تحمل اقتراحًا:
“أليس ثمة أمر عليكِ وحدكِ أن تعرفيه؟”
تجمدت إستيل.
لقد أيقظ كلامه ذكرى.
“لقد خططت أن تكوني أنتِ المنقذة التي ستحمي العالم من الخراب، ووفقًا لذلك ستعود إليك ذاكرتك تدريجيًا. لا أعلم إن كان ذلك سيعود عليك بالخير، أم بالشر.”
لكن الحقيقة أنها لم تسترجع بعد سوى شذرة صغيرة من ذكريات أبيها، أما البقية فظلت غارقة في الضباب.
لا شيء يظهر للآخرين، إنما لها وحدها.
ربما… لم تكن تلك ذكرياتي أصلاً؟
استدارت نحو الفضاء الرحب خلف الباب، وحدقت فيه هامسة:
“… أشعر بالفضول.”
‘لماذا هجرتني؟’
في الماضي كان سؤالها ممتزجًا باللوم،
أما الآن فلا.
الآن هو بحث عن الحقيقة، لماذا هجرتني؟ لماذا انتهى بنا الحال هكذا؟ ما الذي جرى حقًا لعائلتنا؟ ما سر ما لم يعرفه أحد؟ لماذا انحدر أبي إلى الظلام؟ ولماذا ماتت أمي؟
قالت وهي تحسم أمرها:
“سأذهب إذن.”
رفع سيدريك حاجبه بدهشة من قرارها السريع:
“هل ستكونين بخير؟”
“نعم. بل إن فضولي يزداد، وأريد أن أرى بأم عيني.”
أدارت ظهرها عنه، وقد مد يده ليمنعها بقلق، ثم قبضت على مقبض الباب.
أخذت نفسًا عميقًا، وأعادته إلى الداخل.
وقبل أن تدخل، التفتت مبتسمة ولوّحت بيدها:
“لا تقلقوا، لن تقتل ابنتها.”
قال سيدريك بعصبية:
“لا تقولي كلامًا مخيفًا.”
“هاهاها… فلنأمل ذلك على الأقل.”
كانت تلك كلماتها الأخيرة قبل أن يغلق الباب خلفها بصوت ثقيل مهيب كأنه يبتلعها.
عقد سيدريك يده ثم بسطها، متمتمًا كمن يقنع نفسه:
“ستكون بخير…”
أما إدغار، فلم يلتفت إليه البتة، بل جلس على سطح السفينة وعيناه معلقتان بالباب المغلق، يغشاه تفكير عميق.
سأله سيدريك بحدة:
“ما الأمر؟”
“ماذا؟”
“وجهك يبدو كئيبًا.”
“أهون من وجهك.”
“… ربما.”
قالها سيدريك وهو يرضخ في نفسه، ثم ظل يتأمل الباب المغلق بعينين قلقَتين.
أما لوتشي، فكانت تحدق في ظهري الرجلين الضخمين وهما يواجهان الباب بصمت، وتمتمت:
“يشبهان الكلاب…”
لكنها لم تكن أفضل حالًا منهما.
فقد كانت التنينة الصغيرة قد أنهكت نفسها وهي تعبث في السفينة بحثًا عما يلهيها، حتى استسلمت جالسة من التعب.
***
كانت إستل مذهولة مما رأته.
لم يكن المكان كما توقعت.
جالت بعينيها على الأرجاء المشرقة الدافئة، وتمتمت:
“… يختلف عن تصوري.”
ظنت أنها ستدخل إلى مكان موحش مظلم، لكن القاعة كانت مضاءة بذاتها من غير حاجة إلى أي نور سحري.
امتلأت بالأثاث المصنوع من الخشب الدافئ، والرفوف التي بدت فارغة بعدما كانت ذات يوم مكتظة بالكتب.
رأت أحواضًا من النباتات نمت بغزارة تحت شعاع أبيض يتسلل من الأعلى، فتجهمت:
“ما هذا؟ لم يكن هناك ما يخيف أصلًا.”
كان الجو أقرب إلى مختبر إدغار الذي التقت به أول مرة، وإن كان مختبره يعج بالفوضى، بينما بدا مكان الساحرة العظيمة مرتبًا وهادئًا.
وبينما تتفقد المكان، وقعت عيناها على ورقة بين النباتات، فانحنت لتقرأ:
[الواقع هنا. لذلك عليك أن تختاري جيدًا أي اتجاه ستفرين إليه.]
ما إن قرأت العبارة الغامضة حتى تمتمت بدهشة طفولية:
“ما هذا الكلام؟”
تركت الورقة مكانها، ثم رفعت رأسها.
وفجأة توقفت أنفاسها.
حيث توقعت أن ترى نافذة ينساب منها الضوء من السماء، لم يكن هناك سوى جدار، وعليه رسمت دائرة سحرية مذهبة.
نظرت إلى الخطوط المعقدة المتشابكة، ووضعت يدها على رأسها:
‘هنا؟ وأنا وحدي؟’
لقد تعرفت عليها فورًا.
إنها نفس الدائرة التي اندفعت منها مجسات الشيطان لتفتك بها في غلاسيوم والبحر الداخلي.
عضّت على شفتيها وزفرت:
“لم أكن أظن أن المطلوب مني مهمة مواجهة شيطان، حسبت أن الأمر يخص استرجاع ذاكرتي فقط…”
رفعت رأسها، تخاطب أمها الغائبة وكأنها أمامها:
“أحقًا؟!”
لم يجبها أحد.
جرت سلّمًا صغيرًا كان بجانب الأحواض، وصعدت عليه بتردد، ثم رفعت يدها.
كانت تعرف ما إن تلمس بشرتها الدائرة، سينبثق منها شيء كما في كل مرة. لكن هذه المرة لن يكون هناك سيدريك ولا إدغار، ولا حتى لوتشي.
وحدها تمامًا.
‘إذن، حان وقت أن أعتمد على نفسي؟’
لم يستغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى أعادت إلى ذهنها الدائرة السحرية التي حفظتها من البحر الداخلي.
جهزت يدها لإطلاق السحر متى استدعى الأمر. لكن حين همّت بلمسها، اعترتها هواجس:
‘ماذا لو اختلف الأمر هذه المرة؟’
تذكرت حديثًا دار يومًا مع إدغار عن بروفيسورات الأكاديمية:
“البروفيسورات لا يعيدون نفس السؤال مرتين. لو فعلوا، لكانت الحياة سهلة للطلاب. دائمًا هناك تعديل… صيغة جديدة.”
‘هل ينطبق هذا عليّ أيضًا…؟’
وبالفعل، ما إن لمست الدائرة، حتى شتمت وهي تصرّ بأسنانها:
“آه، ياللإزعاج!”
هذه المرة لم يخرج شيء من الدائرة على الجدار، بل ارتفعت من الأرض أسفلها أذرع غامضة تسللت لتلتف حول ساقيها.
****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات