ما إن تقلّصت لوتشي فجأة إلى هيئة فتاة صغيرة حتى أخذت تحتك بخدّها في طرف ثوبها. وبحركة غريزية رفعتها إستيل بين ذراعيها، لكنها ما لبثت أن ارتجفت مذعورة من دويّ هائل تردّد صداه.
‘قعقعة!’
برق خاطف يختلف عن ذاك الذي استدعاه إدغار، هبط يخترق سماء الصحراء. وما لبث أن تلاه سقوط قطرة ماء فاترة على خدّها. فصاحت بفزع:
“آه! انتهى أمرنا!”
“لا تقلقي، سيبقى لدينا بعض الوقت قبل أن ينهمر المطر حقاً.”
اقترب سيدريك بعد أن قضى في لحظة على من تبقّى من العَبَدة، وربّت على كتف الرجل المنهمك بإلقاء التعاويذ.
“اجتمعنا كلنا، فلنغادر بسرعة.”
كلمات لا تحتمل أي اعتراض، مهما ساءت العلاقة بينهم. صفَع إدغار الدائرة السحرية الهجومية التي كان على وشك إطلاقها ومسحها، ثم سأل بلهجة مستعجلة:
“إلى أين نذهب؟”
“أما تذكر المكان الذي قصدناه أول مرة لمشاهدته؟”
“حسناً.”
وكأن الأعداء قد أدركوا نيتهم الفرار، فاندفع العَبَدة الذين دُفعوا بعيداً تحت هجمات إدغار وسيدريك كالمجانين نحوهم. عندها أضاءت الأرض تحت أقدام الأربعة بدائرة سحرية خضراء، وفي اللحظة التي كادت فيها يد جشعة تمتد لتقبض على شعرها…
اختفوا مع صفير الهواء.
***
الانتقال عبر بوابة سحرية أو بواسطة السحر الآني، إحساس لم يعتد عليه المرء مهما كرّره.
المطر يندفع بجنون من خلال كل فتحة في وجهها؛ عينين وأنفاً وفماً.
بصقت رمالاً تسللت إلى فمها وهي تتحسّس محيطها في ذعر.
“كُح! أُف… أين أنتم جميعاً…؟”
“أخرجي السفينة.”
انشق الظلام فجأة بضوء ساطع جعل بصرها يتلوى.
كان وجه سيدريك المضيء بالقوة المقدسة أمام أنفها مباشرة.
وجهه الوسيم في الأصل بدا متلألئاً حتى حدّ الرهبة. شهقت وهي تبتلع ريقها وتتمتم بارتباك:
“م… ما بك؟ لماذا أنت قريب هكذا—”
“أسرعي. أين هي؟”
“أظنها… في الحقيبة…”
فجأة اجتُرّت بجسده نحو صدره.
ارتاعت وهي تحاول دفع عضلاته الصلبة عن وجهها، لكنه على غير العادة لم يتزحزح.
مدّ يده إلى حقيبتها المعلّقة خلف ظهرها وانتشل منها رزمة مناديل ملوّحاً بها.
“هذه هي؟”
“نعم… لكن لماذا كل هذه العجلة— أوه؟!”
اهتزّت الأرض من تحت قدميها، فتجمدت تحدّق.
قبل أن تستوعب، وجدت نفسها غارقة حتى فخذيها.
لا، لم يكن رملاً فحسب، بل مستنقعاً جافاً متماوجاً أشبه برمال متحركة تحاول ابتلاعها.
رمشت بدهشة بلهاء وهي ترفع رأسها.
“…هاه؟”
“يجب أن نُعيدها إلى حالتها الأصلية، هيا.”
وصلت الرمال المتمايلة إلى خصرها، محاولة ابتلاعها بالكامل.
أهذا هو معنى الغرق في الصحراء؟
تسلّل الرعب الحقيقي إليها، فزاد ضباب عقلها. ومع ذلك… عليها أن تفعل شيئاً.
أخفضت بصرها إلى السفينة الصغيرة الموضوعة على كفّ سيدريك وحركت أصابعها بخفة، ثم تمتمت بصوت خائب:
“…آه، صحيح… أنا لا أعرف دائرة الاستعادة.”
“ماذا؟!”
ارتد صوته مذهولاً.
راحت ترتجف من البرد، شفتيها المزرقّتين تتمتم:
“إن قرأت الكتاب، أستطيع تنفيذها…”
“لكن لا كتاب بحوزتنا.”
عندها، انضم صوت مألوف:
“حتى من دون كتاب… لديّ أنا.”
لم تدرِ متى ظهر، غير أن إدغار كان خلفها وقد أسند ذقنه على كتفها، ومن أصابعه انطلقت ألسنة لهب خضراء متوهجة.
ارتجّت السفينة الموضوعة على الأرض مرات عدّة، ثم أخذت تكبر شيئاً فشيئاً. وكان سيدريك، المتمسّك بصاريها، أول من تأكد من عددهم.
لم يفتْه أن يرى لوتشي متشبثة بظهر إدغار، فتنهد قائلاً:
“لا أحد مفقود. هذا جيد.”
أبصر إستيل وهي تتشبث بجانب السفينة متدلّية بجهد، فسارع إلى مدّ ذراعه نحوها.
نظرت إليه بذهول لا تدري ماذا تفعل، فقال سيدريك:
“اصعدي فوقي.”
“…عفواً؟”
“ألم أُحضر السفينة لتصعدي إليها؟”
“حتى وإن كان عمري غالياً… كيف لي أن أدوس على شخص— آه!”
لم يترك لها وقتاً.
لفّ ذراعيه حول خصرها ودفعها بقوة إلى أعلى.
صرخت وهي ترفس الرمال المتناثرة لتسقط داخل السفينة متدحرجة.
رفعت رأسها بذهول وعيناها الذهبية تحدّقان من فوق حافة السطح.
“أجننت؟!”
“قلتُ لكِ إن جسدي يتحمل. اصعدوا أنتم أيضاً.”
“لا تحملني أنت.”
“أظنك تدرك أنني لن أفعل.”
سلّم إدغار لوتشي إلى إستيل ثم، بعد جهد كاد يقطع أنفاسه، نجح أخيراً في الإفلات من الرمال وسقط منهكاً على سطح السفينة. أما سيدريك فقد صعد آخراً واتكأ على حجاز السفينة بعينين تومضان ببقايا القوة المقدسة.
حين تذكرت إستيل حرارة يده الممسكة بها، انتفض جسدها قليلاً.
‘تماسكي…’
هكذا همست في نفسها. عندها بادرها قائلاً:
“إذن، ما الذي ينبغي أن نفعله الآن؟”
“لقد فكّرتُ في الأمر.”
بلعت ريقها ثم جلست بين الرجلين وأسندت ظهرها منهكة.
كان التعب يجتاحها، لكنها تماسكت بأسنانها.
التفتت نحو سيدريك والتقت عيناهما، ثم تابعت كلامها:
“قلتَ إن علينا التوجّه إلى أخفض مكان، صحيح؟”
“صحيح.”
“والصحراء الآن… أشبه ما تكون بنهر.”
“…هذا صحيح، ولكن.”
انعقد حاجباه بقلق، وكأنّ ما ستقوله لا يمتّ للسلامة بصلة. ولم يخب حدسه.
“الماء يجري دوماً إلى المنخفض… فلماذا لا نتركه يأخذنا معه؟”
بكلمة أخرى: أن نترك أنفسنا ننجرف حيث يقود التيار.
كانت مغامرة طائشة منذ البداية، لكن أن تُقلقهم بهذا الشكل كل مرة…!
“…هاها.”
إستيل التي توقّعت اعتراضاً أو تقطيباً، فوجئت بابتسامة تلوح على فم سيدريك.
أزاحت عينيها محرَجة، لكن جوابه جاء على غير المتوقع:
“فلنفعل.”
“هـاه؟ جادّ أنت؟”
“فكرتك ليست خاطئة على أي حال…”
في الأكاديمية وحتى في البحر الداخلي، كل الطرق التي اقترحتها إستيل انتهت صواباً.
وهو يزيح شعره المبلّل من المطر الغزير، تمتم قائلاً:
“لا عجب… أثق بك.”
“أشكرك لأنك تثق بي أكثر من المثل القائل ‘الابنة كالأب’.”
لكن وجهه عاد فجأة جادّاً، ليجيب بحزم:
“لو كنتِ حقاً مثل أبيكِ لكان الأمر كارثياً.”
“نعم، نعم، أعلم.”
كان المطر يهطل كأن السماء انشقّت.
رفع إدغار يده ورسم دائرة سحرية عظيمة في السماء، فتبعثر المطر عنها كالمصدّ.
حدّقت إستيل مبهورة وقالت:
“واو… كم هي متنوّعة الدوائر السحرية!”
“وما تعلّمتِه منها لا يبلغ جزءاً من ألف.”
“يا إلهي!”
تجهم وجهها وقد تذكّرت كيف كانت تعاني مع الأشكال القليلة التي أجبرها إدغار على حفظها.
هل ما تعرفه ليس حتى نصف المطلوب؟ زفرت، ثم ضحكت بخفة:
“هاها… بصراحة لا أرغب في حفظ المزيد. حين ينتهي هذا كله، سأترك السحر وراء ظهري.”
“لا بأس. إن احتجتِ إلى سحر، فأنا موجود.”
قالها ببرود وكأنه مسلّم ببقائه بجوارها حتى بعد انتهاء كل شيء.
لم تستطع إلا أن تضحك من وقاحته.
لقد باتت معتادة على أحداث بعيدة كل البعد عن حياتها اليومية. هذه ثاني مرة تُهدَّد حياتها مباشرة، ومع ذلك لم يتبقَّ في صدرها سوى نشوة الانتصار والنجاة.
‘هل يعقل… أنني أستمتع بالخطر؟’
تساءلت وهي تحاول كبح دقات قلبها المتسارعة، ثم تمتمت بارتباك:
“…لكنهم كانوا جميعاً سذّجاً بشكل غريب.”
أجاب سيدريك بلهجة معتادة:
“لقد ضعفت قوّتهم كثيراً.”
فقد أطلقوا سراحها بسهولة حين تحدّثت عن والدها الكونت بلانشيه، وزعمت أنّها ستُريهم سحراً.
صحيح أن ضحكتها وخداعها ساعدا، لكن لو لم يكن فيهم ميل إلى السذاجة أصلاً لما نفع شيء.
قال سيدريك بصعوبة وكأنه يقرّ بحقيقة مزعجة:
“منذ المجزرة التي وقعت قبل عشر سنوات، تخلى معظم السحرة الذين كانوا يدعمون الجماعة عنها. لم يكن تخليهم بدافع الندم الحقيقي، بل بدافع المصلحة فقط.”
ألقى نظرة خاطفة على إدغار المستلقي منهكاً، ثم واصل:
“بعضهم، ما إن تم ختم الكونت، حتى عادوا إلى الأكاديمية أو مراكز الأبحاث زاعمين أنهم لم يساعدوا إلا بدافع الخوف.”
“وتم قبولهم مجدداً؟!” صاحت إستيل.
“كانوا كُثراً إلى حدّ لا يسمح برفضهم.”
عندها تدخّل إدغار، يضغط بإصبعه على خدها هامساً:
“يبدو أنك لم تخالطي السحرة كثيراً بعد.”
“وأنت بالذات تبدو أسوأهم طبعاً…”
“ماذا؟! أنا ملاك، صدقيني.”
‘الملاك الوحيد هو وجهه!’
تذمّرت في سرّها.
ضحك إدغار على تبرّمها، ثم أردف بصوت فيه مرارة:
“تلك الفترة… كان السحرة قد ارتعدوا من ظهور إيلين إيفرغرين. في العلن أظهروا احتراماً، لكن في الخفاء… لا شك أنهم حسدوها. قوتها كانت مفرطة، عبقريتها قلبت كل المسلّمات. رفع سقف التوقعات في السحر إلى مستوى غير مسبوق.”
“…وماذا في ذلك؟”
رفعت حاجبيها غير مستوعبة، فابتسم سيدريك موحياً:
“وهذا يعني أنهم اضطروا إلى البحث عن أي وسيلة ترفع قواهم السحرية لتبلغ تلك التوقعات الجديدة.”
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات