كان في السماء دويّ غريب يتردّد، والصحراء التي كانت لتتلوّن عادةً بحمرة الغروب لم تكن سوى عتمة حالكة. والريح تعصف، تدفع بالرمال لتصفع الوجوه.
“أوه… لِمَ أشعر بالقشعريرة؟”
“ألم يكن الجو حارّاً قبل قليل؟ تبا، ما الذي يحدث؟”
كان غريغ وتيين اللذان انخرطا مع أتباع عبادة الشياطين منذ نحو ثلاث سنوات، ينكمشان من البرد والخوف وسط صحراء يريانها لأول مرة في حياتهما.
وما ذاك بمستغرب، إذ لم يسبق لهما أن غادرا موطنهما قط.
لقد بدأ الأمر حين كانا يتسوّلان، فانضمّا إلى جماعة عُرف عنها كرمها في مشاركة الطعام، وهناك سمعا لأوّل مرة عن “الشيطان”. وفي البداية، لم يكن حضورهما الطقوس الشيطانية سوى بدافع الحصول على بعض الطعام. لكنهما وجدا للمرة الأولى معنى “الانتماء”، إذ شعر كلاهما بروابط تشبه روابط العائلة. ومع الأيام، صار الأتباع الذين باتوا بمثابة أسرة لهما، يقصّون عليهما الكثير من الحكايات.
فالقول بأن الشيطان شرير، ما هو إلا هراء أشاعه الكهنة. إنه ليس إلا إلهاً لا تعبده المعابد فحسب، بل على العكس، هو كيان يمنح أتباعه سكينة وطمأنينة بلا حدود. ولإثبات ذلك، عرضوا عليهم لوحة ثمينة حصلوا عليها بشق الأنفس، وهي صورة لكونت بلانشيه.
“انظروا! أليس هذا الملاك الطاهر ممثلَه ووكلاءه؟!”
لم تكن هناك براهين، لكن ما من شيء يأسر العقول مثل الصورة البصرية.
وغريغ الذي كان يسخر منهم في البداية، وجد نفسه شيئاً فشيئاً متعلّقاً بالشيطان مثلهم. بل إنه مؤخراً شاركهم حلماً غريباً، رأى فيه جميعهم شاباً وسيماً ذو شعر فضي يأمرهم بأوامر غامضة. لذا، فالشيطان الذي يؤمن به لا بد أن يكون حقيقياً… أجل، لا بد أنّه كذلك.
‘لماذا أشعر بهذه الرهبة؟’
هل لأن إيمانه لم يكن كافياً؟ وبينما كان غريغ يضمّ فكه المرتجف بيديه، إذ بصوت رقيق يقترب منه.
“مرحباً؟ لكن، إلى أين أنتم ذاهبون؟”
“هـ… ماذا؟”
“سألتكم، إلى أين أنتم ذاهبون! إن الطريق طويل، أليس من الأفضل أن نتسامر قليلاً؟”
التي كلّمته لم تكن سوى المرأة التي أُوكل إليها مراقبتهما. تلك التي قيل إنّها ابنة الكونت بلانشيه نفسه، ذاك الذي أمَر بجلبها.
غريغ من غير أن يدرك أطال النظر إلى وجهها.
لقد كان شبيهاً بوجه الكونت الذي رآه في الحلم، لا سيما شعرها اللامع المتلألئ مثله.
استعاد وعيه، وأجابها بلهجة جافّة متكلّفة:
“لـ… لا أستطيع أن أقول.”
“أوي… وهل يُعقل أن تطيع كل ما يُملى عليك من أوامر؟ نحن جميعاً نعيش بنوع من المخالفة، أليس كذلك؟ ثم إنني مقيّدة اليدين، لا أستطيع أن أفعل شيئاً أصلاً.”
“لكن…!”
أدار غريغ رأسه نافياً بشدة، وكأنه لا يملك خياراً آخر.
عندها تظاهرت الفتاة بالتنهّد بأسى، ثم غيّرت الموضوع:
“ومن أين أتيتما أنتما الاثنان؟ أنا من غلاسيوم، ولا أستطيع أبداً التكيّف مع هذا الحرّ. أشعر أنني سأغشى عليّ.”
غلاسيوم!
حتى هما سمعا بها من قبل، وجهة سياحية مشهورة. فاشتعل فيهما فضول بشري لا مفرّ منه.
وتجرّأ تيين الذي ظلّ صامتاً طوال الوقت، وقال بخجل:
“أ… ألستِ تشعرين بالبرد؟”
“همم؟ أبداً؟ بل هل تشعران بالبرد؟”
كيف تدّعي أنها حارّة والريح تكاد تقتلعهم؟
اندهش ولم يشعر إلا وهو يبادِلها الكلام، ثم سرعان ما أغلق فمه بيده نادماً. لكنها لم تُظهر ارتباكاً، بل رمقته بابتسامة ماكرة كأنها تشاركه لعبة سرية، وهمست:
“هس! ماذا لو سمعنا الباقون؟”
تخبّط عقله.
أليست هذه عدوة؟
أليس رئيسه الذي أمره بمراقبتها هو الحليف؟ لكنه مع هذه الجملة شعر كأنه يتآمر معها في مهمة خفية ضد قائده.
وبينما كان هو وصاحبه مرتبكين، أشرقت ابتسامة على وجهها وقالت:
“اسمي إستيل. وأنتما، ما اسميكما؟”
“غريغ…”
“تيين.”
صحيح أن الوضع غريب، لكن التعارف ليس بالأمر الخطير.
هكذا برّرا الأمر في نفسيهما، غير أن وجهيهما تيبّسا أمام ابتسامة إستيل المشرقة.
“آه… أسماء جميلة.”
هل هي إلهة؟ أجل، إلهة. أو هكذا بدت لهما.
تبادلا النظرات المليئة بالخشوع.
لم يكن في قلبيهما أي شهوة، بل رهبة خالصة.
فهذان الشابان اللذان عاشا حياتهما في احتقار الناس بسبب الفقر والملامح القاسية، وجدا في ضحكة الفتاة العفوية طهراً يثير الورع. فلم يستطيعا حتى الرد، واكتفيا بتحريك الشفاه بلا صوت، فيما ظلت إستيل تبتسم لهما وهي تفكّر:
‘حسناً، انتهيت من تمهيد الطريق.’
والآن، آن أوان ترسيخ الثقة أكثر.
“أأنتم باردان حقاً؟ أنا من أرض باردة، وربما أستطيع مساعدتكما.”
وبينما هي تثرثر معهما على مهل، وقعت عيناها وسط الزحام على سيدريك.
كانت نظرته نصف مصدومة، تسألها صراحة “ما الذي تفعلينه بحق خالق السماء؟” فأدارت رأسها بسرعة مع ابتسامة باهتة.
‘اصبر يا سيدريك، أحاول أن أستغل مواهبي هنا.’
ثم قالت بصوت مرح، عائدة إلى حديثها معهما:
“أتدرون؟ في الحقيقة…”
كانت تخاطب شابين بملامح مخيفة لكنهما طيّبا القلب أكثر مما يظهر.
بحثت في ذهنها عن موضوع يجذب اهتمامهما ويجعل حذرهما يزول قليلاً… حتى وجدت ضالّتها.
لم تكفّ عن الابتسام وهي تقول بلطف:
“أنا مثل والدي… ساحرة. هل سبق أن رأيتم ساحراً من قبل؟”
***
كان سيدريك يراقب المشهد من بين رؤوس البشر الكثيرة، وقلبه يضطرب قلقاً وهو يتساءل ما الذي تفعله تلك المرأة بحق خالق السماء؟
لا، لا يمكن القول إنها أسيرة. في الحقيقة، إن هي إلا ضحية اختطاف، لا أكثر ولا أقل. غير أن ملامحها وتصرفاتها لا تشبه أبداً مَن وقع ضحية.
فإستيل كانت تبتسم بمرح وتتحدث مع الخاطفين بجانبها وكأنها في حياتها اليومية، لا يختلف الأمر سوى أنّ محدّثيها ليسا هو ولا إدغار.
مهلاً… هذا يعني أنّ…
“اللعنة.”
كان وجها الخاطفين بجوارها متسمّرَين بذهول، إلى حدّ أزعج سيدريك نفسه. لكنه فهم الأمر جيداً، فهو بدوره رجل يفقد رباطة جأشه أمام إستيل.
كان يعرف تماماً أي مشاعر تحرّكت في قلبيهما.
فما إن حاول أن يندفع نحوها حتى أوقفه الحارس القريب منه وأعاده إلى مكانه كأنما قرأ حركته قبل أن تقع.
رغبته في طرحه أرضاً والتخلّص منه كانت تكاد تنفجر، غير أن إستيل وإدغار ما زالا بين أيديهم.
فاض قلبه قلقاً، يتسارع نبضه بقوة جنونية: ماذا لو انخدع أولئك الحمقى بابتسامتها وارتكبوا حماقة ما؟
لكن فجأة، لمح شيئاً جعله يفتح فمه ذاهلاً.
“ماذا…؟!”
“ما الأمر؟!”
“لـ… لا شيء.”
سيدريك حول نظره عن إستيل وأعاد في ذهنه ما رآه، مستغربًا :
‘هل ما رأيته صحيح؟ لم أقصد أن تكون حماقات المغرم بإبتسامتها شيئًا كهذا.’
ألقى نظرة أخرى عليها، فإذا بوجهه يتشنّج.
لقد تحرّرت يدا إستيل، وكانت تبتسم وهي تستخدم السحر لتفعل شيئاً للخاطفين.
‘ما الذي تفعلينه؟’
صاحبة الفعل العجيب بدت مطمئنة وكأن شيئاً لم يكن، بينما هو من بعيد كان يكاد يجنّ من القلق.
أهذا هو شعور من يترك طفله عند الماء؟ وما يزيد الأمر سخرية أنّ “طفلته الحقيقية” مفقودة أصلاً.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات