“النهر يصطبغ بالدم، وفوق جثة الابن تتراكم جثث الوالدين… لا أريد أن أرى من جديد بأم عيني مشهدًا قرأته في رواية.”
“كُح…!”
“أتراك ستغمض عينيك بسلام إن فكرت أنّها تضحية من أجل الأكثرية؟”
تردّد في ذهنها صوت التنين مجددًا:
أيتها الساحرة العظيمة، إنكِ لن تنالي أبدًا ما تتشبثين به، لأنكِ أيضًا لست إلا كائنًا منقادًا بجريان القدر…
“مهلًا… انتظري.”
كمن أفاقة فجأة، أسرعت إيلين إلى سحب يدها عن عنقه وأخذت نفسًا عميقًا.
ارتبك الرجل وهو يترنّح حين اندفع الهواء إلى صدره، وحدّق بها متعجبًا. وبرغم أنه نجا من الموت للتو، إلا أن وجهه لم يكن يحمل أثرًا للغضب.
ولم تمهله لتفحص ملامحه، إذ تراجعت خطوات إلى الوراء، تمسح بكمّها العرق البارد الذي تناثر على جبينها. وفي تلك اللحظة تدحرجت عند قدميها بيضة التنين وارتطمت برفق بأطراف حذائها.
خفضت بصرها ببرود، ثم رفعت رأسها لتحدق مباشرة بالرجل الذي أفلت من حافة الموت، وهمست بصوت لا يكاد يسمعه إلا هو:
“شرط الاستيقاظ… هو فقدان من تحب.”
‘وما تحب الآن… هو أنا.’
فما الذي سيحدث لو أمسكت أنا بهذا الشرط بيدي؟
ظل تريستان واقفًا بذهول، لا يدري لمَ توقفت فجأة، وهي التي لا تتراجع قط عمّا قررته.
خطوة بعد خطوة، تقدمت نحوه ببطء، ترفع رأسها بزاوية لتطالع صديقها الذي صار أطول منها كثيرًا.
ثم، وكأنها تجد الموقف ساخرًا حتى من نفسها، ضحكت بخفة، وقالت بعينين نصف مبتلّتين:
“لن تسقط في الظلام، أليس كذلك؟”
رمش تريستان بعينيه.
اليد التي خنقته منذ لحظات لامست خده مجددًا، وأطرافها ترتجف قليلًا. أعادت همسها مرة أخرى:
“لن تسقط في الظلام…”
عينيه البنفسجيتان كانتا في غاية الصفاء. وكأنه يطيع سيده، وضع كفّه فوق كفّها، وأجاب برفق:
“نعم، لأنك قلتِ لي أن لا أفعل.”
وكأنّها لو أمرته أن ينتحر في هذه اللحظة لفعل.
أتُراه طيبًا إلى حد السذاجة، أم مجنونًا؟ على الأرجح هو الثاني، بما أنه الرجل المولود ليصير ملك الشياطين.
“يا لسخافة الأمر…”
تمتمت إيلين، ثم قالت شبه حديث مع نفسها:
“أتحبني إلى هذا الحد؟”
وفي تلك اللحظة تهاوى قناع رباطة جأشه.
احمرّ وجهه كالجمر، وأدركت إيلين ذلك، فانفجرت ضاحكة.
“ها، في النهاية… هكذا تجري الأمور.”
رفعت رأسها مبتسمة، كما لو أنها اتخذت قرارًا حاسمًا.
أما هو فبقي مذهولًا، عاجزًا عن فهم المعنى الكامن وراء ابتسامتها.
أيها الأحمق… أنت الذي سحركَ دفء كلمةٍ رقيقة في طفولتك، فاتّبعتني حتى هذه اللحظة.
أنت الذي ستجلب دمار العالم.
أنت الذي ستتمرد وتلقى مصرعًا بائسًا. ومع ذلك، الآن، على الأقل في هذه اللحظة، تحدّق بي بعينين مخلصة وتقول إنك تحبني.
إيلين، الساحرة العظيمة، والـمتجسدة في هذا الجسد، فتحت شفتيها وأطلقت صوتًا لم تستخدمه منذ أن عاشت كساحرة، صوتًا حنونًا.
“سأهب نفسي لك.”
“…ماذا؟”
أخذ ضوء الشمس يبهت ضوء القمر. والقمر الذي أخذ يخبو شيئًا فشيئًا كان نصفه مضيئًا.
المرأة الواقفة تحت سماء الفجر البيضاء أغمضت عينيها ببطء.
الشرط الذي يجعل تريستان يرتكب المجازر في المستقبل لم يكن مما ذكره التنين. بل كان شيئًا آخر.
شرط سقوط تريستان بلانشيه في الظلام… أن يحب من لا يبادله الحب.
والآن، من يحب… هي أنا.
“هل تتزوجني؟ ما رأيك؟”
هكذا، أعطيه نفسي.
وهكذا…
***
“آآخ! حار!”
وسط عاصفة من الرمال العاتية، وقفوا في الصحراء.
كانت إستيل قد غطّت جسدها بقطعة قماش طويلة، وصرخت بوجهٍ متألم:
“يا إلهي! الجو شديد الحر! ما زلنا في الربيع!”
قال سيدريك:
“هذا صعب. حين ينتصف النهار سيكون أشد حرًّا.”
فصاحت إستيل مصعوقة:
“أشد من هذا؟!”
حدّقت في الأفق الممتد بلا نهاية، حيث لا يُرى إلا الرمال. وما إن تجاوزوا الأطراف الصخرية للمنطقة حتى انكشف أمامهم مناخ آخر مختلف تمامًا: هواء جاف إلى درجة الاختناق، لا رطوبة فيه البتة، والحرارة خانقة بشكل لا يصدق على أنه فصل الربيع.
لم يسبق لها أن رأت منظرًا كهذا. فهي معتادة على البحار الواسعة والبرد القارس، أما الرمل والجفاف فكانا غريبين عنها.
أحكمت ربط النقاب على وجهها في مواجهة الرياح المليئة بالرمال، ثم أخذت تدور بجسدها، كأنها تختبر الاتجاه.
بينما تركها على حالها، فتح سيدريك الخريطة وقال:
“علينا النظر في هذا أولًا.”
سأله إدغار:
“وهل ستفيد الخريطة هنا؟”
“لقد جمعتها بنفسي.”
رفع إدغار حاجبًا وكأنه يسأل جمعت ماذا؟ فأردف سيدريك موضحًا:
“لقد جمعت سجلات السنوات العشر الماضية، واستخلصت منها تقديرات تقريبية للارتفاعات ورتبتها.”
“…أأنت الذي فعلت هذا؟”
“ومن عساه غيري؟ لم أستفد من مساعدتك بشيء، وإستيل كانت مشغولة بالتعافي، والطفلة صغيرة لا يمكن الاتكال عليه.”
رفعت لوتشي رأسها من عند قدميه، حيث كانت تبني قلعة من الرمل، ونظرت إليهما بعينين حائرتين.
تبادل إدغار النظر بين التنين المنهمك في لعبه وبين إستيل التي ما زالت تدور هناك بعيدًا، ثم أعاد عينيه إلى سيدريك.
‘يا لشدّة التزامه… حتى وهو يطارد عبدة الشياطين، وجد وقتًا لعمل كهذا. هذا الرجل واضح أنه يعتبر الموت من فرط الإجهاد غاية حياته.’
تمتم إدغار في نفسه وهو يحدّق في الخريطة التي بيد سيدريك.
“إذن، أين هي أعمق نقطة؟”
“المواقع المرشحة خمسة، لكن الوقت لا يكفي إن أردنا التنقّل إليها كلها سيرًا على الأقدام.”
أشار سيدريك بطرف إصبعه إلى النقاط المعلّمة بالحبر الأحمر على الخريطة، ثم قطّب جبينه وهو يخرج البوصلة.
وبعد أن التفت إلى إدغار الذي كان ينصت بصمت، سأله:
“لذلك أودّ أن أطلب منك استخدام سحر الانتقال. هل يمكن أن أعتمد عليك؟”
كان صوته أقرب إلى الأوامر منه إلى الرجاء. وهذا ليس بغريب، فسيدريك لم يزل يتحفّظ من هذا الرجل الغامض.
كان يتوقع أن يجيبه إدغار بسخرية كما يفعل دومًا. فمنذ ذلك الاعتراف الغريب، صار لانهائي اللين مع إستيل، لكن في المقابل ازدادت حدّته معه، حتى بات أشد ازدراءً من ذي قبل. ولذا افترض أن إدغار سيفعلها مجددًا.
لكن ردّة فعله لم تكن كما توقع.
“…… آه.”
‘مندهش؟ هذا الرجل؟’
برغم أنّ تعابيره انطفأت في لحظة، إلا أنّ سيدريك الذي كان يراقبه منذ البداية لم يفُته ذلك التغيّر.
كان وجهها مبللًا بالعرق، يبدو أنها لم تعتد على هذا الجو.
أخرج سيدريك منديلاً ومسح جبينها بخفة ثم سأل:
“هل أنتِ بخير؟ هل تشعرين بالدوار؟ ملامحك لا تبدو جيدة.”
“لـ، لا! أنا بخير، فقط…”
لكنها ما لبثت أن عادت إلى المكان الذي كانت تقف فيه، وحدّقت طويلًا في اتجاه المختبر الذي غادروه للتو، ثم تمتمت وكأنها تحدث نفسها:
“أشعر أن ذاك المكان… في مكان ما هنا…”
***
بفضل سحر إدغار اختصروا الكثير من الوقت، لكن هذا لم يجعل المهمة أسرع إنجازًا. فقد استغرق تفقد الموقع الأول الذي أعدّه سيدريك سلفًا خمس ساعات كاملة. ثم ضاعوا ساعتين في الموقع الثاني.
“بهذا الشكل سنموت قبل أن نصل إلى شيء…!”
في النهاية رفعت إستيل الراية البيضاء وسقطت أرضًا.
مدّ سيدريك القارورة إلى فمها وكأنه يضخ لها دمًا لإنقاذ حياتها.
كانت ستتقبل الأمر بلا تردد، لكن فجأة انتفض جسدها.
‘أجل، كدت أنسى… لقد حدث بيننا ذلك الموقف… لم يعد هذا الرجل مريحًا كما كان.’
تراجعت بخفة، وأخذت القارورة وحدها، ثم حدّقت في الرجلين.
كلاهما بدا في صحة جيدة!
‘أأنا غير طبيعية، أم أن هذين الاثنين غير طبيعيين؟’
“إستيل، هل أنتِ متعبة؟”
حتى لوتشي التي يجب أن تكون خطواتها أقصر من خطواتها، كانت بخير تمامًا.
‘ما هذا… هل لياقتي البدنية سيئة إلى هذا الحد؟’
وبينما كانت توبخ نفسها وتحاول النهوض من جديد، انهمرت عليها ريح باردة.
كان إدغار قد استحضر هواء باردة فدفع كتفها ليمدّدها على الأرض من جديد.
“أي شخص آخر لكان قد انهار منذ الموقع الأول. ارتاحي.”
“إذن أنا لستُ غير الطبيعية، صحيح؟”
“بالطبع. آه، خذي هذا.”
أخرج شيئًا من جيبه، ثم فتح فمه وكأنه يطلب منها أن تقلّده.
ماذا… هل سيطعمني شيئًا؟
فتحت فمها بلا حول، فإذا بقطعة من اللحم المجفف المالح بين شفتيها.
راحت تمضغها ببطء وهي تتناول الماء من يد سيدريك، ثم رفعت رأسها لترى السماء وقد بدأ الغروب يغمرها.
“لم نكد نرى الموقع الثاني أصلًا…”
فأجابها سيدريك:
“في الأصل، مجرّد تمكننا من فحص الموقع الأول في يوم واحد معجزة.”
جلس إلى جانبها من اليمين، بينما جلس إدغار إلى يسارها، وهي ممددة بينهما.
عندها فقط استوعبت أنها محاصرة بين الرجلين.
‘آه… الوضع شكله غريب حقًا…’
وساد صمت ثقيل يلف المكان.
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات