رفع الرجل رأسه فجأة وكأنه انفجر غيظًا، وسأل بلهجة جافة:
“لِمَ ذلك؟”
“أنا أرى أن هذه فرصة.”
كانت المائدة قد أُعدّت للضيوف، غير أنّ الوحيدة التي مدّت يدها إليها كانت صاحبة الدعوة نفسها، الأميرة.
التقطت قطعة حلوى صغيرة من على الطاولة ووضعتها في فمها، ثم واصلت حديثها بوجه جاد:
“منذ أن تمّ ختم الكونت بلانشيه، لم يسبق أن تحرك عبدة الشيطان بهذه الدرجة من النشاط. أليس كذلك؟”
“صحيح أنّ هناك من حاول الاقتراب من ختم غلاسيوم وكسره… لكن لم يتحركوا بهذا الحجم من قبل. هذه أول مرة فعلياً.”
بعد مقتل الكونت بلانشيه، كان الجميع يظن أن قوة عبدة الشيطان ستتلاشى سريعًا، فالجماعة بلا قائد لا بد أن تذوب وتزول. غير أنّ الأحداث الأخيرة دلّت بوضوح على عكس ذلك… إذ ظلّ عبدة الشيطان يظهرون بلا انقطاع. فمهما قبضت عليهم المعابد مرارًا، ظهر آخرون كما لو كانوا يتسربون قطرة بعد قطرة.
‘بالفعل… الأمر كان مريبًا.’
فمجرد التفكير في الهجوم الأخير على كافٍ ليبعث الشكوك: لعلّ هؤلاء ليسوا مجرد شراذم متناثرة كما كان يُظن، بل تنظيم أكبر حجمًا مما بدا.
فهمت الأميرة ما دار في خلده، فأومأت برأسها وقالت:
“لقد زرعوا جواسيس في الداخل، واستنادًا إلى المعلومات التي جمعوها، وجّهوا هجومًا دقيقًا على الآنسة بلانشيه… من الصعب عدّه تصرفًا عشوائيًا. أرى أنّ الأمر يستحق التعمق أكثر.”
عندها أدرك سيدريك سبب رفض الأميرة السماح الكامل بعمليات التفتيش، فظلّ يحدّق فيها بوجه جامد، وكأنّه يتأمل.
القصر الإمبراطوري يريد حلًّا أكثر جذرية.
لكن هذا يعني…
شعرت الأميرة بانزعاجه فابتسمت عامدة وهي تعبث بخصلات ذهبية متلألئة، ثم اقترحت بحذر:
“قصدي أنّه بدل القضاء عليهم فورًا، لو أبقينا على بعضهم ورصدنا تحركاتهم، يمكن أن نقود إلى معقل التنظيم نفسه.”
“هذا مرفوض.”
رفض سيدريك قاطعًا، فرفعت أغنيس كتفيها كأنها توقعت هذا الرد.
تُرى، هل كان يدرك أن عينيه الزرقاوين المغمورتين بالقوة المقدسة كانت تلمعان أشد من المعتاد؟
وحين أشارت له بيدها أن يتكلم، انطلق بلا تردد وكأنه كان ينتظر:
“لا أنكر أنّ الهدف هو تفكيك التنظيم. لكن إبقاء الجواسيس أحياء بغرض التتبع أمر محفوف بالخطر. الوضع الحالي فريد من نوعه؛ فغياب الآنسة بلانشيه قد يجعل بقاء الإمبراطورية نفسها موضع شك خلال ثلاثة أشهر.”
فوجئت أغنيس، فرفعت يدها وقالت:
“أوه، لعلها المرة الأولى التي أسمعك تتحدث معي بهذا الطول…”
“أقترح أن نُصفّي العناصر المتغلغلة بسرعة، وبعد الانتهاء من مسألة الكونت بلانشيه نعود لنناقش هذا الملف من جديد.”
هو في الحقيقة يريد أن يجرّ المذنبين فورًا ويقضي عليهم، لا أن يُثقل كاهله بالحديث عن قضايا كبرى.
أدركت أغنيس من كلامه حقيقة نيّته، فابتسمت ساخرًا:
“أليس الأمر ببساطة أنّك ستتكفل بحمايتها؟”
فوجئ الرجل وصمت مذهولًا:
“…عفوا؟”
“بلّغ الآنسة بلانشيه أنّك لأجل تتبع المعقل، ستترك بعض الجواسيس، وهذا قد يعرّضها للخطر من جديد… وقل لها إنك ستتكفل بحمايتها.”
ارتبك سيدريك من تحوّل الموضوع إلى حياته العاطفية، وحين تلعثم بالكلمات، سارعت أغنيس تضيف:
“سمعت أنّكما اتفقتما على مشاركة الغرفة بالفعل؟ لا أظنها ستصدك لو اقتربت أكثر. يا رجل، إن أردت علاقة حب فعليك أن تستخدم بعض الدهاء. أساعدك بدافع الشفقة.”
“لكن…”
“طالما أنك بجوارها فلن تموت. أنت بنفسك تعلم قدر قوتك، أليس كذلك؟ لست تكذب علي.”
ما خطر في ذهنه حينها هو موقف إدغار الذي بخلافه لم يؤجل مشاعره بحجة أن الوقت غير مناسب، بل نطق بها صراحة. وتذكّر أيضًا ما قاله له حين عاتبه:
“إن انتظرتَ ظروفًا مثالية قد لا تأتي أبدًا، فستخسر كل شيء.”
قد تكون اعترافاته صادقة أو مراوغة، لكن على الأقل تجرّأ وقالها. فهل يعني هذا أنّه متقدم عليّ؟ وإذ جاءت الأميرة لتردد على مسامعه كلامًا مماثلًا، شعر بشيء غريب.
هل أكون أنا منغمسًا أكثر من اللازم في الصراحة؟
لم يخطر بباله يومًا أن ينشغل قلبه بهذه المسألة.
لقد تربى على أن يعيش نزيهًا مستقيمًا، ولم يتخيل قط أن هذا سيكون نقطة ضعفه.
كان مقتنعًا أنه لن يختار يومًا سلوك الجبن. لكنه الآن… كاد ينطق بشيء بدافع الاندفاع، ثم أغلق شفتيه بإحكام وهزّ رأسه.
“هل هذا أمر أم أن لي حرية القرار؟”
“في قضية تعقب عبدة الشيطان، السلطة الأوسع للمعابد. القرار لك بصفتك قائد فرسانها.”
“لقد قدّمت استقالتي.”
“آه، ألا تعلم؟ لم يُعيّن قائد بديل بعد. جلالته أدرك مدى أهمية إستيل.”
كما توقعت، هكذا رُتّب الأمر.
لم يعد بلا منصب، وهذا مدعاة للشكر. وإن كان ما سيقدم عليه لاحقًا ردّ جميلٍ بالعداء. ( لانه انقذ استيل السجينة هو صار عدوهم )
تنفّس بعمق وأجاب كما لو كان ينتظر اللحظة:
“سأباشر عملية كشف علنية.”
عادت إلى ذهنه صورة إستيل التي لم تستطع النوم واستدعته.
لم يكن يريد أن يبقى قربها على حساب استغلال مخاوفها. كل ما أراده هو أن يزيل عنها كل مصدر قلق لتشعر بالأمان.
توقعت أغنيس هذا، ومع ذلك أبدت خيبة أمل خفيفة وهي تومئ برأسها:
“حسنًا، إن كنت مصرًّا فافعل.”
“لكن حتى لأجل إستيل، لا بد أن نقتلع المعقل من جذوره. وبما أن فرسان المعبد بلا قائد في غيابي، فسأحوّل الجواسيس إلى القصر الإمبراطوري.”
قهقهت أغنيس ساخرة وهي تحدّق به:
“هل تدرك ما تقول؟ تسليم الأسرى إلينا يعني التنازل عن جزء من مجد المعبد. لو كنتُ غيري لاستغليت ذلك لأقصى حد… لكن بما أنّك أنت، أعطيك فرصة لتعيد التفكير.”
بملامح ثابتة هادئة، أوضح أنّه فكّر في الأمر مليًا قبل قوله.
بكلمة واحدة ضمن أنّ عودته إلى المعبد ستستقبل بسخط شديد.
يا له من وجه جامد، نزيه إلى حد يثير الضجر.
زفرت أغنيس وهي تلوّح بيدها:
“كف عن إزعاجي. من كان يظن أنك بهذا القدر من الرومانسية؟ حين خطبتك لم تذكر سوى الحسابات والمكاسب!”
“إذن أستأذن.”
“هل ستتحرك القوات فورًا؟”
“لا وقت نهدره. سأقبض في الحال على العناصر التي سبق وحدّدناها.”
ها! ما إن حصل على الموافقة حتى شرع في التنفيذ فورًا.
تذكّرت أغنيس الأسماء التي وردت في قائمة قدّمها لها سيدريك من قبل.
بئس حظ هؤلاء، وقعوا في قبضته كما يُؤخذ الشيطان إلى الهلاك.
“صاحبة السمو، أهناك ما تضيفينه بعد؟”
سألها وكأنه يلحّ على استعجال الوقت.
‘حسنًا، فليرحل. ما نفع الحديث مع رجل تاه عقلُه بحبّه الأول؟ على الأقل حققتُ بعض مرادي.’
وحين نهض سيدريك متوجهًا إلى الباب، نادته قائلة:
“على أي حال، أرجو أن تحفظ نصيحتي. لي خبرة أوسع منك، وأقول لك: عليك أن تستخدم بعض الدهاء إن أردت النصر.”
“أشكرك على النصيحة.”
“تُحسن الرد وأنت تعلم أنك لن تستمع.”
لم يؤكد ولم ينفِ، وغادر الغرفة.
بعد قليل، سُمعت من خارج الباب صرخات مكتومة لجواسيس أُحضروا فجأة وقد ابتلعهم الرعب. ورغم هذا الصوت المروّع، تمطّت أغنيس في جلستها بلا مبالاة وهي تدندن بلحن قصير:
“همم، أشعر براحة الآن.”
إذن، آن أوان إنهاء تدخلي هنا والانسحاب. سأكتفي بجني الفضل من رجل يحافظ على حبّه بنقاء مطلق، ثم أترك لنفسي متعة التفرج لاحقًا على ما ستؤول إليه قصتهما.
***
ما إن دخل سيدريك الغرفة حتى وثب لوتشي التي كانت تغفو وهي جالسة عند الباب، وأمسكت بساقه متشبثة به.
“ما هذا؟”
ارتبك للحظة ثم وقد اعتاد الأمر، حمل الفتاة بين ذراعيه وربّت على ظهرها قائلًا:
“اذهبي ونَامي على السرير.”
“لكنني لم أُفسد شيئًا.”
‘وكأنها تتفاخر…’
لم يكن يتوقع منها الكثير أصلًا، لذا لم يتفاجأ، وإنما فقط انزعج قليلًا.
رفع سيدريك رأسه نحو المدفأة حيث كان الاثنان منهمكين في مطالعة الوثائق.
عندها أمسكت لوتشي بذقنه لتجبره على النظر إليها، وقالت بثقة:
همّ أن يعترض ويدفعها للنوم، لكنه توقف فجأة وتجمّد.
“عليك على الأقل أن تنافسه!”
“……؟”
“الساحر يجيد أشياء لا يستطيع الفارس المقدّس فعلها. على الأقل قُلّده!”
بعبارة أخرى: بما أنّك لا تجيد أمور الحب، فخذ دروسًا من حركات ذلك الساحر الذي يحاول اجتذاب إستيل.
ثم قرّبت رأسها من أذنه وبدأت تسرد له تفاصيل ما جرى بينهما، غير آبهة بجمود ملامحه.
“سمعت جيدًا؟ لقد أثنى عليها كثيرًا، وأهداها أيضًا…”
“…….”
“وأطعمها أطعمة لذيذة…”
‘أطعَمها… أطعمها بالفعل؟’
شعر بدوار مباغت.
‘تبا لهذا الوغد! لمَ بدا لي من أول لقاء أنه عديم الحياء؟ كيف تجرأ…’
عقد سيدريك حاجبيه بغيظ وتوجّه نحو الأريكة حيث يجلسان.
فركضت لوتشي لتقفز بين ذراعيه من جديد، وهي تُحرّك شفتيها متوسلة:
‘القوة المقدسة! أعطني القوة!’
مدّ يده متبرمًا وأطلق قليلًا من قوته ليُمسّد رأس التنينة الصغيرة، لكنه فجأة توقّف وتجمّد.
“لكن، لماذا تطلبينها؟ هل أنتِ مريضة من جديد؟”
“قليلًا؟ لذلك أسرع وأعطني!”
شعر أنّ وزنها في ذراعيه صار أثقل مما كان من قبل.
كان العلماء قد بدأوا بالفعل العمل على استعادة جسد التنين اعتمادًا على بقاياه، ويبدو أنّ تبعات ذلك ظهرت في نموها المستمر.
‘لا يكون أن تهدم مبنى كامل ذات يوم…’
تسلّل إليه شعور بالخطر، لكنه لم يستطع أن يصرخ في وجه غصن يافع ينمو.
‘لا بد أن أقيس طولها دوريًا.’
في المرة السابقة حين أصابها ألم النمو المفاجئ، كانت قوته تعمل كمسكّن. وبما أنّها الآن تلتمسها مجددًا، فلا شك أنّ قوته تشكل مصدر طاقة أساسي لنموها. ومع هذا الخاطر، بثّ سيدريك قوته وربّت على رأسها الباسمة.
“جيد! سأستمر إذن في إفساد الأمور بحماس!”
‘على الأقل، حين تؤمر تُحسن الفعل؟’
لكنه كان يعلم أنّه كلّفها هذه المرة بدافع الغيرة العمياء، ولن يكرر ذلك. هزّ رأسه نافيًا، وقال موبّخًا:
“يكفي… أهم شيء أن تنمين بصحة.”
*****
ترجمة : سنو
بالنسبه لقُراء المواقع.
انشر الفصول في جروب التيليجرام أول والواتباد. وممكن لو انحظر حسابي بالواتباد بعيد الشر بتلاقوني هناك ( ملاحظه، الي يدخل ويطلع رح ياخذ حظر )
بس اكتبو في سيرش التيليجرام : snowestellee
او هذا اللينك صوروه وادخلو له من عدسه قوقل: https://t.me/snowestellee
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات