“آنستي!!”
اندفعتُ خارج الباب بملابس نومي، لا أرى أمامي سوى الريح والثلج، لكن ماري أمسكت بي في اللحظة الأخيرة، بذراعين مرتجفتين وقلقٍ غامرٍ في صوتها.
“آنستي، أرجوكِ… تمالكي نفسكِ!”
“دَعيني يا ماري، أريد أن أذهب إلى أبي!”
“الثلوج تشتدّ في الخارج، والعاصفة تزمجر بجنون، إن خرجتِ الآن فستعرّضين نفسكِ للخطر! السيد سيعود غدًا، لذا أرجوكِ… ادخلي.”
“لا، لن أعود! يجب أن أراه الآن!”
“آنستي… أرجوكِ…”
لم تحتمل ماري أكثر، فاحتضنتني بقوةٍ يائسة، وكأنها تحاول أن تُدفئ خوفي بذراعيها.
تسللت برودة العاصفة إلى عظامي، وركبتاي لم تعودا تحتملان الوقوف، فسقطتُ أرضًا وسط الثلج الأبيض الذي بدى لي فجأة أشبه بالكفن.
وفي تلك اللحظة، انفتحت بوابة الذاكرة.
مشهد أمي وهي تُنقل بسيارة الإسعاف، وجهها المرهق يختفي تحت قماشٍ أبيض بارد، صورتها وهي تبتسم لي في الإطار الأسود فوق المذبح…
رحلت أمي في يومٍ واحد، وكأن السماء سحبتها دون وداع.
ولهذا… كنت خائفة.
خائفة أن يُكرر القدر قسوته، أن يُغلق عينيّ أبي إلى الأبد.
“ماذا لو لم يعد أبي غدًا؟” همستُ بصوتٍ مبحوح.
“آنستي…”
“ماذا لو رحل كما رحلت أمي؟ إلى مكانٍ لا يمكنني الوصول إليه مهما بكيت؟”
لا، لا أريد ذلك…
لا أريد أن يفلت أحدٌ آخر من بين يديّ، أن يتركني مرة أخرى في عالمٍ فارغٍ كهذا.
“السيد سيتعافى، آنستي، لقد تلقى علاج الكاهن، وهو في أمان. غدًا سيعود إليكِ حتمًا…”
كنت أسمع طمأنتها، لكني شعرتُ برجفةٍ خفيفةٍ في يديها، وكأنها تخفي عني حقيقةً أكثر مرارة.
ثم انهمرت دموعي بغتة، دافئة وسط البرد القارس، وسقطت على كتفها وهي تعانقني أكثر.
صرختُ في صمت السماء:
‘أرجوك يا حاكمي… احمِ أبي… احفظه لي، أرجوك…’
بكيتُ كما لم أبكِ من قبل، والعاصفة تزأر من حولي، وكأنها تبكي معي.
وفي المقابل، داخل المعبد المقدّس…
كان جسد كاليجو مسجّى فوق السرير، وجرحه الغائر قد التأم بفضل طاقة الكاهن، لكن وجهه الشاحب ظل ساكنًا كالجليد.
لقد فقد الكثير من الدم، والإنهاك الذي تراكم في جسده جعل استيقاظه أمرًا غير مؤكد.
حدّق الكاهن الأعلى فيه طويلًا، ثم خرج من الغرفة بخطواتٍ مثقلةٍ بالهم، ورفع بصره نحو السماء المظلمة.
لم يكن هناك قمر، لكن آلاف النجوم كانت تلمع فوقه كأعينٍ تتأمل الصلاة.
أطبق يديه بخشوعٍ وقال في صوتٍ واهن:
‘يا حاكم، اغمُر عبدك برحمتك الواسعة، وأعد إليه أنفاس الحياة.‘
وفي تلك اللحظة، سقط شهابٌ طويلٌ في عرض السماء، كأنه إجابةٌ من السماء على دعائه.
* * *
حين فتحتُ عيني، وجدت نفسي على سريري.
يبدو أنني بكيت حتى غفوت وسط العاصفة.
بقي روس وميمي والآخرون صامتين، يراقبونني بعينٍ قلقةٍ لا تجرؤ على السؤال.
أحضرت لي ماري الإفطار بنفسها، لكن كل ما وضعته أمامي كان بلا طعم، فدفعتُه بعيدًا.
لم أستطع البقاء أكثر، فاتجهت إلى غرفة أبي.
دخلت، وجلست حيث كنت دائمًا أنام بجواره، ونظرت إلى الوسادة الفارغة التي تركها خلفه.
امتلأت عيناي بالدموع مجددًا.
‘متى ستعود يا أبي…؟’
رفعت يدي لأمسح دموعي، لكن شيئًا لفت نظري تحت الوسادة — كتاب صغير ذو غلافٍ متآكل.
سحبته بهدوء، فقرأت العنوان المنقوش عليه:
<دراسة الأب الأولى>
قلّبت صفحاته، كانت عن التربية، مليئة بالملاحظات التي خطّها أبي بنفسه بخطٍ واضحٍ وقوي.
[أنظر إلى الطفل بعينٍ دافئة.]
[استمع إلى قصته حتى النهاية.]
[عانقه كثيرًا.]
[تحدث إليه بصدق.]
تساقطت الدموع من وجهي فوق الكلمات، فمحَت بعض الحبر عنها.
ضممتُ الكتاب إلى صدري كأنه كنزٌ لا يُقدّر بثمن، كأنه قطعةٌ من روحه.
“أبي!”
حين سمعت أنه عاد، ركضت دون تفكير، كأن قلبي يسبق قدميّ.
لكن حين وصلت، وجدته غارقًا في نومٍ عميق.
“أبي…؟”
لم يتحرك.
هززتُ كتفه، ناديته مرة تلو الأخرى، لكن جفونه بقيت مغلقة.
“أبي، استيقظ… أرجوك…”
سقطتُ على صدره وبكيت بحرقةٍ خرساء.
“أرجوك لا تتركني… ليس أنت أيضًا…”
مرّت ثلاثة أيامٍ ثقيلةٍ كالأبدية.
منذ ذلك اليوم، لم أترك غرفته إلا حين ينهكني النعاس.
كنت أتشبث بيده طوال الوقت، خائفةً أن يبرد دفؤها كما بردت يد أمي من قبل.
“أبي… سأكون فتاةً جيدةً من الآن فصاعدًا. سأطيعك دائمًا، ولن أزعجك أبدًا.”
لكن برودة أصابعه كانت تخيفني أكثر من أي وعد.
“سأتناول طعامي جيدًا، وأدرس بجد، فقط… فقط استيقظ.”
ارتجف صوتي، وذابت الدموع على وجنتيّ.
ثم، في لحظةٍ خافتةٍ كهمسةٍ من السماء… تحركت أصابعه.
ارتجفَت يدي وأنا أنظر، ورأيتُ بوضوحٍ كيف احتوت كفّه يدي الصغيرة بلطفٍ حنونٍ لا يوصف.
“…أبي؟”
رفعت رأسي ببطء، والتقت عيناي بأعمق زرقةٍ عرفتها في حياتي.
كانت عيناه — تبرقان بحياةٍ لم أصدق أني سأراها مجددًا.
ارتجفت شفتاي، ثم ارتميت في حضنه باكيةً بفرحٍ طاغٍ.
بكيت حتى اختنق صوتي، بينما كانت يداه تحيطان بي بخفةٍ حانية.
حدّق بي بصمتٍ طويلٍ، وكأن قلبه يتحدث بدل لسانه.
لقد كان أقوى رجلٍ في القارة — سليل آل وينترفيل الجبابرة — رجلٌ لا يُقهر.
لكن في تلك اللحظة، لم يكن هناك بطلٌ ولا أسطورة، بل أبٌ يحتضن ابنته التي تبكي من الحب والخوف.
“لقد كنتُ خائفةً عليك…” همستُ بين شهقاتي.
* * *
لأول مرة، شعر أن كلماته قاصرةٌ أمام هذا الحب الصغير الذي يشبه النور.
أحاطها بذراعيه أكثر وقال في صوته العميق الدافئ:
“سامحيني يا صغيرتي… لأنني جعلتكِ تقلقين.”
كان قميصه مبللاً بدموعها، لكنه شعر وكأن قلبه هو من ابتلّ، لا بدموعها، بل بالحب.
وفي اليوم التالي، جلست سيرينيتيا بجانبه، تُطعمه بابتسامةٍ مشرقةٍ كالفجر.
“آه~” قالت وهي تمد له الملعقة.
ابتسم ووضع الملعقة في فمه دون تردد.
“هل أعجبك الطعم؟”
“نعم، لذيذ جدًا.”
ضحكت ببراءةٍ جعلت الغرفة كلها تضيء.
ثم وضعت الطبق جانبًا وارتمت في أحضانه قائلةً:
“أبي، أنا أحبك كثيرًا… أكثر من أي شيءٍ في العالم.”
فمرّر يده على شعرها الطويل وقال بصوتٍ خافتٍ دافئ:
“وأنا أيضًا يا صغيرتي… أكثر مما تتصورين.”
* * *
عقدَ الإمبراطور صفقةً مع كاليجو— أن يمنح “زينوس” حريته، مقابل أن يسمح له برؤيتي مرةً في كل شهر.
‘يا له من إمبراطورٍ تافه! يتجرّأ على تحويل الحقّ الطبيعي إلى صفقة؟’
كم راودتني الرغبة في رفع إصبعي الأوسط في وجهه قائلة: افعل ما شئت!
لكنني… كنتُ جبانةً كعادتي.
ولهذا — ها أنا ذا، أزور القصر الإمبراطوري مرة أخرى، كما لو كنتُ ذاهبةً إلى منزلي لا إلى عرين الوحش.
في البداية كنت أكره هذا المكان حدَّ الاختناق. الجدران المزخرفة كانت تخنق أنفاسي، ورائحة القوة كانت تخيفني.
لكن مع مرور الوقت… صار القصر مألوفًا حتى العظمة، حتى بدا وكأنه منزلي الثاني.
“تحياتي، السير كريس!”
ابتسمتُ لحارس الباب الملكي المكلّف بحراسة جناح الإمبراطور.
“مرحبًا، آنسة سيرينيتيا. تفضلي، جلالته بانتظارك.”
كان الأمر سهلاً دائمًا، فالإمبراطور أصدر تعليماته منذ زمنٍ أن يُسمح لي بالدخول متى شئت — بلا استئذان، بلا طرقٍ على الباب.
دخلتُ الغرفة بخطواتٍ هادئةٍ معتادة، أتوقع أن يستقبلني الإمبراطور بضحكته المزعجة وصوته الجهوري، كما يفعل دومًا…
لكن اليوم، ساد الصمت.
جُلت ببصري في أنحاء القاعة حتى رأيته — ممددًا فوق الأريكة، نائمًا بعمقٍ كأن العالم بأسره غاب عنه.
‘هاه، إذن لهذا الصمت الغريب… نائم.’
اقتربت منه على أطراف أصابعي، هامسةً في ذهني بسخريةٍ لطيفة:
‘حين يُغلق فمه، يبدو وسيمًا بحق.’
فالوجه لم يكن يوماً المشكلة…
المشكلة كانت في فمه، ذلك الذي يطلق الحماقات كما تُطلق السهام.
‘لو أن أحدًا فقط يخيط شفتيه، لعمَّ السلام أرجاء القارة.’
وقفتُ أتأمله برهة، مستسلمةً لجمالٍ لم أجرؤ يومًا على الاعتراف به، حين خطر في بالي خاطرٌ مجنون:
‘هل أصفعه ضربة خفيفة؟’
حاولتُ طرد الفكرة، لكن قبضتي انغلقت وحدها.
وقبل أن أتمادى، تأوه الإمبراطور بصوتٍ خافتٍ متعب.
“أوه…”
كتمتُ صرختي بصعوبة، وراقبته يتلوى قليلاً في نومه.
“إيرين…” تمتم باسمٍ مكسور، والعرق يبلل جبينه.
‘أوه… إذن، حتى في نومك، تطاردك اللعنة نفسها.’
لو لم توجد تلك اللعنة المشؤومة، لما ماتت إيرين، ولما تاه زينوس بين الظلال.
ربما كانوا جميعًا يعيشون بسلامٍ وابتساماتٍ دافئة.
لكن حتى ذلك لا يبرر ما اقترفه من قسوة تجاه زينوس.
تنهدت، ثم مددت يدي بخفةٍ ومرّرت أصابعي على شعره المضطرب، هامسةً بلطف:
“استيقظ، أيها الأحمق المتغطرس… كفى كوابيس.”
وببطءٍ، بدأ وجهه يسترخي، وعبوسه يتلاشى شيئًا فشيئًا، حتى فتح عينيه أخيرًا.
التقت نظراته بي، عالقةً بين الغفوة واليقظة، ثم ابتسم ابتسامةً خافتةً أقرب إلى الحنين منها إلى الكبرياء.
“ها قد جاءت ملاكي الصغير…”
فيما بعد، كنتُ أجلس أمامه أتناول الحلوى التي أعدّها الطهاة خصيصًا لي، بينما كان يتأملني بنظرةٍ دافئةٍ خفيةٍ تحت ملامحه الجليدية.
لقد مرّت أربع سنواتٍ على هذا الطقس الغريب بيننا، ولم أعد أشعر بأي حرج.
“آنسة سيرينيتيا، ألا يوجد شيء ترغبين في الحصول عليه؟”
“شيء أريده؟ لا… لكن لديّ طلب.”
رفع حاجبيه بفضولٍ لطيف: “وما هو؟”
“أريد أن تمنح والدي إجازة لمدة شهر كامل.”
“كاليجو قال إنه سيعود للعمل غدًا.”
“أبي لا يعرف معنى الراحة، جلالتك. العمل هو كل ما يملكه.”
ضحك الإمبراطور ضحكة قصيرة: “ههه، هذا صحيح.”
ارتشفتُ الحليب وأكملت، بنبرةٍ صادقةٍ تفيض قلقًا:
“أعلم أن والدي قويّ، لكني أريد أن يرتاح قليلًا هذه المرة. أرجوك، اسمح له بالراحة.”
ابتسم الإمبراطور في لطفٍ نادرٍ منه وقال:
“كيف لي أن أرفض طلبك يا آنسة سيرينيشيا؟ بلّغيه أن لا يقلق بشأن المهام، وليأخذ راحته.”
“شكرًا جزيلًا، يا صاحب الجلالة!”
“بل أنا من يجب أن يشكركِ، يا صغيرتي.”
ترددتُ قليلًا، ثم تمتمتُ بصوتٍ خافتٍ محرج:
“أمم… في الحقيقة لديّ طلبٌ آخر، صغير جدًا.”
“تفضلي، قولي ما تشائين.”
ترددتُ للحظةٍ أخرى، ثم رفعتُ رأسي بثقةٍ طفوليةٍ عذبة.
“أتمنى من جلالتك أن تبتسم… لا لي فقط، بل للجميع أيضًا.”
ساد صمتٌ خفيف، ثم رأيت ابتسامته تتلاشى ببطءٍ من على وجهه، كأن كلماتي لامست شيئًا دفينًا في أعماقه.
‘يا إلهي، هل قلت شيئًا أحمق؟ هل سيقطع رأسي الآن بتهمة التجرؤ؟’
ثم، فجأة، ارتسمت على شفتيه ابتسامة جديدة… أكثر هدوءًا، أقل غرورًا.
“حسنًا…” قال بصوتٍ عميقٍ دافئٍ على غير عادته.
“سأحاول.”
لكن عينيه… لم تبتسما قط.
التعليقات لهذا الفصل " 38"