“لِـيـتـي!”
ارتطم النداء بجدران الصباح، حادًّا كالبرق في سكون الفجر.
كنت قد أنهيت تدريبًا خفيفًا على السيف في ساحة المبارزة، وتناولت فطوري بشراهةٍ تليق بجنديٍّ عاد من معركة، ثم عدتُ إلى غرفتي أبحث عن لِـيتي قبل أي شيء آخر.
“ما الأمر الآن؟”
“هل سبق لك أن رأيت شخصًا وُلِد من جديد؟”
“لم أرَ قط.”
“وماذا عن شخصٍ يزعم أنه أتى من عالمٍ آخر؟”
“أيضًا لا.”
“عظيم. لا فائدة منك إذًا.”
زفرتُ بعمقٍ وهززت رأسي بامتعاضٍ ظاهر.
“أيتها الخنزيرة، ما هذا الهراء الذي تتفوهين به فور عودتكِ من الطعام؟! أكلتِ حتى كدتِ تنفجرين، ويبدو أن معدتكِ التهمت عقلكِ معها!”
“ماذا قلت؟!”
“آه، آسفة! آسفة جدًّا!”
أمسكتُ به ودغدغته حتى كاد ضحكه يقطع أنفاسه، ثم جلستُ أشرح له ما جرى في الليلة الماضية.
“إذًا لهذا طرحتِ عليّ هذا السؤال الغريب.”
قال لِـيتي وهو يلهث من أثر الضحك، قبل أن يستعيد وقاره المعتاد.
“بالضبط. ألا يخطر ببالك شيء؟ لقد عشت ألف عام، لا بد أن تكون قد شهدت ما يفوق الخيال.”
“أخشى أن علمي، يا مولاتي، أقلّ من أن يليق بسؤالكِ.”
“لا بأس، لم أكن أعلّق آمالًا كبيرة أصلًا.”
ابتسمتُ بخفةٍ ساخرة، ورأيتُ وجهها يتشنج للحظةٍ قبل أن يتظاهر بالهدوء.
كم كان ذلك ممتعًا.
“آه، صحيح. تعال معي إلى الخارج.”
“إلى الخارج؟ لا تقولي إنكِ تنوين التخلص مني!”
“ماذا؟! كيف لي أن أتخلّص منك؟ سنذهب لرؤية إكليبس.”
“آه…”
“ما الأمر؟ لست مستعد بعد؟”
تردد قليلًا، ثم قال أخيرًا:
“لا، فلنذهب.”
ــ
كان زينوس قد طلب مني الاعتناء بـ إكليبس، وهكذا عاد الحصان الأسود المهيب إلى إسطبله المعتاد المخصّص لي وحدي.
أما لِـيتي، فهذه كانت أول مرة يغادر فيها الغرفة منذ زمنٍ بعيد — حدثٌ يستحق أن يُسجَّل في ذاكرة الأيام.
لطالما عرضتُ عليه مرافقتي للخارج، لكنه كان يرفض دومًا بلا تردّد، متذرّع بأنه لا يحتاج إلى ذلك.
لكنه اليوم وافق فورًا… يبدو أن الصداقة تصنع ما لا تصنعه السنين.
“إكليبس!”
حيّاني الحصان بصهيلٍ متعالٍ ووقور، ثم التفتت عيناه اللامعتان نحو لِـيتي.
“يااه، مضى زمن طويل.”
قال لِـيتي وهو يلوح بيده بلا اكتراثٍ ظاهر.
“أجل، منذ زمن.”
ردّ الحصان ببرودٍ مصطنع، لكنه بدا سعيدًا رغمًا عنه، فأطلقتُ ضحكةً قصيرة.
“سمعتُ أنك قلت هراءً لـ سيرينيتيا.”
هم؟ ما هذا المدخل الغريب للحديث؟
أليس من المفترض أن يبدأ السؤال بـ “كيف حالك؟” مثلاً؟
“أي هراء؟ آه، تقصد تلك الإشاعة عن أنك تحب الفتيات الجميلات؟”
“صحيح.”
“لكنها الحقيقة.”
ابتسم لِـيتي بمكرٍ خبيث، فاحمرّ وجه إكليبس — لو أن للخيل وجوهًا تحمرّ فعلًا.
“وما الذي تعرفه أنت؟”
زفر بغضبٍ من أنفه، كأنه يوشك أن يشتعل.
“أعرف أنك عندما قابلت إليسيا لأول مرة كنتَ تتبعها بذيلٍ يهتز من السعادة!”
“لم يحدث هذا قط!”
“كنتَ تحدق في وجهها طوال الوقت!”
“لم أكن أنظر إلى وجهها، بل إلى—”
“قلبها؟ بالطبع، دائمًا ما يدّعي من يعشقون الجمال أنهم لا يرون سوى القلوب!”
“قلتُ لا!”
يا إلهي، هل عليّ أن أتحمل هذا الجنون بين حصانٍ وامرأة في آنٍ واحد؟
“حسنًا، هل تحبها أم لا؟”
سأل لِـيتي فجأة وأشار إليّ بجرأةٍ كأنه يطعن الحقيقة نفسها.
تجمدت الكلمات في حلقي، ولم أجد مهربًا من الإجابة.
“أجب فورًا. تحبها أم لا؟”
“……آه.”
“ها؟ لم أسمعك~”
“…أحبها.”
شهقتُ أنا ولِـيتي في اللحظة نفسها.
“هاهاها! أرأيت؟ قلتُ إنك تقع دومًا للجمال!”
“كلا! لقد أعجبتُ بنقاء قلب سيرينيتيا، لا بجمالها!”
“أوه نعم~ أعجبتَ بقلبها النقي~~”
يا للسماء، رغبتي في خنقه تزداد كل ثانية.
ألقيتُ بغمد سيفي على الأرض، فصرخ لِـيتي فزعًا وهو يتراجع خطوةً إلى الوراء.
“ماذا؟ لماذا رميتيني؟!”
“إكليبس، نقطته الضعيفة هي الدغدغة.”
“فهمت.”
تلألأت عينا إكليبس ببريقٍ لئيم، بينما لوّحتُ لهما بابتسامةٍ هادئة قائلاً:
“سأعود لاحقًا.”
“لااا! لا تتركيني معه، أيتها القاسية عديمة الرحمة!”
خرجتُ ببطءٍ من الإسطبل، تاركًا وراءي صرخات لِـيتي المرتجفة تتلاشى في الهواء البارد.
ـ
وجهتي التالية كانت المكتبة.
لم أكن أبحث عن الكتب فحسب، بل عن سييل أيضًا.
ولحسن الحظ وجدته بسرعة.
“أخي!”
ناداني بصوته الهادئ، ثم سحب لي الكرسي المجاور.
“هل لديك كتاب عن التهويدات؟”
“لا.”
بما أن سييل نفسه موسوعةٌ حية، فإن عدم وجود كتابٍ يعني أنه حقًا غير موجود.
“إذًا ماذا عن كتابٍ يتحدث عن التقمّص أو الولادة من جديد؟”
“تلك لا تُرى إلا في القصص.”
بالطبع… لو استطاع البشر التحكم بالموت والميلاد، لما كانوا بشرًا بل آلهة.
ومن ذا الذي سيجرؤ على كتابة سرٍّ كهذا؟
لكن إذًا… كيف وُلدتُ من جديد؟
“ولماذا تسألين عن كل هذا؟”
“آه… قرأتُ روايةً عن رجلٍ لم يفعل شيئًا سوى الأكل طيلة حياته، فكان عقابه أن يولد خنزيرًا في حياته التالية… خفت أن ألقى المصير ذاته… هيهي.”
تأملني سييل بصمتٍ طويل، ثم أنزل نظره إلى الكتاب دون أن ينبس بكلمة.
لماذا يبدو هذا كأنه موافقة؟!
ــ
في أقصى الشمال الغربي، حيث تكسو الثلوج الغابة وأشجار البتولا البيضاء تصطف كأعمدةٍ من العاج، كان فرسان الشمس والقمر يقاتلون جنبًا إلى جنب لطرد الوحوش.
لكن كاليجو وقف بعيدًا عنهم، صامتًا كتمثالٍ في مهبّ العاصفة.
عيناه كانتا تحدقان في اللاشيء، وكأن أفكاره تجمدت في هواء الشتاء.
ثم تموّجت ظلال البتولا فجأة، وخرجت منها الوحوش من خفائها، متأهبةً للانقضاض.
وفي اللحظة نفسها، انبثقت حول كاليجو تسعة سيوفٍ من الجليد النقي.
دارت حوله بخفةٍ راقصة، ثم انطلقت تمزق الوحوش واحدًا تلو الآخر.
لم يطل القتال.
وحين سكن الصمت أخيرًا، كانت جثث الوحوش مبعثرةً على الثلج الأبيض، دون أن تلامس دمه قطرة.
ثم تهاوت تلك الجثث وتحولت إلى رمادٍ أسود، تناثر مع الريح، كأن المعركة لم تكن سوى سرابٍ في عاصفةٍ بيضاء.
وقف كاليجو محدقًا في الثلج الذي غطّى الأرض، فخطر بباله وجه سيرينيتيا المذعور في الليلة الماضية.
تنفس تنهيدةً ثقيلةً كصخرةٍ تهوي في صدره.
منذ الفجر، لم تفارقه صورتها. لم يستطع أن يطردها من رأسه مهما حاول.
‘مربية الطفلة كانت خادمةً لسيرينا سابقًا… كان ينبغي أن أدرك ذلك منذ البداية.’
لقد أخاف الصغيرة بلا داعٍ.
‘لا وجود لسحرٍ يعيد الأموات إلى الحياة. حتى الأطفال يعرفون ذلك.
فلماذا تستبد بي هذه الأفكار الحمقاء؟’
منذ أن وُلد الإنسان، مرّت دهورٌ لا تُحصى، ولم يقترب أحدٌ من تلك الحدود المقدسة.
المعجزات لا تُصنع بالأيدي، بل تُمنَح من السماء.
حتى لو تشابهت سيرينيتيا وسيرينا حدّ التطابق، فهي ليست ابنته.
كان يعلم هذه الحقيقة منذ اللحظة التي أحضرها فيها إلى القصر.
ومع ذلك، حاول أن يعاملها كابنته، لعل الضمير يهدأ.
‘سخيف… لم أجرؤ حتى على الاقتراب من أطفالي الحقيقيين، فكيف لي أن أكون أبًا لغيرهم؟’
لهذا أخذ يقرأ ويتعلّم.
لكن تربية الأطفال — على عكس كل العلوم — لا تخضع للحروف، ولا تطيع المنطق.
كل صفحةٍ كانت امتحانًا، وكل سطرٍ جرحًا جديدًا في قلبه.
‘أتظاهر بأنها ابنتي، وأنا أول من يعلم أنها ليست كذلك.’
كلما نظر إليها، شعر بشيءٍ يخنق صدره، شيءٍ لا يُسمّى.
بدأ يشكّ في أحقيته بالاحتفاظ بها.
ولهذا لم يستطع أن ينطق باسمها.
ذلك الاسم كان يلسع لسانه كلما حاول قوله.
‘هل يجب أن أخبرها بالحقيقة يومًا ما؟’
“يا سيّدي!”
قطع صوتُ أحد الفرسان خيط أفكاره، فرفع كاليجو بصره نحو مصدر النداء،
وعيناه عميقتان كليلٍ يحمل في جوفه ألف سؤالٍ لم يجد له جوابًا بعد.
لكن فجأة، بدأ الضباب الرمادي الكثيف يزحف من كل اتجاه، متغلغلًا بين الأشجار ومبتلعًا الأفق، حتى غرق كل ما حوله في عتمةٍ شاحبةٍ تشبه الحلم المسموم.
“سيدي! احذر…!”
غير أن صوت الفارس بدأ يخفت شيئًا فشيئًا، كأنه يتلاشى عبر طبقات الضباب، ثم انقطع تمامًا، تاركًا الصمت يطبق على المكان.
لم يحتج كاليجو إلى التفكير طويلًا ليدرك ما يجري.
كان هذا من صنع الوحوش بلا شك.
ثبت في مكانه، يراقب بهدوءٍ حذر، لأن أي هجومٍ أخرقٍ على هذا الضباب قد يُعرّض الفرسان القريبين للأذى.
ثم—
“أبي…”
انشق السكون على صوت طفلةٍ مرتجف، خافتٍ كأنما يخرج من بين الضباب نفسه.
“أبي… أرجوك، أنقذني…”
ذلك الصوت… كان مألوفًا حد الألم.
لكن كاليجو أنكر، ورفض تصديقه.
لم يكن ممكنًا أن تكون سيرينيتيا هنا.
لا بد أن هذا صوتٌ متقنٌ صنعه الوحش ليغوي فريسته.
“أنا خائفة جدًا…”
ورغم علمه اليقين بأنها خدعة، ارتسمت في ذهنه صورة الطفلة المرتجفة، متشبثة بثوبه، وعيناها دامعتان.
“هل… هل ستتخلى عني يا أبي؟”
تجمّد الزمن.
توقف كل شيء.
لم يعد يسمع سوى دقات قلبه، ثقيلةً، خافتةً، كأنها تُغرقه في قاعٍ لا نهاية له.
وبينما فكره معلقٌ في العدم—
طعنةٌ خاطفة.
انغرست مخالب الوحش في بطنه، واخترق الألم جسده كوميضٍ ناريٍّ لا يُحتمل.
سال الدم القاني من الجرح، متوهجًا فوق الثلج البارد كالياقوت المنصهر.
حدّق كاليجو في تلك المخالب المغروسة فيه، ولم يكن في عقله سوى فكرةٍ واحدة:
‘لحسن الحظ… لم تكن هي.’
ثم قبض بيده على ذراع الوحش بكل قوته، مانعًا إياه من انتزاع مخالبه.
في اللحظة التالية، بدأ الجليد يتكاثف من موضع اللمس، زاحفًا بسرعةٍ قاتلةٍ فوق جسد الوحش.
لم يكن البرد يطال شيئًا سوى العدو؛ إذ التهمه الجليد وحده كحكمٍ مقدس لا يخطئ هدفه.
تجمد الوحش في هيئةٍ مرعبة، ثم تهشّم في طرفة عين إلى آلاف الشظايا الباردة، تبعثرت مع الريح كرمادٍ منسيّ.
ومع اختفائه، تلاشت الضبابية الثقيلة التي كانت تحجب السماء، فانكشفت الغابة مجددًا تحت ضوء النهار الباهت.
“سيدي!”
صرخةٌ جاءت من بعيد، كانت آخر ما سمعه كاليجو قبل أن يخبو وعيه ويسقط على الأرض.
✦ ✦ ✦
“لماذا لم يعد أبي بعد؟”
كان قد غادر منذ الفجر، والآن أوشك النهار أن ينقضي.
شيءٌ غريبٌ كان يخنق صدري، شعورٌ بالقلق لا أستطيع تفسيره.
“كـوـو…”
رفع ميمي رأسه من بين ذراعي، ولطف وجنتي بيده الصغيرة كأنه يحاول مواساتي.
“نعم، لا تقلقي… لن يحدث له شيء، أبي قويٌّ جدًا، أليس كذلك؟”
ابتسمتُ محاولةً طرد الخوف من قلبي.
طرقةٌ خفيفة على الباب.
“آنستي، هل أنتِ مستيقظة؟”
كان ذلك صوت ماري.
“نعم، أنا مستيقظة.”
فُتح الباب ببطءٍ، ودخلت ماريلين.
لكن وجهها كان شاحبًا، وعيناها متجمدتان كأنهما تحملان خبرًا يرفض اللسان نطقه.
“ما الأمر يا ماري؟ هل أنتِ مريضة؟”
ارتجفت شفتاها قبل أن تهمس بصوتٍ مبحوح:
“آنستي… في الحقيقة…”
التعليقات لهذا الفصل " 37"