لم تخمد بعدُ جذوة الحماس المتأجّج في صدور الجماهير، فما زال هدير الهتاف يتردّد في الساحة كعاصفةٍ من المجد، تهزّ الأرض وتملأ السماء باسمٍ واحدٍ يتردّد صداه بين القلوب: زينوس.
ترجّل عن صهوة جواده الأسود إكليبس بخطواتٍ متردّدة، وعيناه تائهتان في الفضاء من حوله، كأنّ عقله يعجز عن تصديق أنّ هذا الضوء، وهذا التصفيق، وكل تلك الأعين المتلألئة بالإعجاب، قد وُجِّهت نحوه هو، لا إلى أحدٍ آخر. كان هذا الفتى، الذي قضى أعوامًا يعيش في ظلال الآخرين، قد أصبح فجأةً في قلب الضوء، في مركز عالمٍ يهتف له بأكمله.
‘هل هذا حلم؟’
‘هل يعقل أن أكون أنا من يقف هنا، لا غيري؟’
وقبل أن يستفيق من دهشته، اخترق صوتٌ ناعم سكون ذهنه كنسمةٍ دافئة تتسلّل بين شقوق العاصفة.
“زينوس.”
رفع رأسه ببطءٍ ليجد سيرينيتيا تتقدّم نحوه، تمشي بخفّةٍ تكسوها الهالة البيضاء التي لا يملك النور أمامها إلّا أن ينحني. ابتسمت تلك الابتسامة الهادئة التي تحمل في طيّاتها السكينة والدفء والاعتراف، ثمّ ضمّته إلى صدرها، لتغمره لحظةً بصفاءٍ لم يعرفه قلبه من قبل.
“مبروك الفوز.”
ولوهلةٍ، حين أحاطه دفء ذراعيها، شعر بأنّ العالم كلّه توقف ليتنفّس في صمت، وأنّ شيئًا عميقًا في داخله قد انكسر لينهض من جديد. لم يعد الحلم حلمًا، بل حقيقةً خالصة تتوهّج بحرارةٍ إنسانيةٍ ناعمة. رفع يده بتردّدٍ وحياءٍ ليبادلها العناق، كأنّه يخشى أن تنهار المعجزة لو أمسكها بقوّةٍ أكبر مما ينبغي. كان ذلك المشهد لحظةً أبدية، نُقشت في ذاكرته بحروفٍ من ضوءٍ لا يُمحى.
وفي مكانٍ آخر، داخل العربة الإمبراطورية المزخرفة بالذهب والعتمة، جلست لوبيليا تتابع المشهد بعيني غرابٍ أسود يحلّق في السماء. لمعت ابتسامة ساخرة على شفتيها وهي تهمس لنفسها بفتورٍ يشبه سخرية القدر.
‘ظننتُ أنهم سيستعينون بفرسٍ تافهٍ عاديّ… لكن أن يعيدوا ذلك الفرس تحديدًا؟ يا للسخرية.’
من كان يظن أنّ الجواد الذي خاض معارك المجد بجانب الإمبراطورة الأولى قبل خمسة قرونٍ لا يزال يتنفّس الحياة حتى الآن؟ حتى لوبيليا، التي اعتادت أن تعرف ما يجهله الجميع، لم تتنبّأ بهذا.
‘هل هي تلك الصغيرة مجددًا؟’
وقعت عيناها على سيرينيتيا وسط الجموع، فانعكست في بريقهما نغمةٌ غامضة، وارتسمت على شفتيها ابتسامةٌ مائلة كأنّها وعدٌ مؤجّل.
‘يبدو أنّ وقت اللقاء قد اقترب.’
ثمّ انطلقت العربة ببطءٍ، تبتلعها الظلال شيئًا فشيئًا، كأنّ الليل نفسه يخشى ما تُضمره ابتسامتها.
* * *
قبل بدء مراسم التتويج، كان زينوس قد اتّهم لويس بالغشّ علنًا أمام الجميع.
لكنّ لويس لم يكتفِ بالإنكار؛ بل ردّ باتهامٍ مضاد، مدّعيًا أنّ زينوس يكذب ويسعى لتشويه سمعته.
غير أنّ القدر كان قد أعدّ له مفاجأةً لا تُردّ — الدليل كان مخفيًّا في كفّ زينوس ذاته.
ففي كمّ معطفه، كانت هناك أزرارٌ مرصّعةٌ بجواهر لامعة، إحداها ليست مجرّد حجرٍ كريم، بل كرةٌ سحرية مصغّرة تُسجّل ما تراه، من تصميم سيرينيتيا نفسها.
وحين انبعث الضوء من الحجر، ظهر كل شيءٍ أمام الأعين: خيانة لويس، وفعله الذي تجاوز حدود المنافسة ليصبح أقرب إلى محاولة قتل.
ارتجّ المكان بالهمس، وانهارت ملامح لويس، ثمّ حاول الدفاع عن نفسه قائلًا: “لقد كانت مجرد غلطة…”
لكن لا أحد في القاعة كان يجهل أن ما فعله لم يكن غلطةً، بل جريمةً كاملة.
وفي النهاية، صدر الحكم — الطرد الفوري من الأكاديمية، مطرودًا من المجد إلى العار الأبدي.
* * *
انتهى مهرجان إيوس العظيم أخيرًا، تاركًا خلفه سماءً ملوّنة بالألعاب النارية، وأرضًا مغطّاة بالورود.
كنتُ أسير مع فريد في طريق العودة إلى السكن الداخلي، وهو يحمل زينوس النائم بين ذراعيه كما يُحمل طفلٌ نجا من معركةٍ طويلة.
كنتُ أضحك بين الحين والآخر، ضحكةً خفيفة تشبه رنين البلور حين يلامس النسيم، لا أستطيع كبحها مهما حاولت.
كان الفرح يغمرني كما يغمر الربيع أرضًا كانت ميتة، وها هي تزهر من جديد.
‘سيفاجأ كثيرًا عندما يرى ديون غدًا.’
تذكّرت ما حدث صباح المهرجان، حين ذهبتُ أبحث عن ديون في الأكاديمية. كان منظره كارثيًا — جسده كله كدمات، ذراعه في جبيرة، ساقه مضمّدة، وجهه مغطّى باللاصقات البيضاء.
‘مستحيل… ديون لا يُهزم. هل واجه مخلوقًا من الجحيم نفسه؟’
لكنّه قال لي ببساطةٍ وكأنه يتحدّث عن أمرٍ تافه: “وقعتُ… وتدحرجت قليلًا.”
أيّ نوعٍ من التدحرج يجعل الإنسان يخرج شبه محطم؟!
‘سأطلب من روس أن يتأكد غدًا من ذهابه إلى المعبد كما وعد.’
حين وصلنا إلى غرفة زينوس، وضعه فريد على السرير بلطفٍ أبوي، وغادر بهدوءٍ تاركًا الغرفة تسبح في ضوءٍ خافت.
اقتربتُ منه ببطء، أتأمّل ملامحه الهادئة. كانت يداه الصغيرتان تمسكان بإكليل الغار كأنّهما تخشيان أن يفرّ النصر منه في الحلم.
ابتسمتُ بعطفٍ لا يوصف، وهمست:
“تعال قريبًا يا زينوس… سأكون بانتظارك.”
مرّرتُ أصابعي على شعره بلينٍ كأنني أمسّد على أحلامه نفسها، ثمّ غادرتُ الغرفة تاركةً خلفي أثر ابتسامةٍ طويلةٍ ودفءًا لم يكن يخصّ المكان وحده.
عندما نزلت من العربة عند بوابة القصر، رأيتُ والدي، كاليجو، ينتظرني هناك.
ناديتُ بفرحٍ عارم ملأ قلبي حتى فاض:
“أبييي!”
فتح ذراعيه لي واحتواني بينهما، فأحسستُ أن العالم بأسره قد عاد إلى موضعه الصحيح.
كان حضنه أدفأ من أي وقتٍ مضى، كأنّه مأوى الطفولة الذي لا يشيخ.
“يبدو أنّكِ مسرورة اليوم.”
“جِدًّا! زينوس فاز يا أبي!”
“حقًا؟ هذا رائع.”
“كان مذهلًا عند خط النهاية… لا يمكنك تخيّل ذلك الشعور!”
ضحك بخفةٍ، وقال وهو يسير بي نحو الداخل:
“إذن احكي لي كل التفاصيل.”
وبينما كنتُ في أحضانه، بدأتُ أروي له الأحداث بشغفٍ طفوليٍّ مضيء:
“ثم فجأة خرج إكليبس من ظلّ لويس! تخيّل! قال زينوس لاحقًا إن إكليبس يستخدم سحر الظلال، لهذا ظهر بتلك الطريقة الرهيبة!”
ابتسم أبي بهدوءٍ وربّت على رأسي بلطفٍ يُذيب القلب:
“سأستمع لبقية الحكاية في غرفتكِ، هيا.”
وحين ابتعدتُ عنه قليلًا، خفّ ضوء فرحتي فجأة.
لماذا كنتُ أضحك بهذا القدر اليوم؟
اليوم ليس يوم فوز زينوس فقط… بل أيضًا ذكرى رحيل أمي، سيرينا.
تذكّرت قوله لي: “سأنتظرك في الغرفة.”
كما كان يفعل في كل عام، في مثل هذا اليوم، منذ كنتُ طفلة لا تفهم معنى الحزن.
صار هذا اللقاء طقسًا مقدّسًا بيننا، يمزج الحنين بالصمت والسكينة.
“ماري، سأستحمّ سريعًا ثم أذهب إلى أبي.”
“حاضر، آنستي. سأعدّ لكِ الحمّام حالًا.”
بعد قليلٍ، كنتُ قد انتهيتُ، وجفّفتُ شعري على عجل، ثم هرعتُ إلى غرفته.
فتحتُ الباب بحماس:
“أبي! لقد جئت!”
كان جالسًا على السرير، وفي يده جوهرةٌ مضيئة — كرةٌ سحرية تعرض صورةً لامرأةٍ شاحبة الملامح… أمي.
وضعها جانبًا حين رآني، ثمّ التفت نحوي.
“شعرك ما زال مبلّلًا.”
“أردتُ أن أراك بسرعة، فتركته يجفّ وحده.”
ابتسمتُ بخفةٍ منتظرةً كلماته، لكنه ظلّ صامتًا.
ثمّ نهض، وأحضر منشفةً ناعمة، وجاء نحوي.
رفعني بذراعيه بخفّةٍ مدهشة، وجلس على السرير، واضعًا إياي على ركبتيه كما لو كنتُ ما زلتُ تلك الطفلة الصغيرة التي كان يحميها من كل شيء.
ثم بدأ يجفّف شعري بحركاتٍ هادئةٍ دقيقة، كأنّ أصابعه تهمس بحكاياتٍ من زمنٍ مضى.
‘ما هذا الشعور…؟’
خفق قلبي بخوفٍ ودفءٍ في آنٍ واحد، وكنتُ على وشك أن أصدق أنني أحلم، فقرصتُ ساقي. لا، هذا حقيقيّ تمامًا.
حين انتهى، قال بصوته الهادئ الذي يشبه الليل بعد المطر:
“في المرة القادمة، اجعليه يجفّ تمامًا قبل أن تأتي.”
“نعم… شكرًا، أبي.”
غطّاني بالبطانية حتى عنقي، كأنّه يخشى أن يلمسني البرد.
حدّقتُ في عينيه، كان فيهما حزنٌ غامضٌ، عميق، لا يمكن الوصول إليه.
“أبي، أحلامًا سعيدة.”
“وأنتِ أيضًا، أحلامًا طيبة.”
ابتسمتُ بطمأنينةٍ غامرة، وأغمضتُ عينيّ متمنّيةً أن يطول هذا الهدوء إلى الأبد.
استيقاظٌ مفاجئ في منتصف الليل ليجد الإنسان نفسه وسط هذا الموقف، أي صاعقةٍ تلك؟!
قلبي لم يهدأ بعد، لا يزال يخفق بعنفٍ كأنما يسعى للهرب من صدري.
حينها، مدّ كاليجو يده نحوي.
حركةٌ مفاجئة جعلتني أرتجف دون وعي، كعصفورٍ فزع من ظلٍّ عابر.
توقفَت يده في الهواء لحظةً، ثم تراجعت ببطءٍ حزينٍ إلى الخلف، وكأنها تراجعت عن فكرةٍ كانت ستكسر شيئًا هشًّا بيننا.
“سأخرج قليلًا. نامي أنتِ أولًا.”
“…حسنًا.”
لكن ظهره، وهو يغادر الغرفة، بدا لي مكسور الظلال، موشّى بالوحدة، كأنما يحمل على كتفيه ثقلَ صمتٍ طويل.
وبعد رحيله، ظللتُ مستيقظةً لوقتٍ طويل، أترقب صدى خطواته في الممر، إلا أنه لم يعد… لا قبل أن يثقلَ النومُ أجفاني على الأقل.
في صباح اليوم التالي، كان وجهي متورمًا قليلًا من قلة النوم، وعيناي ثقيلتين كمن حمل ليله كله في جفونه.
المكان بجانبي كان فارغًا، بارداً على نحوٍ غريب.
قال ألفريد إن كاليجو غادر مع الفجر في مهمة تطهيرٍ مفاجئة.
يا للجنود المساكين، كانوا نائمين بسلام، فما ذنبهم ليستيقظوا على أمرٍ كهذا؟
أحسستُ بوخزةِ تأنيبٍ في صدري.
لكن سؤالاً بدأ يراودني بلا توقف:
‘كيف يعرف كاليجو تلك التهويدة؟’
كنتُ أستحم بينما تخلّل البخار شعري عندما خطرت لي الفكرة.
ردّ فعله بالأمس، ذلك الارتباك الغامض… لا بدّ أنه مرتبطٌ بـ سيرينا.
إذًا، سيرينا تعرف تلك التهويدة أيضًا.
ولكن كيف؟ من أين سمعتها؟
ما إن انتهيتُ من حمّامي حتى أسرعتُ إلى ماري وأسمعتها اللحن ذاته.
لكنها لم تتعرف عليه.
سألتُ ألفريد وبقية الخادمات أيضًا، لكن الجميع أنكروا سماعه من قبل.
‘إن كانت حتى الخادمات القادمات من الجنوب لم يسمعن به، فكيف لسيرينا أن تعرفه؟’
تلك التهويدة كانت مألوفة جدًا…
في كوريا، كانت تُغنّى دومًا للأطفال ليناموا بسلام.
توقفت أنفاسي لحظة، وعيناي اتسعتا بذهولٍ صامت:
‘إذن، لا يمكن… هل يُعقل أن سيرينا، مثلِي، قد وُلدت من جديد؟’
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 36"