مضت أسبوعان منذ ذاك اليوم، أسبوعان امتزجا بالعرق والدماء والصبر، حيث أخذ إيكليبس يطيل المدة التي يسمح فيها لزينوس أن يمتطي ظهره، لكنه في المقابل صار أكثر تنويعًا في طرق الإطاحة به.
ذات يومٍ انطلق به بعيدًا، حتى إذا ما اطمأن قلب زينوس وأرخى أنفاسه، انحرف فجأةً نحو حافة جرفٍ سحيق، فألقاه منها كمن يُلقي بندفة ثلج في هوّةٍ لا قرار لها.
ولو لم يكن زينوس هو الفارس، ولو لم يمتلك جسدًا صُلبًا كالجَلَد، لما عاد من تلك الهوّة أبدًا.
ومن عليائها، كانت سيرينيتيا تراقب المشهد عبر سحر مشاركة البصر الذي ألقته لوس، فما إن رأت جسد زينوس يهوي قرب الجرف حتى دوّى صراخها في أرجاء القصر الكبير، كأنه نفير فاجعةٍ اخترق الليالي.
ومع ذلك، لم تعنف إيكليبس، ولم تُوجّه إليه لوماً واحدًا. لم يكن ردّها سوى أن تُهيّئ له طعامًا شهيًا، لتقدّمه بيديها الرقيقتين.
وبعد أن فرغت من أمره، هرولت نحو زينوس، الذي غدا جسده لوحةً من الضمادات واللصقات البيضاء، كأن جسده بات كتابًا مكتوبًا بحروف الألم.
لقد كان يتدحرج مئات المرات في اليوم الواحد، حتى إنّ قوة الكاهن المقيم في القصر بدأت تنفد سريعًا، يستهلكها علاج الجراح التي لا تني تتكاثر.
‘لو أنّ زينوس أسرع في تعلّم سحر الشفاء لارتاح جسده من هذه الآلام.’
تنهدت سيرينيشيا تنهيدةً عميقة، ثم أخذت الدواء الذي أحضرته، وبدأت تدهن وجهه بعنايةٍ كأنها تمسح على وجه ملاكٍ نائم.
وكانت تعرف أن قوانين هذا العالم صارمة:
لكي يُمارَس السحر، فلا بدّ من ثلاثة أركانٍ كونية:
الأوّل، أن يمتلك المرء مخزونًا من المانا؛
الثاني، أن يفهم جوهر المبادئ التي يقوم عليها السحر؛
الثالث، أن يملك ألفةً وانسجامًا داخليًا مع ذلك النوع من السحر.
وإن وُجد الفهم دون الألفة، فإنّ الطاقة تُستنزف كالدم من جرحٍ غائر، وتضعف الفاعلية حتى تكاد تضمحل، ولهذا فإن البشر العاديين لا يقدرون إلا على السحر الذي وُلدوا معه.
لكن زينوس، وريث دماء التنين، كان استثناءً أسطوريًا. فقد وُهب طاقةً بحجم المحيطات، وألفةً مع كلّ فروع السحر. ما إن يفهم القاعدة حتى ينطقها، فتستجيب الطبيعة نفسها لندائه.
غير أنّ سحر الشفاء ظل عصيًّا عليه، إذ تعقّدت مبادئه كخيوط العنكبوت التي لا يراها سوى ضوء الفجر.
‘هل كنتُ طمّاعةً حين دفعتُه إلى هذا الطريق؟’
تذكّرت سيرينيتيا كيف عاش زينوس في الماضي وسط كراهية البشر، يلاحقه الاحتقار أينما مضى.
كانت تريد لهذه الحياة أن تكون مختلفة، أن يُتوّج يومًا ما بالانتصار العظيم في المسابقة الكبرى، أن يقف شامخًا على القمّة، وتُرفع إليه أعين البشر بالإعجاب بدلًا من الازدراء.
ألصقت على خدّه لصقةً صغيرة مرسومًا عليها أرنبٌ لطيف، ثم نظرت إليه بعينين رقيقتين كالمطر المتساقط على أرضٍ عطشى، وهمست باسمه:
رسمت على شفتيها ابتسامةً حالمة، إذ تخيّلت وجهه يومًا يفيض نورًا بالضحكة الصافية.
وأضافت بهدوءٍ أشبه بتعويذةٍ سماوية:
“ستبلغ من السعادة ما يجعلها أمرًا بديهيًا، كالتنفس… فلا تحمل همًا الآن، واغفُ في أحضان حلمٍ طيب.”
ومع انسلال الليل إلى عمق منتصفه، فتح زينوس عينيه فجأة، كأنّ روحه أفاقت من سباتٍ غامض.
مدّ يده إلى وجهه، ليجد اللاصقة الصغيرة تلامس أنامله، فابتسم دون أن يدري.
كم كان عظيمًا أن يدرك أنّ سيرينيتيا اعتنت به مرّة أخرى، أن ظلّها لم يزل يرفرف حوله.
لكن فجأة، تذكّر أمرًا نسيه بين دوّامات الألم والإرهاق، فنهض من فراشه بخطى ثابتة، واتجه نحو باب غرفته، تاركًا دفء السرير وراءه.
كان الليل صامتًا، ساكنًا إلا من أنفاس الريح. دخل زينوس الإسطبل بخطىٍ وئيدة، يخشى أن يُوقظ إيكليبس. وضع فانوسًا صغيرًا جانبًا، ثم جثا على ركبتيه قرب الجواد، ومدّ يده المرهقة ليدلّك ساقيه المتعبة.
تحرّك إيكليبس قليلًا، ثم فتح عينيه الذهبيّتين، فتراجع زينوس معتذرًا:
“آسف… أيقظتُك.”
لكن الحقيقة أنّ إيكليبس كان قد استيقظ لحظة دخوله.
“سأدلّكك قليلًا ثم أرحل، أعدك.”
كانت يداه مليئتين بالخدوش، ومع ذلك كان يضغط بحنانٍ على عضلاته المتيبّسة. لم يفهم إيكليبس ما يدفعه لهذا الإصرار. على مدى خمسمئة عامٍ من عمره، لم يعرف من البشر إلا الطغيان والجحود. كلّهم عاملوه كآلة، كأداةٍ للركض، لا كروحٍ حرة.
كم مرة صُرخ في وجهه:
“أنت أداة، وُجدت للركض وحسب!”
“الجواد الذي لا يعدو عديم الجدوى!”
وحين كان يرفض الركض، انهمرت السياط على جلده، تُعاقب جسده وتُهين كبرياءه. وفي النهاية كانوا يتركوه، يتخلّون عنه بلا رحمة.
إلا هي… إلا إليزا.
كانت الوحيدة التي قالت له بابتسامة:
“أعجبني أمرك، فلنكن صديقين!”
كان الأمر مضحكًا، صداقة بين إنسانٍ وجواد؟! ومع ذلك تبعها، بدافع الفضول. وانتظر أن يكشف الزمن أقنعتها، كما فعل مع غيرها. لكنّها لم تتبدّد، بل ازدادت إشراقًا:
“لا بأس… إن لم تشأ الركض اليوم، فسأركض وحدي. ارتح أنت.”
يا لها من معجزة بشرية.
زفر إيكليبس بقوة، محاولًا محو طيفها من ذاكرته. فذلك الصبي الجاثي أمامه، وإن كان يحمل بصيصًا من طاقتها، فلن يكون هي أبدًا.
رفع رأسه، وقال بصرامة:
“كُفّ عن هذا، واذهب.”
كانت تلك أول مرة يتكلّم فيها أمام زينوس. لكن الفتى لم يندهش، بل تابع بطمأنينة. فقد قرأ في التاريخ الكثير، وكان يعرف من الكتب القديمة أنّ إيكليبس، ذلك المخلوق الأسطوري، ارتبط بعهدٍ مع إيلشيا.
“هل كانت إليزا… سيدتك؟”
اشتعلت عينا إيكليبس بغضبٍ محتدّ:
“نادها بلقبها، السيدة إليزا.”
“آه… معذرة. إذن السيدة إليزا كانت سيّدتك؟”
“…نعم.”
أطرق زينوس رأسه.
‘لكن لماذا انفصم العقد؟’
سؤالٌ ظلّ عالقًا في صدره، غير أنّه لم يجرؤ على لفظه. لكلّ كائنٍ جرحٌ دفين لا يُفشى.
رفع رأسه بابتسامةٍ هادئة، وقال:
“الآن أفهم سبب كراهيتك لي. إن كنتَ قد حملتَ يومًا عظمة سيّدة مثلك، فكيف ترضى بي؟”
سكت لحظة، ثم أضاف:
“لكنني أرجوك… مرّةً واحدة فقط. لا يهم إن أطحتَ بي مرارًا، لا يهم كم سأُجرح. يوم المسابقة فقط… تعالَ واركض معي.”
تسلّلت نظرة إيكليبس إليه، متردّدة، متحفظة. لكن زينوس لم ينتبه، فقد كان غارقًا في تدليكه بجدّيةٍ وإصرار.
أخيرًا قال إيكليبس ببرود:
“يكفي. اذهب… سأخلد للنوم.”
ابتسم زينوس، ورفع الفانوس:
“حسنًا. ليلة سعيدة، إيكليبس.”
وخرج بخطواتٍ هادئة. ومع ذلك، حين غادر، أحسّ الإسطبل فجأةً بالوحشة، كأنّ دفئه انتُزع منه.
ارتجف إيكليبس قليلًا، ثم انكمش في نفسه، يدرأ عن قلبه بردًا لم يعرفه منذ قرون.
حلّ يوم مهرجان إيوس.
المدرج العظيم يهدر بصخب الجماهير، مكتظًّا بهم كالمدّ المتلاطم، حتى خُيّل أن صوته سيُسقط السماء.
في المقاعد الدنيا، تكدّس العامة كتكدّس الحبوب في سنبلة. أمّا النبلاء العِظام فقد جلسوا في مقصوراتٍ فارهةٍ، يتابعون المشهد بأعينٍ متعالية.
دخلتُ إلى الاستاد بصحبة ماريلين وفريد.
‘آه… ما أعجب السحر، وما أروعه حين يُتيح لي أن أكون هنا، أرى وأشهد…’
تألّقت الشاشات العملاقة المعلّقة في جنبات الملعب، تبثّ المشهد في لحظته كأنّها تُزيل الحُجُب بين العين والحدث.
جَودَة الصورة بلغت من الصفاء حدًّا بدا فيه كلّ شيء حيًّا نابضًا، كأنّني أجلس في قلب الساحة نفسها.
وما هي إلا لحظات حتى دوّى صوت المذيع معلنًا افتتاح المهرجان، وبدأت أفواج الطلبة – كأنّهم أمواج بشرية متلألئة – تتدفّق في موكب مهيب إلى قلب الاستاد.
“المُمثّل عن جميع المتبارين، زينوس سيلفستر… تقدّم!”
ارتفعت الرؤوس، وانجذبت الأبصار، واشتعلت القلوب.
خطا زينوس بخطًى واثقة إلى المنصّة، يجرّ وراءه هالة من العظمة، لا يطأ الأرض بقدميه بل كأنّه يسير فوق بساط من نور.
وفي حضرة هذا الجمع المترامي، صدح بصوت صلبٍ شامخ، يتلو قسم البطولة، والرياح نفسها حبست أنفاسها لتصغي.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 34"