سألتُه بدهشةٍ كأنّها صاعقة اجتاحت روحي، وفي نظرتي ذهولٌ يتردّد صداه في أعماقي، فما كان من ليتي إلّا أن هزّ رأسه بهدوء الواثق الذي لا يُزعزع.
“نعم… ذاك الجواد لا يخضع إلّا أمام جمال النساء.”
فانفرجت شفتاي عن شهقةٍ متردّدة بين الضحك والبكاء، وسألتُ بصوتٍ متهدّجٍ يتوسّل التصديق:
“وماذا عن الرجال؟ لو كان الرجل وسيماً، ألا يلين قلبه له؟”
ابتسم بيتي ابتسامةً باهتة تنزف سخريةً باردة، وقال كمن يُسدّد رمحًا إلى قلب يقينٍ هشّ:
“لا. الرجال لا مكان لهم عنده.”
ارتجفت أعماقي بدهشةٍ متناقضة، فأمام ناظريّ انكشفت أسطورة لم يخطر لها ظلّ في خيالي: فرسٌ لا تروّضه السواعد القوية، ولا مكائد العقول، ولا غواية الهبات، بل إشراقة وجهٍ أنثويّ، ورقّة ابتسامةٍ من امرأةٍ مُضيئة. ‘أيّ سحرٍ هذا الذي يهزأ بالعقل ويُسقط قوانين الطبيعة؟ وأيّ عبثٍ يتوارى تحت قناع الجِدّ؟’
قال ليتي وهو يحدّق بعينيّ بلمعةٍ نافذة:
“لكن، لماذا تسألين عن هذا الآن؟ لا تقولي إنّكِ… وجدته.”
فاندفعت كالسيل أحكي له ما جرى في الميدان، كيف التقت نظرتي بنظرة إيكليبس، وكيف قفز في خاطري كلامه القديم كالبرق الذي يمزّق ستار الظلام.
وتذكّرتُ طفولتي، حين كنتُ أستمع مُكرهةً إلى قصصه التي لا تنتهي، تنهمر من فمه كلحنٍ مكرور يطاردني كعقوبة. كنتُ أظنّها عذابًا، فإذا بها اليوم بذور نجاة. ‘أليس هذا هو معنى القول القديم: لا تُعرض عن الحكمة وإن ثقلت على الأذن، فإنّها تعود إليك يومًا مفاتيح خلاص؟’
قال ليتي وفي نبرته خيط استغراب:
” حتي لو كان العثور عليه سهلاً كيف قبضتِ على ذاك الذي يسبق الريح؟”
ابتسمتُ بفخرٍ لم أُخفِه، وأجبتُ:
“كان زينوس… لم يكد يرمش حتى عاد به أسيرًا بين يديه.”
“ها قد بلغ ذاك الفتى هذا المدى… إنّ الدماء لا تُخفي جوهرها.”
فاشتعل في صدري فضولٌ كالنار، وسألتُه:
“قل لي، ليتي… أزينوس يشبه أمّه كثيرًا؟”
أطرق برهة، ثم أجاب ببطء:
“في الملامح، هو نسخةٌ حيّة من إيرين.”
“وفي الطبع؟ في الروح؟”
ساد الصمت لحظةً، ثم أشاح ليتي وجهه عنّي إلى النافذة، وقد غشا صوته غيمٌ ثقيل من الذكرى:
“لا أعلم… أو لعلّي لا أريد أن أتذكّر.”
وعندها تساقطت في ذهني أسماءٌ ثلاثة كنجومٍ بعيدة: إليزا، الإمبراطورة المؤسِّسة، ثم إيرين والدة زينوس، وأخيرًا سيرينا. أسماءٌ لم يُبح ليتي بأسرارها قط، لأنّ الذكرى عنده إمّا أن تكون سامةً يرفضها، أو عزيزةً حتى الألم. ولم يكن لي ريب أنّها الثانية، إذ كيف يكره قلبٌ مثل قلبه وجوهًا عاشت للوفاء؟
‘لقد أحببهم كثيرًا، حدّ أن صار الحبّ جرحًا أبديًا لا يندمل.’
وهكذا فهمتُ أنّ الزمن قد يُبهت الصور، لكنّه لا يمحو المشاعر، بل يجعلها أعمق، كابتسامة أمّي التي ما زالت حاضرةً في دمي وإن غابت في القبر. ورأيتُ في عيني ليتي نفس الضياء؛ ضياء ماضٍ بعيد يلمع خلف ستارٍ من حزن.
“ليتي… هلا جئتَ معي لنرى إيكليبس؟”
أجاب بخفوتٍ يجرجر وراءه وجعًا قديمًا:
“فيما بعد.”
أومأتُ بابتسامةٍ رقيقة، وهمست:
“كما تشاء.”
وغادرتُ الغرفة على أطراف الصمت، علّه يجد في وحدته عزاءً لذاكرته التي تنزف.
* * *
وفي الإسطبل، رافقني زينوس، لنُلقي نظرةً على إيكليبس. كان على غير توقّعٍ مطمئنًا، قابعًا بهدوءٍ خلف الحاجز السحري الذي ألقاه زينوس حول المكان، لا أثر لصخب الوحشية في عينيه، بل سكونٌ كأنّه سكون الغياهب قبل العاصفة.
تقدّمتُ بخطى متردّدة، وناديتُ بخجلٍ متهدّج:
“مرحبًا…”
لكنّه لم يلتفت، كأنّني مجرّد نسمةٍ تائهة في فراغ الكون. ارتسمت على شفتي ابتسامةٌ حزينة مُرّة: لعلّ وجهي لا يرقى إلى مقاييس بهائه.
تمتمتُ متأوّهة:
“سامحني، جئتُ بك عنوة.”
حينها انقلبت عيناه تجاهي، وفيهما عتابٌ قاسٍ، كأنّه يقول: “أتقرّين بجرمكِ… ثم تجسرين؟”
حتى زينوس، وقد ثقل صدره بالذنب، مال برأسه قائلًا بنبرةٍ خافتة:
“أعتذر منك أنا أيضًا.”
غير أنّ إيكليبس ما لبث أن أدار رأسه عنّا بازدراءٍ صامت، كمن يترفّع عن الصفح.
همستُ لزينوس:
“فلنتركه… سنعود لاحقًا.”
أومأ موافقًا، فانصرفنا بخطى مثقلة.
وحين غمر الليل القصر بصمته المهيب، خرجتُ خلسةً نحو الإسطبل، أحمل في يدٍ فانوسًا، وفي الأخرى سلّةً مثقلة بالهدايا.
اقتربتُ من المربط، فإذا بعينيّ تقعان على معلفٍ لم تُمسّه يداه؛ لم يذق من علفه شيئًا. آهٍ… أكان الجوع أهون عنده من الأسر؟ أكان احتجاجه صامتًا إلى هذا الحدّ؟
“كلّ ما أطلبه… أن تركض معه مرّة واحدة. فقط مرّة واحدة.”
أدار وجهه بعيدًا، نافثًا هواءً ثقيلاً من منخريه، كمن يسخر من رجاءٍ بشري.
انحنيتُ على ركبتيّ، أستجدي بحرارةٍ قدّيسة:
“أرجوك… إنها منافسة ستجري بعد شهر. لقد اشترى أحد المتكبّرين كلّ الخيول، فلم يبقَ لنا إلا أنت. ولم يخطر في بالي أحدٌ سواك.”
رفعتُ بصري نحو السماء التي انصهرت في عمق الظلام، وتدفّق من صدري رجاءٌ ملهِم:
“أريد لزينوس أن يفوز، أن يُحتفى باسمه، أن يتذوّق السعادة التي حُرم منها طويلًا. إنّه نقيّ، قلبه من نور… وأنا لا أطلب سوى أن تساعده مرّة واحدة.”
طأطأت رأسي حتى مسّت جبيني الأرض، كمن يرفع دعاءً مقدّسًا إلى عرش القدر.
ساد صمت طويل، كأنّ الزمن جُمد في عروقه. كنتُ على يقينٍ أنّه سيرفض، ومع ذلك ظللتُ راكعة، مستسلمة لقراره.
وفجأة… انشقّ الصمت بصوتٍ أجشّ غريب، لم يأتِ من حنجرة بشر:
“لا أثق بكلام البشر.”
شهقتُ، ورفعتُ رأسي، عيناي تتّسعان دهشةً. لقد تكلّم!
“ذلك الصبي… أهو طيّب أم خبيث؟ هذا ما سأحكم عليه بنفسي.”
في قلبي انفجر نور ابتسامة، وارتجفت شفتاي وأنا أهمس مبلّلة بالدموع:
“هل لي… أن أضمّك مرّة واحدة فقط؟”
حدّق بي طويلاً بنظرةٍ عجيبة، ثم لم يصدّني. فانطلقتُ نحوه، أحتضن عنقه الدافئ، وقلبي يخفق كأنّي وجدتُ وطنًا ضائعًا.
“شكرًا… يا إيكليبس.”
كان جسده دافئًا، وحضنه أشبه بسماءٍ رحبة تتّسع لروحي.
* * *
كان المشهد أشبه بلوحةٍ أبدية من أساطير الجبال: إيكليبس يندفع بخطى جبّارة، يحمل زينوس على ظهره، يشقّ عباب الثلوج فوق سفوح الجبال الشاهقة، كأنّه نيزكٌ يهبط من السماء أو صاعقة تكسّر صمت البياض. لم يكن هنالك ما يضاهي ذلك الجمال المهيب.
غير أنّ في القلب غصّة… فما أبصرته عيناي لم يكن واقعًا، بل حلُمًا عابرًا. حلمٌ سرعان ما انقشع ليكشف قسوة اليقظة.
“زينوس! إيكليبس وافق أن يركبك على ظهره! آه، إيكليبس… هذا اسمه!”
لكن، ويا لسخرية القدر، سرعان ما تلاشى بريق كلماتي الواثقة؛ إذ إنّ إيكليبس كان كلّما حاول زينوس امتطاءه، ينتفض بعنفٍ، ويلقيه أرضًا. لم يكن ذلك عن رفضٍ أو كراهية؛ وإلا لفرّ منذ زمن بعيد، ماضياً إلى حريته التي لا يقيّده فيها بشر. لا بدّ أنّ له في صمته وحِدّته سرًّا لا يعرفه أحد.
كان زينوس يتلقّى السقوط تلو السقوط بمهارة المتمرّس، فيتدحرج بخفةٍ تُخفّف وطأة الارتطام. ومع ذلك، فقد بدأت الكدمات والخدوش تلوّن جسده، ندبةً فوق ندبة، وجُرحًا يتبع آخر.
دوّى ارتطامٌ هائل: كُــــــــنغ!
وكانت تلك المرة المئة… المئة تمامًا التي يُطرَح فيها أرضًا.
من بعيد، أسرعتُ إليه بخطى تسبق نبضي. كان مُنهكًا إلى حدّ الانهيار، جسده ممدّد على الأرض، وعيناه ترفعان إليّ نظرةً باهتة، كشمعةٍ أوشكت على الانطفاء.
“زينوس، يكفي لليوم… استرح.”
“…نعم.”
تمتم بالكلمة بصوتٍ متهدّج، قبل أن تغلبه الظلمة ويغرق في غيبوبةٍ عميقة.
“ألفريد، احمله إلى غرفته.”
“كما تأمرين، آنستي.”
رحل فريد وهو يحمل جسده المُثخن بالإعياء. وبقيتُ واقفةً في صمت، أستجمع أنفاسي، ثم تقدّمت بخطى ثابتة نحو إيكليبس.
“هيا بنا يا إيكليبس.”
فجاء صوته العميق، كهديرٍ يخرج من أعماق الأرض:
“إلى أين؟”
ابتسمتُ برفقٍ وأنا أجيبه:
“إلى الطعام… لا بدّ أنّك جائع.”
ظلّ يرمقني بعينيه الداكنتين، صامتًا، كأنّه يختبر سريرتي، ثم تقدّم ببطء، خطوةً تلو الأخرى، حتى صار قريبًا. وفجأة طرح سؤالًا مباغتًا:
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 33"