لقد انسابت الأعوام كما تنساب خيوط الضوء في الفجر البعيد، ومضت أربع سنوات كاملة منذ آخر لقاء جمعني بوجوهٍ أحببتها، أربع سنوات حملت في جوفها ثِقَل الحياة وأحلامًا لم تكتمل بعد.
كنت أجلس، كعادتي، في ذلك البيت الزجاجي الدافئ الموشّى بعبير الزهور، أنتظر عودة كاليجو كمن ينتظر قلبه أن يخفق من جديد. كان يغيب طويلًا، يزداد انشغاله عامًا بعد عام مع تفاقم خطر الوحوش التي تضاعفت أعدادها بصورة تكاد تعجز العقول عن إدراكها، حتى صار لقاؤه بي حدثًا نادرًا، ووجهه المرهق أغلى من كنوز الدنيا بأسرها.
ورغم ذلك، كان ينتزع من الزمن لحظات قليلة يجلس فيها بجانبي، يراقبني وأنا ألتهم الحلوى بمرح طفولي، مكتفيًا بأن يبتسم في صمته الصارم، كأنما شبعه الحقيقي هو في رؤيتي سعيدة.
أما إخوتي ورفاق قلبي، زينوس وديون وآديل، فقد افترقت طرقنا منذ أربعة أعوام طويلة. آديل، أختي التي تكبرني حنانًا ورقّة، غادرت الأكاديمية قبل أوانها، وانضمّت مباشرةً إلى فرسان الإمبراطورية، لتصير في غضون عام واحد فقط فارسة رسمية. غير أنّها لم تعد إلى قصرنا قط، وكأن الأقدار قد نسجت لها دربًا بعيدًا لا عودة فيه. ومع ذلك، لم تقطع خيط المودّة تمامًا، بل كانت تجيب على رسائلي دائمًا، لكن بكلماتٍ مقتضبة كأنها قطرات ندى على صحراء عطشى، جمل قصيرة تؤلم بقدر ما تُبهج. كانت تكتب مثلًا:
[أنا بخير.]
كلمتان لا أكثر. وبرغم معرفتي بأنها آديل، أختي، كان قلبي يوجعني من قِصر حديثها، فأغرق في صمتٍ شاحب. غير أنها، بلمحة إحساسٍ أخوي عجيب، كانت تفاجئني أحيانًا بوردةٍ واحدة تطويها في ظرف الرسالة، دون شرح ولا تعليق. وكان يكفيني ذلك الإيماء الدافئ، كأن الزهرة نفسها تقول: “أنا إلى جوارك، وإن ابتعدت قدماي.”
أما ديون، فقد أنهى دروسه قبل عام، لكنه لم يتخرّج، بل فضّل أن ينتظر زينوس، ليُكمل معه الطريق كتوأم روحيه. وحتى في عطلته، امتنع عن لقائي وحده، خشية أن يحزن زينوس إن تركه خلفه. فكان يكتب لي رسائل يعتذر فيها بصدق، كلمات تنضح بالودّ، يشرح لي أن غيابه ليس إهمالًا، بل وفاءً لصديقه.
وزينوس، بطل حكايتنا ونور قلوبنا، صار في الحادية عشرة من عمره، يدرس اليوم في المرحلة الثانوية العليا. لا أنسى رسالته التي كتب فيها ذات يوم: “سأتخرّج قريبًا، فاصبري قليلًا.” كان ذلك بالأمس القريب، وها هو الآن على وشك أن يعانق التخرج فعلًا. شعرتُ بفخرٍ هائل، يموج داخلي مثل بحر عاصف، ومعه ظلّ خوفٌ مبهم يتسلل إلى قلبي؛ إلى أي مدى سيغدو قويًا؟ وأي مصير ينتظره؟
لكن الأخبار التي قرأتها في الصحف أعادتني من فخر الأخت إلى قلق الإنسان. سلسلة جرائم متفرّقة اجتاحت الإمبراطورية، والضحايا، رغم تباين أعمارهم ومنازلهم، اشتركوا جميعًا في ولادتهم في يناير. شعرت ببرودة تجري في دمي، حتى وأنا محاطة بالحماة. من ذا الذي يستهدف “أبناء يناير” وحدهم؟ هل هي نبوءة قديمة تحقّق نفسها؟ أم جماعة خفية تحلم بإسقاط العالم في الفناء؟ أم طائفة مظلمة تقدّس قوى الخراب؟ أيًّا كانت الحقيقة، تمنيت من أعماق روحي أن يُقبض على هذا الجاني سريعًا، قبل أن يبتلعنا الليل.
وفي لحظة شرود، رأيته… كاليجو، ذلك الرجل الذي صار عالمي بأسره. نهضتُ عن مقعدي كما ينهض العصفور لرؤية عشه، وانطلقت نحوه أركض، أصرخ بفرحٍ صافٍ:
“أبــي!”
فتحت ذراعي كطفلة لم تكبر قط، فالتقطني بذراعَيه القويتَين، يرفعني بمهارةٍ اكتسبها من الأيام، يضمّني في حضنٍ بدا لي أوسع من السماء. وجهه ظلّ جامدًا كما عهدته، لكن يده التي باتت تربّت على رأسي بلمسةٍ أكثر دفئًا كانت كافية لتعلّمني أن صلابته بدأت تتصدّع تحت مطر حناني المستمر.
ضحكتُ بعينين تتلألآن كنجمتين صغيرة:
“أتدري يا أبي ما هي الحلوى الأقرب إلى قلبي؟”
رفع حاجبيه متفكّرًا وقال بجدٍّ ظريف:
“كعكة الفراولة.”
هززتُ رأسي بخفة وضحكت: “خطأ.”
“إذن… الكاستيلا؟”
أشرتُ بيدي إشارة خطأ من جديد، ثم لم أتمالك نفسي من الضحك وهمستُ بسرّي الكبير:
“أبي… إن أحلى الحلوى عندي هو أبي نفسه!”
لكن كلماتي التي خرجت ببراءة طفلة ودفء قلب، مرّت عليه كنسمةٍ عصيّة على الفهم، فأجاب بجدٍّ معتاد:
“آه… إذن تقصدين الخبز المحشو بالكريم.”
شهقتُ ملهوفة، ملوّحة بيدي:
“لا! لا! أعنيك أنت يا أبي… أنت وحدك!”
توقّف عن الحركة، وحدّق بي طويلًا بعينين ساكنتين كالبحر في ليله. ثم قال أخيرًا، بصوتٍ عميقٍ هادئٍ كالوعد: “أعرف.”
كلمة واحدة… لكنها أضاءت عالمي كله، كما لو أن الشمس أشرقت في داخلي فجأة.
─── ⋆⋅✦⋅⋆ ───
وفي مساء آخر، جلستُ على الأريكة، أحتضن رسالة جديدة من زينوس. كان يصف فيها كيف يرفع بصره إلى نجوم السماء كلما هاجه الشوق، وكيف يودّ لو يلقاني قبل انتهاء العطلة. قرأت رسالته بدموع فرحٍ مكبوتة، كأمٍّ تقرأ رسالة ابنها الغائب. رفعت عيني نحو نافذة الشرفة، فإذا بالسماء الملبدة تنقشع رويدًا، وتشرق شمس صافية على قمم الجبال البيضاء. ومن بين ذلك البياض البارد، حدثت المعجزة: شجرة الكرز التي غرسها كاليغو يومًا من أجل امرأةٍ راحلة، أزهرت فجأة دون سحرٍ أو تدخّل، وتفتحت أزهارها حتى غمرت السماء بموجات وردية متلألئة. كان مشهدًا يأسر الروح، يُعلّمني أن الدفء، مهما غاب، سيعود دومًا من حيث لا نتوقع.
وما هي إلا لحظات، حتى طرق الخادم باب القصر قائلًا بخشوع:
“يا آنستي… لقد جاءكِ ضيف.”
ببطءٍ كأنّ الزمن نفسه انشقَّ عن صدره، انفرج الباب، وطلَّ وجه ألفريد أوّلًا، ممهِّدًا الطريق لما سيأتي بعده من دهشةٍ كبرى.
وما إن تنحّى جانبًا بخطوةٍ هادئة، حتى انكشفت من خلفه هيئةُ فتى طويل القامة، شامخٍ كأنّ الريحَ تعلّمت الانحناء له.
هناك، في اللحظة التي التقت فيها عيناي بعينيه، أدركتُ على نحوٍ يقينيّ كيف يُمكن للزهر أن يتفتّح في غير أوانه، وكيف تشتعل أشجار الكرز بورودٍ لا تُفسَّر.
“مرحبًا… يا سيرينيتيا.”
لم يكن في هذا العالم مَن يملك القدرة على صناعة معجزة كهذه سوى شخصٍ واحد.
“…زينوس؟”
“أجل.”
فتحتُ فمي بدهشةٍ عارمة، حتى خِلتُ أن الكلمات سقطت جميعها في هوّةٍ بلا قرار.
“ما الذي تناولتَه حتى نمتَ بهذا الشكل المذهل؟”
ابتسم ببساطةٍ تنقشع معها الغيوم:
“كما قلتِ لي، لم أُهمل طعامي قط.”
مستحيل…! لقد كنتُ أنا مَن يلتهم الطعام أكثر منه مرارًا، ومع ذلك ظللتُ قاصرةَ القامة، بينما هو حلّق عاليًا كالنسغ الذي يلامس الشمس. أهي الوراثة إذن؟ تِلك اللعنة الخفيّة التي لا يغلبها جهد؟ تِفف…
وبينما كنتُ أُعاتب نفسي سرًّا وأتأمل قَدَري، انحنى “زينوس” فجأة، جاثيًا على ركبةٍ واحدة أمامي، رافعًا رأسه كجروٍ صغير يرجو المديح، وعيناه تلمعان بنورٍ عذب:
“هكذا… صار النظر إليّ أسهل، أليس كذلك؟”
ضحكتُ بخفوتٍ، إذ بدا لي أنّ الحنين نفسه غمرني في تلك اللحظة، ممتنّةً أن أراه يبتسم بهذا الصفاء. لقد شغلتني المخاوف طويلًا عليه، وها هو الآن، بين يديّ، رجلٌ صغير نما وحده، ومع ذلك ظلّ يحتفظ بطفولته في عينيه.
مددتُ يدي وربّتُّ على رأسه، ناثرةً بين خصلاته دثارًا من الحنان:
“لقد تعبتَ كثيرًا في هذه الأعوام يا زينوس، أحسنتَ… أحسنتَ حقًّا.”
تلوّن وجهه بالحمرة، وخفض بصره حياءً، كأنّ لمسة اليد عليه كانت أشبه بريحٍ مقدّسة لم يعتد دفأها بعد. آه، ما زال رغم قامته المديدة ذاك الصغير الذي أُحبّ.
قلتُ مبتسمة:
“هيا، لا ينبغي أن نقف هكذا. تعالَ نجلس على الأريكة.”
“أجل.”
جلستُ معه على الأريكة، وقد بدا الحاضر أثقلَ بأسرارٍ لم تُقال. ثمّ التفتُّ إليه أسأله:
“ولكن… لماذا جئتَ وحدك؟ أين “ديون”؟”
أجاب بهدوء:
“قال إنّ له وجهةً أخرى يقصدها.”
“حسناً… وماذا عن ذاك الأمر الذي قلتَ إنك تُريد استشارتي فيه؟”
“بشأن مهرجان “إيوس”.”
“آه… صدقت. أوَليس موعده قد اقترب؟”
مهرجان “إيوس”… ذاك العرس السنويّ المهيب الذي تُقيمه الإمبراطورية لتقديم القرابين والرياضات في حضرة الإله الأعلى “كايلوس”، حيث تتجمّع الجماهير كلّها كما لو اجتمع الكونُ بأسره حول مركزٍ واحد.
هو ليس مجرّد مسابقةٍ رياضية، بل امتحان سماويّ، إذ قيل: “لا يفوز فيه إلا من أذِن له الربّ بالنصر.”
وما أعظمَ ما يجلبه الفوز: مجدٌ شخصيّ يتجاوز الفرد ليخلّد اسم عائلته في مدوّنة الشرف، وامتيازات تُفتح بها أبوابٌ لا تُفتح لغيرهم، وأوّلها الحقّ في خوض امتحان التخرّج بلا قيدٍ ولا شرط.
لقد فازت “أديل” قبل عامين، وتلاها “ديون” في العام الفائت. وهكذا، وُضِعت قاعدةٌ غير مكتوبة: لا مشاركة للفائز في الدورة التالية، فالسماء لا تكرّر معجزتها مرّتين للشخص ذاته.
لكنّ “ديون” حين فاز، أخّر تخرّجه بإرادته، فأُعيد إحياء القانون المنسيّ بعد سبات طويل.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 31"