همست سيرينيتيا بانبهارٍ خافت، وقد توقفت في مكانها تُحدّق في المشهد الساحر الممتد أمام عينيها.
مكانٌ تنبع منه الألفة والعذوبة، كما لو أن إحدى الجنيات قد نسجته بخيوط الحلم. وسط تلك اللوحة الربيعية الباهرة، انتصبَت شجرة كرز عتيقة شامخة كأنها تروي حكايات قرون مضت، تحيط بها أرض خضراء مترامية تتماوج تحت ضوء الشمس كأنها بساط فردوسيّ.
لشدة جمال المكان، كادت تنسى أنها لا تزال في الشمال الجليدي.
وفي قلب هذه اللوحة النابضة بالسكينة، كان كاليجو… مستلقيًا في نوم عميق، كأميرٍ نائم في سباته الأبدي.
‘حقًا، إنه أمير الشمال النائم بلا منازع.’
لم تستطع إلا أن تُعجب بوسامته مجددًا. ثم بخطوات خفيفة، أخذت تقترب منه.
لكن… بدا أن نومه أعمق من المعتاد. حتى عندما وقفت على بُعد أنفاسٍ منه، لم يتحرّك ساكنًا.
وأثناء حيرتها بين أن توقظه أم لا، تسللت أشعة الشمس عبر أوراق الكرز، تلامس عينيه كأنها تلاعبه برقة.
راقبت سيرينيتيا ذلك المشهد، وفجأة… اجتاحها شعورٌ غريب يشبه الحنين، كأنها رأت هذا من قبل.
“كاليجو.”
صوتٌ ناعمٌ عذب، شقّ طريقه إلى أعمق أعماق اللاوعي.
تحت وطأة ضوء الشمس الذي يلحّ عليه أن يستيقظ، حرّك جفنيه ببطء، وفتح عينيه كمن يُبعث من سباتٍ طويل.
وفي الضباب الخفيف لنظره، تشكّلت تدريجيًا صورة عالمه الجميل…
كانت سيرينا، تبتسم له كما اعتاد أن يراها دومًا.
حتى ووجهها مغطّى بظلّ الضوء المنبعث من خلفها، فإن إشراقتها أبهرت قلبه من جديد.
وبينما هو يحدّق فيها بصمتٍ مندهش، مرّت نسمة ربيعية خفيفة، فتراقصت خصلات شعرها الورديّ، لتداعب وجهه الذي استند إلى ركبتيها.
“آن لك أن تستيقظ الآن.”
قالتها برقة، وهي تبتسم كمن يلاطف عاشقًا مدللًا.
ثم امتدّت يدها، كلمسة نسيم، تمسح وجنته بحنوٍ لا يوصف.
“هناك طفلتنا الجميلة… بانتظارك.”
نظر إليها، وهو يعلم… يعلم تمامًا أن هذا كله ليس سوى حلم.
فحتى وإن كان يرتمي في حضنها، حتى وإن لمست وجهه بيديها… لم يكن هناك دفء.
الحلم حيٌّ أكثر من اللازم، نابضٌ أكثر من الواقع، لكنه بلا حرارة.
ورغم إدراكه لتلك الحقيقة… لم يشأ أن ينهض.
لماذا لا أستطيع؟
“لا بأس، كاليجو.”
همست سيرينا، كأنها استشعرت صراعه الداخلي، محاولة تهدئته بابتسامتها.
ثم انحنت ببطء، وطَبَعت على جبينه قبلة حانية… قبلة ملأى بالشوق.
“سأعود لألقاك مجددًا.”
عندما فتح عينيه، كان أول ما رأى… يدًا صغيرة كأوراق القيقب، ترفرف أمام وجهه.
كانت يدا سيرينيتيا، الطفلة الصغيرة، تحجب أشعة الشمس عنه بحذر، وكأنها تخشى أن تؤذيه.
ثم أطلّ وجهها من خلف يدها… وجهٌ يزهر كزهرة كرز نبتت في عزّ الشتاء.
وفي عينيه المتجمدتين، سطعت ابتسامتها كنور الربيع.
“أبي… هل حلمت حلمًا جميلًا؟”
قالتها بعفوية، فأحدثت تلك الكلمات الصغيرة تموّجًا في بحر روحه.
كأنها أطلقت في داخله نداءً ما… فلم تستطع مشاعره الساكنة إلا أن تتحرّك، وتنهار.
نظر إليها، مأخوذًا، وكأنها طيف نور. مدّ يده دون وعي، واحتضنها بشوق.
“…أبي؟”
سألته، وقد تفاجأت.
لكنه بقي صامتًا، يشدّها إليه، يشعر بذلك الدفء الصغير الذي يملأ ذراعيه.
ولأنها شعرت بأنه قد رأى كابوسًا، ابتسمت بخفوتٍ، وردّت له العناق بحنو.
* * *
في تلك الأثناء، كان الفتى قد استعاد وعيه.
الحمّى التي أنهكت جسده، والألم الذي كان يمزّقه… كلها زالت.
جلس ببطء، وأزال المنشفة الرطبة الموضوعة على جبهته.
رائحة سيرينيتيا ما زالت عالقة بها.
تأمل المنشفة برهةً بصمت، وصورتها وهي تعتني به بدأت تتشكل في خياله.
‘إنسانة… غريبة الأطوار.’
البشر… ضعفاء وأنانيون.
يأخذون ما يشاؤون، يدّمرون بلا سبب، يبتسمون زيفًا ويُظهرون أنيابهم في الخفاء.
وتفوح منهم رائحة الخداع.
لكنها لم تكن مثلهم.
كانت رائحتها… لطيفة، دافئة.
‘لكنها… ستتغير يومًا ما مثلهم.’
البشر لا يمنحون اللطف مجانًا.
ما إن يشعروا بأن لا فائدة من عطائك، أو يفقدوا اهتمامهم… حتى يتحولوا إلى شياطين.
‘يجب أن أرحل قبل أن تعود.’
وضع المنشفة إلى جوار الوسادة، ونهض مغادرًا.
“هيه.”
ناداه صوتٌ غريب، فأوقفه.
استدار ليرى رجلًا ذا شعرٍ أحمر يحدّق فيه بنظرة غير ودودة.
“أنت… ترى وجودي، أليس كذلك؟”
بلمح البصر، أدرك الفتى أنه ليس بشريًا.
بل كائن روحي.
الحيوانات تمتلك حواسًا حادة، تستطيع رؤية الكائنات غير المرئية كهذا.
“لن أكرر كلامي… ارجع إلى السرير.”
“لا تأمرني.”
قالها الفتى بجفاف، واتجه نحو الباب.
لكن فجأة، اختفى كل ما بجسده من قوة. وسقط أرضًا عاجزًا.
حاول أن ينهض، لكن جسده لم يستجب.
“ماذا فعلت بي؟!”
صاح غاضبًا، تقطّبت ملامحه.
اقترب منه الكائن الروحي، وبدا على وجهه ابتسامةٌ خبيثة.
“لقد رسمت حاجزًا روحيًا حول هذه الغرفة.”
“ما إن أراك كتهديد… حتى تختفي من هذا العالم دون أثر.”
“كنت فقط… سأغادر هذا المكان!”
“يعني…”
“……؟”
قال ليفاتين وهو يجلس القرفصاء بوضعية متراخية، ونظرة لا مبالية تعلو وجهه:
“لا تذهب إلى أي مكان، وابقَ مستلقيًا بهدوء… إن اختفيت، ستبدو صغيرتنا شاحبة الوجه وحزينة.”
وبعد ساعةٍ من ذلك الجدال القصير…
“آه، لقد كان العشاء لذيذًا جدًا، أليس كذلك؟”
“كوي!”
“عوو!”
عادت سيرينيتيا إلى الغرفة مع أصدقائها الصغار بعد تناولهم وجبة العشاء، وهي تربت على بطنها المنتفخ برضاٍ ومرح. وما إن فتحت باب الغرفة حتى التقت عيناها بعيني الفتى الجالس على السرير دون حراك.
“أوه؟ لقد استيقظت!”
أسرعت نحوه، ومدّت يدها تتحسس جبينه لتطمئن على حرارته.
“لحسن الحظ، لم تعد حرارتك مرتفعة.”
كانت تتوقع أنه سيفرّ بمجرد أن يستعيد عافيته، لكنّ هدوءه دلّ على أن ليفاتين قد قام بمهمته في المراقبة على أكمل وجه.
“ليتي!”
“ماذا؟”
ردّ عليها ليفاتين بلهجةٍ خشنة، حين نادته سيرينيشيا بابتسامة متألقة.
“شكرًا لك، لأنك نفذت ما طلبته منك.”
وعندما نظر في عينيها، رأى ملامح امرأتين عزيزتين خسرهما يومًا ما، ترتسمان خافتتين على وجهها البريء.
خشي أن يغوص في تلك الذكرى المؤلمة، فالتفت بحدة وقال:
“ما هذا الكلام، أيتها السخيفة؟ لم أفعل شيئًا أصلًا.”
“…أجل، لقد أصبحت أتساهل معك كثيرًا مؤخرًا.”
قالت ذلك وهي تلتقط الغمد الذي بجانبها بخفة.
“لا، لا، تيـا… أميرتي… ملاكنا الصغير، أرجوكِ لا تفعلي!”
توسّل ليفاتين بصوتٍ مرتعش ووجه شاحب، وقد أدرك أنها على وشك معاقبته.
“لتكن هذه عبرةً لك!”
“أرجوكِ لااااا!!”
لكن للأسف… لم يكن للرحمة مكان هذه المرة.
وبعد أن نالت سيرينيتيا من ليفاتين عقوبته عبر دغدغة لا ترحم، قالت بحماسة:
“والآن، حان الوقت لأمنحكم أسماء!”
لم تكن تظن أن الحصول على إذن بتسمية ثلاثة مخلوقات دفعةً واحدة سيكون أمرًا سهلًا، لكنها فوجئت بجواب غير متوقع:
“افعلي ما شئتِ.”
كان كاليجو قد استُيقظ لتوّه من نومه، وفي حالةٍ من الغفلة، فأجاب بهدوء دون اعتراض.
“هيه، مهلاً… سيرينيتيا.”
ناداها الفتى فجأة، بنبرة قلقة وهو يرمق ليفاتين بنظرة جانبية.
“نعم؟ ماذا هناك؟”
“هل تعلمين ما معنى أن تمنحي أحدًا اسمًا؟”
“طبعًا أعلم! هذا يعني أنني أتحمّل مسؤولية هذا الكائن.”
منح اسم لكائن حي ليس بالأمر الهيّن.
فبمجرد أن يُنادى به، يصبح مرتبطًا بذلك الاسم إلى الأبد.
هي تمنحه اسمه، وهو يمنحها معنى وجوده… ويصيران لبعضهما كيانًا لا ثاني له في هذا العالم.
“ليس ذلك فحسب.”
“ماذا أيضًا؟”
“نحن نتقاسم القوة والزمان.”
“…هاه؟”
“إن متِّ، نموت نحن أيضًا.”
“مـ… ماذا؟!”
هل كانت هذه وصيّة مقدسة بعدم تربية الحيوانات؟!
فجأة، لم تعد مسألة التسمية بهذه البساطة. إنهم يرتبطون بروحها بهذا الشكل العميق؟!
رغم أن عمر الإنسان أطول غالبًا من أعمار الحيوانات، إلا أن المستقبل مجهول.
قد تُبتلى بمرض عضال، أو تقع ضحية حادث مفاجئ…
أن يموت أحد بسببها؟ لا… لا يمكنها تحمّل ذلك مجددًا.
“أنا لا أمانع.”
قال النسر الأسود بصوتٍ هادئ وهو يلاحظ اضطرابها ورأسها المنكّس.
“أن أُغمض عينيّ مع من أحب… خير من أن أموت وحيدًا في العتمة.”
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 29"