ومنذ أن أبصر النور، غُمرَ الشبلُ الصغيرُ بحنان والدته الغامر.
وكذلك كان حال الفهد الصغير.
إلى أن استيقظ السحر الكامن فيه.
ففي صباحٍ بدا كأي صباحٍ آخر، حينما دغدغت خيوط الشمس جفنيه برقة، فتح عينيه ليقابل نظراتٍ لم يألفها من قبل.
نظرات أمه لم تعد كما كانت.
سألها بخوف: (ما بكِ؟ لماذا تنظرين إليّ هكذا؟) لكن الجواب لم يأتِ إلا على هيئة نظرة حادة، تشبه نظرة مفترس يحدق بفريسته.
ثم، كما لو لتؤكد أسوأ مخاوفه، فتحت الأم فكّيها على وسعهما.
عقله رفض التصديق، لكن جسده تحرك غريزيًا.
وبأعجوبة، أفلت من أنيابها في اللحظة الأخيرة.
إلا أن الأم لم تتوقف.
ركض، وركض، يصرخ بين أنفاسه المتقطعة: (أمي… لا تفعلي… أرجوكِ… أنا خائف…)
لكنه لم يلقَ إجابة، لا سوى الصمت والصيد المستمر.
وما زاد الأمر سوءًا، أنّ الدموع تغشّت بصره، فتعثّرت قدماه وتدحرج على منحدرٍ حاد.
الحجارة التي نبتت من الأرض كالأشواك، مزّقت وجهه، وشقّت جانبه، وشظّت ظهره.
وحين توقف جسده أخيرًا عن الدوران، سقط على الأرض الجرداء، يصرخ بألمٍ يكاد يشعل أوصاله.
لكن حتى في ذلك العذاب، رفع رأسه وهو يلهث، باحثًا عن أمه.
رآها تقف عند حافة التل، تتطلع إليه لوهلة، ثم تستدير دون تردد، تاركة إياه وحيدًا.
نادى: “أمي!”
لكن لا أحد أجابه.
كان يعلم أنه سيُفطم عنها يومًا ما… لكنه لم يظن أنه سيكون بهذه القسوة، وبهذه السرعة.
هل أخطأ في شيء؟ هل كان السبب في تغيرها؟
نزف قلبه مع كل دمعة سالت، وهو يجرّ خطاه إلى الجدول القريب ليرتوي.
لكن الماء الذي انحنى إليه لم يعكس وجه فهد… بل وجه أرنب أسود.
تجمد في مكانه.
ثم، مدّ مخلبه ليصطاد الأرنب… لكن الأرنب في الماء قلد حركته بالضبط.
جرب أن يتحرك يسارًا… الأرنب كذلك.
تجمد قلبه.
وفهم.
لقد تغيّر شكله… تحوّل إلى أرنب.
عندها فقط استوعب سبب مطاردة أمه له.
بذل جهدًا مضنيًا ليستعيد هيئته الأصلية، لكن دون جدوى. لم يكن أحد قد علمه كيف يتحكم بسحره.
ولأنه لم يعد قادرًا على الصيد، قضى أيامه يتغذى على الحشرات.
ومع مرور الوقت، استطاع أخيرًا التحكم بسحره، واستعاد شكله كفهد.
أول ما فعله كان العودة إلى أمه… لكنه لم يجدها.
لم تكن هناك سوى جثتها، باردة، هامدة.
كان يعلم أن الفهود تعيش منفردة بعد البلوغ، لكنّه لم يتوقّع أن يُنتزع من حضنها قبل أوانه، وبهذه الوحشية.
في قلبه، بقيت الحاجة إلى دفء العائلة.
فبدأ رحلته في البحث عن أسرة جديدة.
سعى أولًا إلى الحيوانات الصغيرة… لكن رغم تغييره لهيئته، لم يستطع إخفاء رائحة المفترس التي يحملها.
هربوا جميعًا.
ثم اقترب من المفترسين الآخرين… لكنهم لم يعاملوه كرفيق، بل كفريسة.
وأخيرًا، انحدر إلى قرية البشر.
لكنّهم كانوا أسوأ.
رموه بالحجارة لمجرد أنه سرق رغيفًا يسد به جوعه.
فرّ، وتعهّد ألا يعود إلى أرض البشر مجددًا.
عندها، فقط، تقبّل الحقيقة.
أنه لا ينتمي إلى أي مكان.
فصار يعيش كما يشاء: تارة كريح، وتارة كغيمة، وتارة كجدول ماء.
حتى جاء ذلك اليوم.
حين كان جاثمًا على غصن شجرة، بهيئة بومة، يرقب فريسته، لمح جروا أسود.
كان الجرو يركض، مطاردًا من قطيعٍ من الضباع.
لسببٍ ما، ربما لأن لونهما متشابه، أو لأنّ ذكريات مطاردته من قبل أمه لا تزال طازجة… رأى نفسه في عيني الجرو.
في البداية، أشاح بوجهه.
هذه هي شريعة الغاب. الضعيف يُؤكل.
هو نفسه لم يساعده أحد.
لكن…
حين عاد إلى وعيه، وجد نفسه يطير في السماء، والجرو في قبضته.
أوصله إلى قمة تل لا تطاله الضباع.
ثم تحوّل إلى هيئته الأصلية.
ارتعد الجرو من الرعب، فهد أمامه!
كم كان ضعيفًا، بائسًا… وكأنه على وشك الموت رغم نجاته.
هزّ الفهد رأسه يائسًا، ثم أدبر.
لكن الجرو… تبعه.
كلما توقّف لينظر إليه، توقف الجرو أيضًا. وإن تابع السير، عاد الجرو للركض خلفه.
رغم أن الأمر كان مزعجًا قليلًا، إلا أن الفهد لم يكترث كثيرًا. فما حجم تلك الفتات الذي يركض خلفه؟ صغير بحجم حبة فاصوليا، لا ضير في تركه يتبعه… فأين عساه يصل؟
لكن الكلب الصغير، بخلاف مظهره الهزيل، تميز بعناد لا يُستهان به.
أما الفهد، فبينما يدّعي اللامبالاة، راح يتعمّد ترك فتات من طعامه خلفه… وكأنه، في قرارة نفسه، يعترف بذلك الرفيق الصغير.
وبمرور الأيام، امتدت تلك الرفقة الغريبة… وطالت أكثر مما كان يتوقع.
“أخي! أخي! انظر ما اصطدت!”
صاح الجرو بحماس وهو يركض نحوه، يقفز وقد أمسك بفأر صغير في فمه، في أولى نجاحاته في الصيد.
ويا للعجب… كيف وصلت الحال إلى أن يُنادى الفهد بـ”الأخ” من قبل جرو؟!
رغم ذلك، لم يستطع كتم ابتسامة غامضة، فذلك المخلوق الصغير الذي يهز ذيله أمامه كان… لطيفًا بشكلٍ مزعج.
“وهكذا، أصبح الفهد والكلب الصغير عائلة، وسار بهما القدر حتى وصلا إلى هنا.”
“هووف!”
هكذا أنهى النسر الأسود قصته بأناقة، ليردّ عليه بطل القصة نفسه، الجرو، وهو يهز ذيله برضًا وسعادة.
“آآه… لا أستطيع… هذه القصة… مؤثرة جدًا!”
قالت سيرينيتيا، وهي تجلس أمام النسر بعيون تفيض دموعًا وأنفًا يسيل تأثرًا، حتى كادت تتحوّل إلى نبع مشاعر لا يُغلق.
وحتى ميمي، الجالس بجوارها، تأثر كعادته، وعيناه غارقتان في الدموع مثل سيدته تمامًا.
“ما هذا… لو رآنا أحد لظن أن كارثة حلّت هنا.”
تمتم ليفاتين بضيق وهو يهز رأسه كمن فَقَد الأمل في هؤلاء العاطفيين.
“لقد عانيت كثيرًا يا صغيري، شكرًا لصمودك.”
قالت سيرينيتيا وهي تضم الجرو إلى صدرها وتربّت عليه بحنان.
“كيييينغ…”
أطلق الجرو أنّةً حزينة، بينما ترجمها النسر بنبرة هادئة:
“يقول إنه يريد البقاء هنا، مع أخيه.”
“طبعًا! فلتمكثا سويًا في منزلنا من الآن فصاعدًا!”
في تلك اللحظة، وقعت سيرينيتيا أسيرة لتلك القصة المؤثرة… قرارها قد حُسم دون رجعة.
لكن… ماذا عن كاليجو؟ هل سيقبل بسهولة؟
‘من وجهة نظره، قد يشعر أن عدد الأفواه التي تطلب طعامًا قد تضاعف من واحد إلى ثلاثة…’
‘لكن انتظر، الفهد يصطاد! بل وأكثر من ذلك، يستطيع تغيير هيئته بسحره… بالتأكيد لديه مهارات كثيرة.’
‘لكن الجرو؟ ماذا سيكون مبرري له؟’
وبينما كانت تُرتب الخطط والمبررات في رأسها…
“…وأنا أيضًا.”
صوت خجول، هادئ… خرج من النسر.
“هاه؟”
“أريد أن أنضم إليكم… أيضًا.”
“…ماذاا؟!”
وهكذا… تشكّلت الفرقة.
سيرينيتيا، ومعها أصدقاؤها من الحيوانات، انطلقوا بحثًا عن كاليجو.
“أبييي!” — نادت في مكتبه، ولم تجده.
“أبـي؟” — نادت في ساحة التدريب، ولم يَظهر.
“أبـبـااا!” — حتى في الدفيئة، كان المكان خاليًا.
أين اختفى؟ ألم يقل إنه لن يخرج للصيد اليوم؟
السر ما لبث أن كُشف بفضل ألفريد.
“إن كنتِ تقصدين سيدي، فلن يعود قبل حلول المساء.”
“لماذا؟ إلى أين ذهب؟”
سألت سيرينيتيا وقد ارتسمت علامات الحيرة على وجهها.
ابتسم ألفريد ابتسامة دافئة، نظر إليها بعينين مفعمتين بالمحبة، ثم قال:
“ذهب لزيارة شخص عزيزٍ جدًا على قلبه.”
٢٤ من مايو.
هو اليوم الوحيد في السنة، الذي تأذن فيه الطبيعة القاسية في الشمال المتجمد أن تتهادى درجات الحرارة فوق الصفر، وكأنها لحظة رحمة نادرة تُمنح لهذا المكان المنعزل.
وكان هذا اليوم… عيد ميلاد سيرينا.
رغم أن جدول أعماله كان ممتلئًا حدّ الانفجار، إلا أن كاليجو أزاح العالم بأسره جانبًا، ليمنح هذا اليوم لقلبه وحده. قلبٌ لم يزل موصولًا بها… حتى بعد أن صارت في عداد الغائبين.
لطالما زار ضريحها كلما أُتيحت له الفرصة، لكن لم يحدث قط أن طال مكوثه هناك كما في هذا اليوم. بدا وكأن الزمن نفسه قد توقّف ليمنحه لحظة عزاء لا تنتهي.
جلس تحت ظلال شجرة الكرز القديمة، بجانب الشاهدة البيضاء التي خُطّ عليها اسمها بأحرف نقية، وقد تداخلت أغصان الورود الزهرية والزرقاء حولها كأنها تعانقها في صمت.
أسند ظهره إلى الجذع العتيق، ورفع رأسه ببطء، ليستقبل مشهدًا سماويًا: زهور الكرز تتساقط حوله كأنها نجوم تهمس بذكريات خافتة… كأنها أحلام أبت أن تذبل.
كان المكان أشبه بعالمٍ خارج الزمان، منعزل عن ضجيج الأرض وصخب الحياة… ملاذٌ سري لا يعرفه أحد سواه، ولا يأوي إليه سواه.
ترك نفسه يغرق في هدوء تلك اللحظة، شيئًا فشيئًا، إلى أن أرخى أجفانه الثقيلة، مستسلمًا لهدوءٍ لا يُشبه أي هدوء.
…
في ذات الوقت، كانت سيرينيتيا تشق طريقها عبر السهول الثلجية اللامتناهية، تحيط بها رفقة صغيرة من الأرواح الدافئة.
كانت تتقدّمهم كزهرة في مواجهة العاصفة، تسبق ميمي والجرو الأسود والنسر الصامت، بينما كان فريد يرافقهم من الخلف، محافظًا على مسافة هادئة تُشبه صمته الدائم.
كانت هذه نزهتها الثانية، لكنها بدت وكأنها رحلة عمرٍ مصغّرة، تملأ وجهها بالدهشة والسرور، كما لو أن قلبها يكتشف الربيع للمرة الأولى.
ورغم أن هذا اليوم كان يُعدّ من أدفأ أيام السنة في الشمال، إلا أن البرودة لم تفقد عنادها. الشمال يظل شمالًا، لا يُفرّط في صقيعه بسهولة.
ارتدت كل ما تملكه من دفء: معطف سميك، شال ناعم يلتف حول عنقها، قفازات من وبر الأرنب، وحذاءً مبطنًا بالفرو. ومع ذلك، تسلّل النسيم البارد بخفة عبر الفجوات، وارتجف جسدها ارتجافًا رقيقًا كأن الشتاء يودّعها بهمسة.
ولحسن الحظ، لم تكن الوجهة بعيدة.
وما هي إلا خطوات معدودة، حتى عبرت المجموعة حدود الشتاء… ودخلوا أرضًا لم تكن من هذا العالم.
غابة صنوبر عالية، شامخة كأنها تلامس السماء، جذوعها تمتد إلى الأعلى مثل أعمدة معبدٍ قديم.
تبعوا ممرًا ضيقًا، متعرجًا كأسرارٍ نائمة، يشق قلب الغابة حتى أفضى بهم إلى عالمٍ آخر…
عالمٌ لم تكتبه الفصول، بل كتبته الأساطير.
هناك، توقّف الشتاء، وبدأ الربيع بالهمس.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 28"