“قلتَ إنك مَدينٌ بالفضل لسيرينا؟”
“نعم. لقد أنقذتني حين تُركت وحيدًا بعد ولادتي، بعد أن تخلّت عني أمي.”
“أوه… حقًا؟”
أن ألتقي بكائن نادر كهذا، لا يكتفي بامتلاك صلة بسيرينا فحسب، بل يتقن الكلام أيضًا…
لو كان الحظ يُباع في تذاكر، لاشتريت يانصيب هذا العالم حالًا!
آه، صحيح… النمر؟!
استدرتُ أخيرًا نحو السرير المجاور للنسر.
لكنه… كان خاليًا تمامًا.
جُلتُ بنظري بسرعة في أنحاء الغرفة، أحاول التقاط أثره، لكن النمر لم يكن في أي مكان.
“ما هذا؟! إلى أين اختفى؟!”
قفزتُ واقفة من سريري، وانطلقتُ راكضة إلى الردهة.
“هل رأيتِ النمر؟!”
سألتُ بإلحاح إحدى الخادمات اللواتي مررن من أمامي.
“عذرًا؟ لا… هل اختفى النمر؟”
“نعم، لقد اختفى تمامًا!”
“يا إلهي… كيف يختفي مخلوق بذلك الحجم فجأة؟!”
“بالضبط!!”
تركتُ الخادمات خلفي وبدأت أركض في أرجاء القصر كالعاصفة، أفتش عن النمر في كل زاوية وركن.
في هذا القصر النبيل، لا يُعيَّن سوى كهنة من الرتبة الدنيا.
مهما علا شأن العائلة النبيلة، فإن استقدام كاهن أعلى رتبة للإقامة الدائمة أمرٌ غير ممكن.
لسبب بسيط: كهنة الشفاء نادرون جدًا.
وبما أن النبلاء يملكون من المال ما يكفي لاستخدام بوابة الانتقال في أي وقت، فإنهم يستطيعون الذهاب إلى المعبد متى شاؤوا دون مشاكل.
لكن… المشكلة التي أود الحديث عنها الآن تتعلق بطاقة الكهنة الأدنى رتبة.
سحر الشفاء، بخلاف غيره من التعاويذ، يستهلك قدرًا هائلًا من الطاقة السحرية.
وفي العادة، طاقة الكاهن الأدنى لا تكفي إلا لعلاج شخص واحد مصاب إصابة بالغة.
لكن هذه المرة، أُحضرت حالتان—نسر وجسد نمر، كل منهما يعاني من كسور في الأضلاع.
علاج الإثنين معًا علاجًا كاملًا كان مستحيلًا.
فتركزت الجهود على النسر، الذي كانت حالته أكثر خطورة، ولم يُعالَج النمر سوى جزئيًا.
‘لا بد أن الألم لا يزال يعصف بجسده… فإلى أين اختفى؟’
تخيلتُه في زاوية ما، يئن وحيدًا، فشعرت بوخزٍ حاد في صدري.
“آهكو!”
ما إن استدرت عند إحدى الزوايا حتى اصطدمت بشخص، فوقعتُ جالسة على مؤخرتي.
“آي آي… هاه؟ أنت!”
رفعتُ رأسي وأنا أفرك منطقة الألم، فظهر أمامي الصبي الذي أعرفه.
“لم تكن في غرفتك هذا الصباح أيضًا، إلى أين ذهبت؟”
“…مجرد نزهة.”
ضيّقتُ عينيّ أراقبه بشك.
ثم تذكّرت… اليوم، لم يكن هناك جثة حيوان على باب القصر.
“…”
مدّ إليّ يده لأساعد نفسي على النهوض.
“أوه، شكرًا!”
تمسّكت بيده، وقفتُ.
لكن ما إن اقتربتُ منه، حتى شممتُ رائحة دماء باهتة تعانق أنفي بخفة.
حدّقتُ فيه طويلًا… ولم أتمالك نفسي:
“أنت…”
“…؟”
“أنت هو النمر… أليس كذلك؟”
سادت لحظة صمت بارد وثقيل كالجليد.
‘هل سيكشف أنني عرفت حقيقته، ثم ينقضّ عليّ ويغرس أنيابه؟!’
لو لمحتُ أقل إشارة على الخطر، سأضربه في نقطة ضعفه وأهرب!
لكن… كل تلك المخاوف تبدّدت أمام نظراته الهادئة التي لم تتغيّر.
ثم، نطق أخيرًا:
“صحيح.”
“آه، لقد أرعبتني! ظننتك ستتحوّل فجأة وتلتهمني!”
كان اعترافه المفاجئ كالصاعقة، جعلني أتجمّد للحظة.
لكن… انتظروا لحظة.
“أنت تتحدث… من غير احترام؟”
أعرف أنني أبدو مضحكة بجسدي ذي الخمس سنوات وأنا أقول هذا، لكن لا يمكن تجاهل طريقة حديثه المفاجئة!
“لا حاجة للرسمية بعد انكشاف هويتي.”
بصراحة، أنا أيضًا أرتاح في الحديث غير الرسمي…
لكن طريقته هذه تستفزّني.
اهدئي، لن تجني شيئًا من مشاجرة لن تنتصري فيها…
“حسنًا، تكلّم براحتك! الأصدقاء يتحدثون ببساطة، أليس كذلك؟”
“ومن قال إننا أصدقاء؟”
“واو… كلامك قاسٍ! أكلنا معًا، وتقاسمنا الحلوى، أليس هذا ما يفعله الأصدقاء؟ حسناً، من اليوم نحن أصدقاء!”
نظر إليّ شزرًا، ثم أطلق شخيرًا ساخرًا.
“إذا أردتِ أن تكوني صديقتي، فانتظري عشرين سنة على الأقل، أيتها الكتكوتة.”
“هاه؟! ما هذا الغرور؟ كم عمرك إذن؟!”
هذا الطفل يحاول دائمًا إظهار نفسه كعجوز حكيم!
“ثلاثة وعشرون.”
فُغرتُ فمي دهشة من جوابه.
عمر النمر عادة لا يتجاوز خمسة عشر عامًا…
فكيف يكون عمره ثلاثة وعشرين؟! هل بسبب امتلاكه سحرًا؟!
“كلما زادت طاقتك السحرية، طال عمرك. هل فهمتِ الآن؟”
“آها! فهمت! لا عجب إذن… لقد عشت طويلًا، ولهذا أنت تقرأ أفكاري قبل أن أتكلم. مدهش فعلًا.”
“بل أظن أن من يعبّر عما في نفسه بكل وقاحة على وجهه… هو الأدهى.”
كنت أظنه فتى خجولًا يقول فقط “نعم”، “لا”، و”لا بأس”…
لكنه تبين أنه مجرد قط متغطرس!
“على كل حال، عد إلى غرفتك لترتاح. الكاهن قال بوضوح إنك بحاجة إلى راحة تامة.”
“لا داعي، سأغادر اليوم.”
“ماذا؟ لم تنهِ العلاج بعد! إلى أين ستذهب؟!”
“أملك ما يكفي من القوة لأتحرك.”
“والجرو؟ ساقه لا تزال مصابة ولم يتلقَّ علاجًا كاملًا بعد. أخذه معك الآن خطرٌ كبير.”
“لن آخذه. سأتركه هنا.”
كلماته وقعت عليّ كصفعة مفاجئة.
“ما… ما الذي تقصده؟!”
“تمامًا ما قلت. أعلم أن طلبي وقح، لكن أرجوك… اعتني به بدلًا مني.”
“…أنت… هل تنوي التخلّي عنه؟”
“بقائي إلى جانبه خطر. هنا سيكون أكثر أمانًا.”
حينها، استدار الصبي وقد شعر بشيء خلفه.
نظرتُ أنا أيضًا، فوقع بصري على الجرو…
“كيوو… كيييينغ…”
أذناه تدلّتا للأسفل بحزن، وقد بدا أنه سمع كل شيء.
لكن الصبي لم ينبس ببنت شفة.
في عيني الجرو، بدأت الدموع تتجمع…
ثم سقطت أول قطرة.
“كييييينغ!”
أطلق نباحًا حزينًا وانطلق راكضًا بعيدًا.
“ألستَ ذاهبًا خلفه؟”
أجاب الصبي ببرود، وهو يحدّق في الفراغ:
“بل… لقد سارت الأمور كما ينبغي.”
صفعة.
لمّا نفد صبري، رفعتُ يدي وصفعتُ ظهر الفتى بكل ما أوتيت من غضب.
توسّعت عينا الصبي بدهشة وهو يلتفت إليّ، يتفحّص وجهي وكأنني خرجت من كتاب أساطير.
صرختُ فيه وأنا ألهث من الغيظ:
“ما يحتاجه ذلك الجرو ليس ملجأً دافئًا… بل أنت! شخصٌ يمكنه الوثوق به والاحتماء فيه! ألم تتجاوز الثالثة والعشرين بعد؟ كيف لا تفهم شيئًا بهذه البساطة؟!”
ظلّ يحدّق فيّ دون أن يطرف له جفن، ثم مالت شفتاه بابتسامة خفيفة:
“…كتكوتٌ صغير، لكنه يعرف كيف يتحدث.”
“إذًا، اركض وراءه حالًا!”
“أرغب في ذلك… لكن رأسي يدور…”
“هــه؟ مــااااذا؟! هــي!”
فوووف.
سقط الصبي أرضًا دفعة واحدة.
هل… هل أنا من قتلته؟!
عند مدخل القصر، عُثر على جثة غزال.
اتضح أن الفتى، بينما كنتُ نائمة، خرج ليصطاد وهو لا يزال يعاني من جراحه.
وما زاد الأمر سوءًا، أن الجرح في بطنه قد تمزّق أكثر خلال الصيد.
رغم أنني أكدت له أنني لا أريد شيئًا في المقابل، إلا أنه ظلّ يضع فرائسه عند الباب…
ربما كنوع من الامتنان لعلاج الجرو.
وبعد تلقيه إسعافًا أوليًا على يد الكاهن، نُقل الفتى إلى غرفتي.
غرفتي المزوّدة بكاميرا حية تُدعى ليتي، كانت مثالية لمراقبته.
أما الجرو الهارب، فكان جاثمًا في ركن الردهة، ينتحب وحده، فأخذته أيضًا إلى غرفتي.
والآن، بعد أن أجهده البكاء، نام ملتفًا حول ميـمي، كلٌ منهما يسند الآخر في غفوة هادئة.
وحتى لا يظل النسر وحيدًا، أحضرته هو الآخر إلى الغرفة.
وبذلك، تحوّلت غرفتي فجأة إلى مزرعة حيوانات بكل ما للكلمة من معنى.
حتى مارلين عندما رأتها فغرت فاها دهشة، فكيف سأشرح هذا لكاليجو إذا دخل؟!
بدأ العرق يتصبب من جبيني بينما أتخيل ما قد يحدث…
طقطقة الباب.
يا إلهي!
وكأن النمر يُذكر فيحضر…
فجأة، دخل كاليجو إلى الغرفة.
“أبـــــااااه!”
ركضت نحوه بسرعة غير معهودة، قبل أن ينطق بحرفٍ واحد.
تعلّقتُ بساقه والتصقت به كطفلة متدلّلة، رافعة رأسي إليه بابتسامة ملائكية:
“اشتقتُ إليك كثيرًا!”
“…”
“وأنت؟ هل اشتقتَ إليّ يا أبي؟”
نظر إليّ للحظة، ثم حملني إلى حضنه بحركة هادئة متمهّلة.
لكن نظراته سرعان ما تجاوزتني لتتفقد ما خلفي…
بعد أن تمعّن في كامل مشهد “حديقة الحيوانات” التي غزت غرفتي، عاد ببصره إليّ.
“هل كنتِ تفتقدين الأصدقاء؟”
“هيهي… الأصدقاء لا يُعدّون كثيرين! كلما كثروا، زاد المرح، أليس كذلك؟”
ضحكتُ بخفة، أرجو في قرارة نفسي أن يمرّ الأمر بسلام.
‘همم؟’
“أبـااه! وجهك…! هل أُصبت؟!”
لمحتُ جرحًا صغيرًا على وجنته اليمنى.
كيف يمكن لوجهٍ ثمين كهذا أن يُخدش؟!
من أي وحش خرج سالماً من بين أنيابه؟!
“أبي، هل أنت بخير؟ هل تودّ أن أضع لك بعض الدواء؟”
أطال النظر في وجهي، ثم حرّك شفتيه ببطء:
“…يكفي نفحة من الهواء.”
“هاه؟”
“مجرد نفخة هواء… تكفيني.”
هواء؟ أي هواء؟!
…آه، لا تقل إنك تقصد…
“هوووه، تريدني أن أنفخ على الجرح؟”
أومأ برأسه.
هل أصابه شيء في عقله؟!
ومع ذلك، لم أتمالك نفسي من الضحك، وأنا أضع يدي على وجهه، ثم بدأتُ أنفخ عليه بلطف:
“هوو~ هوووه~ هل هدأ الألم الآن؟”
“…نعم.”
آهٍ… يا لسخافتك المحببة.
* * *
“آنستي، أحضرتُ لكِ الحلوى.”
دخلت مارلين الغرفة بخفة، تحمل صينية تتوسطها فطيرة قرع شهيّة وكوبٌ يعبق منه الحليب الدافئ.
“يا إلهي…”
ابتسمت وهي تنظر إلى ما أمامها.
كانت سيرينيتيا مستندة إلى السرير، نائمة بهدوء تتنفس أنفاسًا رتيبة ملوّنة بألوان الطمأنينة.
خوفًا من أن تبرد وهي نائمة على الأرض، التفّ حولها كلٌّ من الجرو وميـمي والنسر، يحرسونها بنعاسٍ محب، وكأنهم حاشية أميرة في سبات.
كان مشهدًا يفيض بالرقة والجمال.
يبدو أن سيدتنا الصغيرة قد غلبها النعاس بينما كانت تغيّر منشفة الفتى المصاب.
أخذت مارلين المنشفة من يدها بحذر، بلّلتها من جديد، ثم عصرَتها، ووضعَتها بلطف على جبين الصبي.
ربما بفضل عنايتها الحانية، بدا وجهه أكثر صفاءً وهدوءًا من ذي قبل.
ثم جلست مارلين عند رؤوسهم جميعًا، صامتة، تنتظر بصبرٍ، علّ أحلامهم تكون أكثر دفئًا، وقلوبهم أكثر سكونًا.
التعليقات لهذا الفصل " 27"