كانت أشعة الشمس الذهبية تتسلل برفق عبر النوافذ العتيقة، تغمر غرفة العمل في القصر الإمبراطوري بهالة من الدفء والهدوء، بينما كانت عقارب الساعة تشير إلى ما بعد الظهيرة.
الهواء في الغرفة كان يحمل معه عبق الشاي الممزوج برائحة الخشب العريق، مما جعل الأجواء تفيض بالراحة والاسترخاء.
ابتسامة ناعمة ارتسمت على وجه الإمبراطور ريتشارد، الذي كان يتكئ على أريكة وثيرة، يرفع كوب الشاي إلى شفتيه ببطء، مستمتعًا بكل رشفة كأنها لحظة أبدية في هذا المكان المسحور.
“جلالتك، الدوق وينتربيل في انتظارك.”
“أدخله حالًا!”
رد ريتشارد بصوت مفعم بالحماس وكأنه ينتظر هذا اللقاء بشغف كبير. كانت عيناه تتلألآن بتوقعاته وكأن لحظة اللقاء هذه تضفي على قلبه دفئًا آخر غير دفء الشمس.
وفي لحظة، فتح الباب ببطء، وعبر من خلاله نسيم بارد منعش، تلاه دخول كاليجو، شامخًا كعادته، يعبر الغرفة بخطواته الهادئة والواثقة.
“أحيي شعلة الإمبراطورية الأبدية.”
قال كاليجو بصوت هادئ ولكنه ذو قوة غامضة، ينحني بخفة احترامًا. ولم يكن من ريتشارد إلا أن ابتسم، ابتسامة لم تكن أقل إشراقًا من ضوء الشمس المنسكب على الغرفة.
“كاليجو!”
نهض ريتشارد من مكانه بسرعة لم يستطع تمالك نفسه، وتقدم نحو صديقه الوحيد بحماس لاحتضانه. كاليجو الذي لم يكن معتادًا على زيارة أحد بنفسه، كان قد أتى اليوم دون دعوة، مما زاد من فرحة ريتشارد بشكل لا يوصف.
“الجو دافئ هنا.”
نطق كاليجو بنبرة باردة، كعادته. كانت كلماته كنسيم الجبل البارد الذي أطفأ بعضًا من حماسة ريتشارد المتوقدة. ومع ذلك، لم يكن ريتشارد من الأشخاص الذين ينزعجون بسهولة من مثل هذه التعليقات.
“هاها! أعذرني، يا صديقي، لقد كنت متحمسًا للغاية لرؤيتك بعد هذه الفترة!”
“لقد رأيتني منذ خمسة أيام فقط.”
“لكن ذلك لم يكن لقاءً خاصًا بيننا، أليس كذلك؟”
“لا أرى فرقًا.”
كانت المحادثة بينهما تبدو وكأنها حوار بين شمس مشرقة وقمر بارد، لكن هذا هو ما جعل علاقتهما فريدة في جمالها.
“لا أفهم الفرق.”
كان الأمر أشبه بصراع أبدي بين سيفٍ حاد ودرعٍ لا ينكسر.
“تفضل، لا تكن مترددًا، اجلس.”
قال ريتشارد بابتسامة عذبة وهو يشير لكاليجو بالجلوس. ورغم أن الأجواء كانت تبدو مقلوبة، حيث جلس الزائر أولًا قبل صاحب المكان، إلا أن هذا الموقف لم يكن غريبًا على علاقتهما الفريدة. لطالما كانت الأمور بينهما تسير هكذا، بنوع من العفوية والغرابة المحببة.
“إذن، ما الذي أتى بك هذه المرة؟ هل اشتقت إلي أخيرًا؟”
أطلق ريتشارد ضحكة صافية، ملأتها مودة دفينة، بينما كان يصب الشاي في كوب كاليجو. ظلت نظرات كاليجو الجليدية ثابتة، تتابع حركة يده بهدوء، حتى انتهى من صب الشاي ووضع الإبريق على الطاولة.
“إلى متى ستترك الأمير مهملًا؟”
تحولت نظرة كاليجو الصامتة إلى ريتشارد ببطء، ولكنها كانت تحمل في طياتها ثقل السؤال.
“… كنت أتساءل عن هذا الأمر أيضًا.”
ضحك ريتشارد مرة أخرى، لكن ضحكته هذه المرة كانت محملة بأكثر من مجرد سخرية عابرة. كان فيها شعور مختلط، يجمع بين التردد واليقين.
لكن سرعان ما بدأت تلك الابتسامة بالاختفاء شيئًا فشيئًا، كالشمس حين تُخفيها السحب الداكنة المتجمعة ببطء خلف النافذة.
“لماذا فجأة تهتم بذلك الطفل؟”
كلماته خرجت ثقيلة، وكأنها كانت تحمل سنوات من الأسئلة غير المجابة. ومع تلاشي ابتسامته، بدأت السماء خارج النافذة تتلبد بالغيوم، كأنها تستجيب لصراع داخلي لم يظهر للعيان بعد.
“إذا لم تكن تنوي الاعتناء به، فسأقوم أنا بذلك.”
قال كاليجو بنبرة باردة، لكن في داخلها كانت تحمل ثباتًا لا يتزعزع. ومع كلماته، بدأت حرارة الغرفة ترتفع بشكل غير طبيعي، وكأن شغف ريتشارد تحول إلى طاقة تحاصر المكان.
كان يمكن لأي شخص آخر أن يشعر بالضيق، وربما يفر هاربًا، ولكن كاليجو بقي ثابتًا كالصخر، لا يتأثر بحرارة أو برودة.
أخذ ريتشارد نفسًا عميقًا، وكسر الصمت بتنهد طويل. ومع هذا التنهد، بدأت السحب الداكنة خارج النافذة تتلاشى تدريجيًا، وكأن الأمور بدأت تعود إلى طبيعتها.
“هل هذا بسبب الآنسة سيرينيتيا؟”
سأل ريتشارد بهدوء، وعندما خفت حدة تعابيره، بدأت حرارة الغرفة تهدأ معه، وكأن كل شيء كان مرتبطًا به وبمشاعره.
“نعم.”
“كيف قابلته؟ إنه طفل لا يلفت الانتباه.”
تلك الكلمات لم تنل تأييد كاليجو. كان الأمير زينوس، على الرغم من براءته، يجلس دائمًا تحت شجرة الزان في الحديقة الخلفية، وكانت هيئته الهادئة تخطف الأنظار، من الصعب أن يتجاهله أحد. لم يكن زينوس خفيًا، بل كان ريتشارد هو من اختار تجاهله عمدًا.
ومع ذلك، لم يشعر كاليجو بالحاجة إلى تصحيح التصورات، فاختار الصمت.
“في الواقع، هناك سر لم أخبرك به بعد.”
أخذ ريتشارد نفسًا عميقًا، ثم تابع بصوت محمّل بالهموم.
“ذلك الطفل… ليس ابني.”
على الرغم من الصدمة التي يحملها هذا الاعتراف، لم تتبدل ملامح كاليجو. ظل صامتًا، كما لو كان يحاول استيعاب كل كلمة.
“إنه ابن الإمبراطورة الراحلة من علاقة غير شرعية.”
“ومن هو والده؟”
لم يمنح كاليجو ريتشارد فرصة للاستقرار العاطفي. كانت برودة كاليجو معروفة ومفهومة بأنها نتيجة لعنة قديمة، لكن ذلك لم يجعل الأمر أقل إحباطًا بالنسبة لريتشارد.
بعد كل هذه السنين، تعوّد ريتشارد على هذه البرودة.
“لو كنت أعلم من هو، لكان الطفل قد انتقل إليه بالفعل.”
رفع ريتشارد فنجان الشاي إلى شفتيه، ثم أضاف بأسى:
“وكنت سأذهب لرؤية ذلك الرجل المغرور بنفسي.”
“……”
“رغم أنني أردت التخلص من الطفل، إلا أنه يشبهها لدرجة مذهلة، لدرجة أنني لم أستطع.”
احتسى ريتشارد الشاي ببطء، بينما كانت ابتسامته تحمل طعماً من المرارة.
“لكن كما قلت، لا يمكنني أن أترك الطفل مهملًا إلى الأبد.”
“هل تسمح لي بأخذه إذن؟”
“لكن لدي شرط.”
وضع ريتشارد فنجانه على الطاولة، مبتسمًا بابتسامة غامضة.
“دعني ألتقي بالآنسة سيرينيتيا من حين لآخر.”
فجأة، اجتاحت الغرفة نسمات باردة، كما لو أن الهواء قد تحول إلى كتلة من البرودة المفاجئة.
“هل تظن أنني سأقوم بشيء غير عادي؟!”
سادت حالة من الصمت الثقيل، مما جعل ريتشارد ينفجر فجأة بصوت عالٍ.
ظل كاليجو ساكنًا، وعلامات وجهه تبقى غامضة كما هي، لكن ريتشارد كان يعرف كيف يقرأ مشاعر صديقه من خلال اهتزاز طاقته السحرية.
بمرور الوقت، امتلأ وجه ريتشارد بالحزن العميق.
“حقًا… أشعر بالحزن!”
أدار ريتشارد وجهه بغضب، موجهًا نظراته نحو كاليجو.
لم يكن كاليجو يفهم تمامًا سبب حزن ريتشارد، لكن كان يعلم بضرورة تقديم العزاء في مثل هذه اللحظات.
“لم أقل شيئًا.”
رغم ذلك، بدا أن كاليجو لم يجد الكلمات المناسبة، لأن تقديم التعازي والتعبير عن المشاعر كان أمرًا معقدًا حتى لأكثر الناس حساسية.
“كانت نظرتك تعبر عن كل شيء.”
“ملامحي لم تتغير.”
“على أي حال، اعتذر.”
“أنا آسف.”
عندما سمع ريتشارد الاعتذار، عادت الابتسامة إلى وجهه مجددًا.
“كما تعلم، منذ أن استيقظت، وأنا أعاني من صداع متكرر.”
“نعم.”
“حتى مع العلاج، لم يختفِ، ولا يعرف الكهنة سببًا له.”
“…”
“ولكن عندما احتضنت الآنسة سيرينيتيا، اختفى الألم فجأة.”
تذكر ريتشارد اللحظة السعيدة التي عاشها، وابتسم بابتسامة دافئة.
“لكن تلك الفتاة لا تمتلك أي قدرات سحرية.”
مرة أخرى، أظهرت كلمات كاليجو جليدًا يؤثر على أفكار ريتشارد، لكن ريتشارد ضحك كما لو كان يتوقع ذلك.
“سواء كان ذلك حقيقيًا أم لا، سأكتشف الأمر عندما ألتقي بها مرة أخرى.”
أنا الآن في حوض استحمام دافئ، تحت عناية الخادمات اللطيفات، أستمتع بمشهد الجبال الثلجية من النافذة الواسعة.
السعادة حقًا ليست بعيدة.
هذا هو المعنى الحقيقي للسعادة.
في الحقيقة، في البداية كان من المحرج للغاية أن أحتاج لمساعدة أثناء الاستحمام، لكن كما يقولون، الإنسان كائن يتأقلم.
عندما بلغت الثالثة من عمري، كنت قد تأقلمت تماماً، فلم يعد الأمر محرجاً بعد ذلك.
‘لحسن الحظ أنني التقيت بأشخاص جيدين.’
لو لم ألتقِ بأشخاص جيدين، لظللت حتى الآن غارقة في بحر من الحيرة والاضطراب، عاجزة عن التكيف مع هذا العالم الغريب. كاليجو وأديل، رغم لعنتهم التي تكبلهم وتعجزهم عن التعبير، ليسوا سيئين في أعماقهم. فلو كانوا كذلك حقًا، لما ضموني إليهم واهتموا بي منذ البداية.
‘حين أفكر في الأمر، أدرك أنني نادرًا ما أقابل سيل.’
كيف يمكن أن نكون عائلة نعيش معًا تحت سقف واحد، ومع ذلك نلتقي عددًا أقل من أصابع اليد الواحدة؟ رغم أن القصر مترامي الأطراف، فإن هذا ليس عذرًا كافيًا.
عبعد أن أنتهي من الاستحمام، سأذهب لرؤية سيل.’
أنا متأكدة أن سيل لا يكرهني، هو فقط لا يعرف كيف يبدأ بالتقرب مني. وبما أنني الأخت الكبرى، فمن واجبي أن أرشده، أن أكون الدليل الذي يساعده على فتح قلبه.
‘لكن… هل سأظل طوال حياتي عاجزة عن رؤية وجه سيل الحقيقي؟’
حتى في الصور، كان سيل يظهر مرتديًا عصابة العين، ولم يجد أي ساحر قوته تتجاوز قوة سحره.
‘أشعر أن هناك طريقة ما لكسر هذا الغموض.’
رغم أنني لا أملك ذكاءً خارقًا، إلا أنني أملك حسًا فطريًا للبحث عن حلول غير تقليدية.
جلست في حوض الاستحمام، أنظر إلى بتلات الورد الطافية على سطح الماء، وغرقت في تأملاتي. وبعد لحظات قليلة، رفعت يدي بتفاؤل.
‘وجدتها!’
لقد خطرت لي فكرة رائعة!
بعد أن أنهيت استحمامي، وشعرت بنعومة بشرتي وصفائها، شرعت في تحضير هدية لسيل. بمساعدة مارلين، لم يكن إعداد الهدية أمرًا معقدًا، رغم بعض الحرج الذي شعرت به.
حملت هديتي وذهبت مباشرة إلى غرفة سيل.
وعندما كنت على وشك أن أطرق الباب بقبضة يدي الصغيرة…
“ادخلي.”
بادر سيل بالكلام قبل أن أتمكن من الطرق. تجمدت في مكاني لحظة، متعجبة كيف عرف بوجودي قبل أن أطرق الباب؟ هل يمكنه أن يراني بالفعل؟
مذهل!
مدفوعة بالفضول، فتحت الباب ودخلت دون تردد، وسألت سيل بسؤال مفاجئ وغريب.
“أخي! هل يمكنك رؤية ما في بطني؟”
“لا، لا أستطيع رؤيته.”
شعرت بارتياح عظيم، فقد كان الخجل يكاد يقتلني.
“لماذا أتيتِ إلى غرفتي؟”
“آه، لدي شيء أريد أن أعطيك إياه!”
“ما هو؟”
ركضت نحو سيل الذي كان جالسًا على الكرسي، وقدمت له الكرة السحرية التي كنت أحملها.
“ها هي، إنها هدية!”
توقعت أن يسألني عن سبب إعطائه الهدية، لكنه بدلاً من ذلك، حاول تشغيل الكرة فورًا.
“لا، لا، انتظر لحظة!!!”
“ألم تعطيني إياها لأراها؟”
سألني سيل وهو يميل رأسه بحيرة.
“نعم، هذا صحيح…”
“إذاً لماذا تمنعينني من رؤيتها؟”
“لأن وجهي يظهر فيها، وهذا محرج لي…”
نعم، الهدية التي قدمتها كانت رسالة مصورة. لو طلبت من سيل أن يريني وجهه مباشرة، لرفض بالتأكيد. لذا، قررت أن أبدأ المبادرة وأفتح الباب أولاً.
“لذا، يمكنك مشاهدتها عندما أخرج.”
نظر سيل إلى الكرة السحرية بذهول، ثم نظر إلي ببطء.
“لماذا تعطيني هذا؟”
نعم، كنت أعلم أنه سيسأل في النهاية.
“لقد صورتها فقط لأريك وجهي!”
“لماذا تريدين أن تريني وجهكِ؟”
“لأننا عائلة، ومن المحزن ألا نتمكن من رؤية وجوه بعضنا.”
بالطبع، أنا لست عائلته الحقيقية، إنما فقط اسماً.
“لا أعرف ما هو الحزن.”
مهما كانت حياتنا منفصلة، إلا أن العائلة تظل عائلة. يبدو أن حتى نبرة كلامه تشبه تلك الصفة.
“حتى إن كنت لا تعرف، فقلبك يحزن.”
أشرت إلى صدره وأنا أتكلم.
نظره كان يتبع أصابعي قبل أن يرتفع ببطء نحوي.
“هل تشعرين بالحزن لأنكِ لا تستطيعين رؤية وجهي؟”
“نعم، بالطبع!”
شعرت ببعض الوخز في ضميري، لكن في الحقيقة، أنا أرغب فعلاً في رؤيته.
لم ينبس سيل ببنت شفة، ولا أعرف ما الذي كان يفكر فيه.
“حسنًا، سأذهب الآن!”
لم أستطع تحمل الصمت الذي يبدو أنه سيستمر إلى الأبد، لذا بادرت بالكلام.
اكتفى سيل بهز رأسه دون أن يقول شيئاً.
يبدو أننا قد تحدثنا لتونا بما يعادل محادثة سنة كاملة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
📢 المنتدى العام
عـام
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 21"