نظرتُ إلى عينيه البنفسجيتين الهادئتين فتملكني التوتر.
فتظاهرت بعدم الاكتراث وبادلته النظرات مع ابتسامةٍ خفيفة.
“وجدت نفسي هنا دون أن أشعر وأنا أمشي شاردة، ففكرت أنه ربما تكون هنا، كنت أحيانًا تأتي باكرًا لتستريح عندما تكون متعبًا.”
تأملني إيدن للحظة ثم ابتسم.
“لم أكن متعبًا اليوم. لو كنتِ أتيتِ إلى المكتب لوجدتني بسرعة، لقد أتيتِ بلا جدوى.”
“صحيح. كنت غارقةً في أفكار سخيفة.”
“ما نوع تلك الأفكار؟”
“مجرد…..كيف سأعيش من الآن فصاعدًا؟ شيءٌ من هذا القبيل؟”
أطلق إيدن ضحكةً صافية. و بدا لي حينها وكأنه إيدن القديم، فشعرت بشيء غريب في داخلي.
كأن كل ما حدث لم يكن سوى حلم.
لكنه قطع ضحكته فجأة وتكلم.
“ولمَ تفكرين في أمر كهذا؟”
“هم؟ لقد أصبحت راشدةً الآن، وحان الوقت. لا يمكنني البقاء هنا إلى الأبد.”
اقترب إيدن خطوةً بخطوة. فرفع يده حين صار أمامي تمامًا. و اقتربت يده مني تدريجيًا فارتبكت وانكمشت دون أن أشعر.
“إيرفين، ما بكِ؟ هل تظنين أنني سأؤذيكِ؟”
“لا، فقط تفاجأت لا أكثر. إن أزعجكَ ذلك فأنا آسفة.”
“لا، لم يزعجني. فقط تساءلت إن كنتُ مصدر تهديد لكِ.”
“هذا مستحيل.”
لكن رغم قولي ذلك، شعرت بجفاف في فمي وكأنني أقضم الرمل.
كان من المستحيل أن يكون كل هذا مجرد حلم. فكل خلية في جسدي، من رأسي حتى قدمي، كانت تتذكر.
وكانت تصرخ محذرة: عليكِ الحذر منه.
تظاهرت عمدًا بأنني لست على ما يرام، فوضعت يدي على جبهتي وتهالكت قليلًا.
“آسفة، إيدن. يجب أن أذهب وأرتاح الآن.”
“هل ساءت حالتكِ؟ هل أوصلكِ إلى غرفتكِ؟”
“لا داعي، الغرفة قريبة. لا بأس. ارتحِ أنت أيضًا جيدًا.”
لوّحت له بيدي مبتعدة، ثم غادرت المكان.
و شعرت بنظرته تلاحقني من خلفي بإلحاح، لكنني لم ألتفت ولو مرةً واحدة ومضيتُ في طريقي.
ما إن عدت إلى الغرفة حتى بدأت أبحث فورًا عن أداة التفعيل التي كنت قد خبأتها في الزاوية.
فاستلقيت على السرير وكأنني أبحث عن بعض الراحة النفسية، وبدأت أعبث بالأداة وأملؤها بالطاقة السحرية.
“ترى، هل كان من الصواب ترك الأداة السحرية هناك؟”
فهو، كما قال بنفسه، شخصٌ بالكاد يغادر مكتبه ويعيش فيه تقريبًا.
وبينما كنت أواصل ضخ الطاقة، اجتاحتني فجأة موجة غثيان قوية جعلتني أُصاب بالتقيوء الجاف.
ويبدو أن ذلك ما بدّد كل الأفكار المزعجة التي كانت تغزو رأسي.
“صحيح، لقد بذلت جهدًا كبيرًا لوضعها هناك، فلا بد أن أتأكد أولًا. بعدها يمكنني نقلها إلى المكتب.”
لا داعي للقلق الزائد. فما زال الوقت في صفي.
***
مرّت ثلاثة أيام منذ ذلك. وكان اليوم هو اليوم الذي قال فيه إيدن أنه سيتوجه إلى القصر الملكي منذ الصباح.
لذا قررت أن أذهب مجددًا إلى غرفة نومه. فلو صادفته فجأة كما في المرة الماضية، فلن يحتمل قلبي ذلك مرة أخرى.
تأكدت من خلو الممر من أي أحد، ثم تسللت سريعًا إلى الداخل.
‘علي أن أُسرع، لا أحد يعلم من قد يدخل فجأة.’
ركضت بسرعة إلى السرير ومددت يدي تحته. و بدأت أتحسس المكان الذي ثبتُّ فيه الأداة السحرية، لكنني لم أشعر بشيء على الإطلاق.
‘غريب، كان هذا هو المكان بالتأكيد.’
مددت ذراعي أعمق، لكن النتيجة كانت كما هي.
‘لا يمكن، إيدن قد لاحظها وأخذها..…؟’
وفي خضم القلق الذي بدأ يجتاحني، علِق شيءٌ ما بأطراف أصابعي.
انتزعته بحذر وتفقدته، فتبين أنها الأداة السحرية فعلًا.
“وجدتُها.”
قبضت عليها بإحكام وهممت بمغادرة الغرفة بسرعة. لكن صوت خطوات أحدهم تردد في الردهة.
‘تباً، من هذا؟ في أكثر لحظة حاسمة!’
وقفت بجانب الباب وحبست أنفاسي. و ركّزت كل انتباهي على الصوت القادم من الممر.
خطوة… خطوة…
كان الصوت منتظمًا ومتزنًا.
‘يبدو أنه شخصٌ واحد.’
ألصقت ظهري تمامًا بالباب وانتظرت حتى يبتعد الصوت. لكن الخطوات توقفت فجأة.
وتحديدًا أمام غرفة نوم إيدن.
‘ما هذا…..من يكون؟ هل عاد إيدن..…؟’
وضعت يدي على فمي لأكتم أنفاسي التي كادت تنفجر. و كان قلبي ينبض بعنف حتى شعرت أنه سيخرج من حنجرتي.
عادت الخطوات تُسمع مجددًا. لكنها لم تبتعد، بل بدأت تقترب أكثر فأكثر، فأغمضت عيني بقوة.
‘انتهى أمري.’
صوت صرير الباب—
فُتح باب المكتب، وانسدل ظلٌ أسود طويل داخل الغرفة مع ضوء الردهة.
‘أرجوكَ…..فقط مرّ من هنا، لا تدخل.’
لكن دعائي لم يُجدِ نفعًا، إذ خطا الشخص خطواتٍ أخرى إلى الداخل، وبدأ يصدر صوتًا يوحي بأنه يتلفت حوله.
ثم بدأ يقترب من جهتي.
“آنستي!”
انفتحت عيناي على اتساعهما عندما سمعت صوتًا حادًا رنانًا. وفي الضوء الساطع الذي دخل مع صاحب الصوت، رأيت من يقف أمامي—كانت ليج.
“ليج..…”
انهارت قواي تمامًا وسقطت على الأرض جالسة.
وضعت يدي على صدري ألتقط أنفاسي وأحاول تهدئة قلبي الذي كان يخفق بجنون من شدة الذعر. و حتى الدموع تجمعت في عيني دون أن أشعر.
“يا إلهي! آنسة إيرفين، ما الذي حصل؟!”
أسرعت ليج نحوي وانحنت لتلتقي بعيني، تتفقد حالتي بقلق.
نظرت إليها وعيناي ممتلئتان بالخوف ووجهي يعبّر عن التوتر، فانفجرت ببكاء مضطرب.
“لماذااا…..لماذا أنتِ من بين كل الناس مَن دخلت الآن..…!”
فأجابت ليج بدهشة وقد علا وجهها الحيرة.
“كنت هنا لأوصل شيئًا بدلاً عن خادمةٍ أخرى. لكن، هل أنتِ بخير؟ لستِ مريضةً أو شيء من هذا القبيل، أليس كذلك؟”
“لا…..لا بأس. فقط…..لقد خِفت بشدة، لا أكثر.”
“يا إلهي، ظننتكِ تعانين من دوار أو شيء خطير! ما الذي كنتِ تفعلينه هنا أصلاً؟!”
قالت ليج عبارتها الأخيرة بصوت خافت غاضب، وهي تهمس بعصبية. لكنها رغم ذلك مدت يدها بلطف تمسح بها آثار الدموع عن وجهي.
“فتاةٌ حساسة مثلكِ، تخاف من مثل هذه الأمور البسيطة…..فكيف بكِ تدخلين غرفة السيد بنفسكِ؟ ما الذي حصل؟”
“أوه…..فقط كنت أبحث عن شيء، لا أكثر..…”
“في غرفة السيد؟”
“نعم، هناك أمرٌ ما…..لكن يجب أن تظل زيارتي هنا سرًّا، اتفقنا؟ لا تخبري أي أحد، أبدًا.”
اهتزت عينا ليج بتردد، لكنها سرعان ما أومأت برأسها كمن اتخذ قرارًا حاسمًا.
“مفهوم. أنا دائمًا في صفكِ يا آنستي. على كل حال، الفرسان سيصلون قريبًا، عودي بسرعة إلى غرفتكِ.”
جذبتني ليج من ذراعي بلطف. و رغم أن الرهبة لا تزال تسيطر على جسدي، وتكاد ساقاي لا تحملاني، إلا أنني أجبرت نفسي على الوقوف.
“سأخرج أولًا لأتفقد الطريق. لا تخرجي إلا عندما تسمعين إشارتي. فهمتِ؟”
“شكرًا، ليج.”
“لا داعي للشكر. إن كنتُ نافعةً لكِ، فهذا يكفيني.”
فتحت ليج الباب بحذر وأخرجت رأسها بهدوء لتتفقد الوضع.
رغم أن تصرفها بدا عليه الريبة أكثر من الحذر، إلا أن الممر على ما يبدو كان خاليًا من الناس. فمدت يدها وأشارت لي بحماسٍ كي أخرج.
“آنسة! الآن هو الوقت المناسب! لا أحد هنا بعد، اخرجي بسرعة!”
أسرعت بالركض نحوها وحبست أنفاسي، متواريةً خلفها، وخرجنا سويًا من الغرفة.
ثم انحنت ليج مرة أخرى بطريقةٍ لافتة للنظر، وأخذت تتلفت يميناً ويساراً قبل أن تشير بوضوح نحو نهاية الممر.
“اذهبي من هناك. الفرسان يصعدون من الجهة المقابلة، لذا ذلك الاتجاه أكثر أمانًا لكِ.”
لم أكن أعلم ذلك من قبل. فشعرت بالامتنان العميق لأن الشخص الذي صادفته كان ليج.
ثم ربّتُ على كتفها بخفة.
“شكرًا، ليج. حقًّا، شكرًا لكِ من القلب.”
وبينما أكرر كلمات الامتنان، ابتسمت ليج ابتسامةً مشرقة، ثم وضعت إصبعها على شفتيها محدثةً صوت “ششّ”.
“شش!”
“شش.”
فقلدتها وهمست بالمثل، ثم أسرعت بخطاي الصامتة خارج الممر.
وبفضل ليج، عدت إلى غرفتي بسلام.
ثم قمت مباشرةً بنفخ الطاقة السحرية في الأداة السحرية التي تركها لي دانتي لاستدعاء الطائر.
‘قال دانتي أنه سيأتي بسرعة إن فعلتُ هذا…..’
وبينما بدأ القلق يتصاعد في قلبي بلا سبب واضح، شرعت أعض أظافري وأدور في مكاني باضطراب.
وبعد مرور وقتٍ طويل نسبيًا، ظهر دانتي أخيرًا.
“هل حدث شيء؟!”
أمسك بذراعيّ وسأل بسرعه، وعيناه تفيض بالقلق، مما أذاب ما تبقى من الخوف لدي.
ورغم ذلك، تحدثت بنبرة حادة قليلًا.
“أحضرت الأداة السحرية من غرفة إيدن.”
“وحدكِ؟ لماذا فعلتِ شيئًا بهذه الخطورة؟!”
نظر دانتي إلى الأداة التي كنت أمسكها، ثم أخذها مني وتفحصها عن قرب.
“أنتِ تنزفين.”
“ها؟ حقًا؟ من أين؟”
وأشار إلى إصبعي الإبهام، المكان ذاته الذي كنت أعضه سابقًا، ويبدو أني جرحت نفسي دون أن أشعر.
“آه، لم أكن أعلم.”
تنهد دانتي بصوت خافت متأثرًا بنبرتي غير المبالية. ثم أمسك يدي بلطف وأطلق عليها تعويذة شفاء. فعاد إصبعي كما كان، وكأن شيئًا لم يحدث.
“شكرًا لك. لم أكن أعلم حتى أنني تأذيت.”
ثم مددت له الأداة السحرية على الفور.
“أريد التأكد مما سُجّل. كيف أفعل ذلك؟”
أخذ دانتي الأداة الصغيرة ووضعها على الطاولة، ثم بث فيها طاقته السحرية. وسرعان ما بدأ الصوت يتردد منها،
[آه…..أشعر بالتعب.]
[غدًا سأذهب مع والدي لتفقّد الأراضي، لكنني أشعر بالإرهاق منذ الآن.]
بدأ يُسمع صوت حفيف البطانية، كما لو أنه كان على وشك الاستغراق في النوم. ثم ساد الصمت تمامًا.
فرمقني دانتي بنظرة سريعة، ثم ضخ المزيد من الطاقة السحرية. و عاد صوت إيدن يُسمع من جديد، لكنه لم يكن ذا فائدة تُذكر.
كان أغلب ما قاله يدور حول التعب، أو أن الخادمة ستنظف الغرفة في الصباح.
كنت أفكر بقلق إن كان من الأفضل لو أننا ثبتنا الأداة في المكتب بدلًا من غرفة النوم، وفي تلك اللحظة، خرج صوتٌ جديد،
[تجميع الطاقة السحرية يتأخر…..لا يمكن أن يستمر الوضع هكذا.]
_________________
ليج خلتني اقمط العافيه اول ماقال خطوة خطرة سويت سكيب اشوف من الي جا 😭
المهم واحد دانتي بليز🫂
وليج بعد حنونه عندها ولاء رايع
باقي اربع فصول 😔
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 86"