ذلك الشخص الذي كان يقف بملابس أنيقة محدقًا في البحر البعيد لم يكن سوى إيدن.
‘ما الذي جاء بإيدن إلى هنا؟ هل تبع كاين؟’
لكنّه لم يكن يرتدي زي فرسان الحراسة، لذا لم يُبدُ الأمر كذلك.
رؤية وجه مألوف أثارت فيّ شعورًا بالارتياح، فظلّلتُ أراقبه باهتمام. حتى أثناء حديثي مع الأميرة إيغنييل، كنتُ أنظر إليه بين الحين والآخر.
‘لكن، ما الذي يحدّق فيه هكذا؟’
تابعت بنظراتي امتداد عيني إيدن دون تفكير.
ظننتُ أنه ينظر إلى الأفق البعيد، لكن ما كان يحدّق فيه هو سفينةٌ محطمة.
‘هل جاء لأنه سمع عن الحادث؟’
حقًا…..إنه يحب العمل كثيرًا.
ابتسمتُ بخفة وهممتُ بأن أصرف بصري عنه، لكن في تلك اللحظة…..
‘هل ابتسم للتو..…؟’
بالفعل، كان إيدن يحدّق بالسفينة، وشفته ترتفع بابتسامة. ابتسامةٍ باردة، كأنها سخرية من شيء ما.
فاجتاحتني قشعريرةٌ لرؤية هذا التعبير لأول مرة على وجهه، و كأن شعر رأسي قد وقف.
ربما قد أخطأت الرؤية؟ فرمشت بعينيها مرارًا بسرعة، لكن شفتيه بقيتا مرفوعتين بانحراف.
‘لماذا يبتسم إيدن وهو ينظر إلى السفينة؟’
في تلك اللحظة، وربما لأنني تأخرت كثيرًا في الوصول، ظهر دانتي أخيرًا.
وعند ظهوره، بدا أن كاين قد ارتاح لرؤيته و تحدث ببعض البهجة.
“حضرتَ أخيرًا يا سيد ساحر. كنت قلقًا أنك لم تأتِ اليوم معنا.”
فأومأ دانتي برأسه تجاه كاين.
كانت إيماءةً بالكاد مرئية، و بالكاد يمكن ملاحظتها.
“…..نعم.”
قد يبدو تصرفه متعالياً، لكن كاين، الذي لم يكن يتوقع من دانتي حتى هذا القدر من التحية، ابتسم بسعادة.
عندها، أمالت الأميرة إيغنييل رأسها بتعجب.
“ساحر؟ أتقول أنه ساحر؟”
“نعم، يا صاحبة السمو. إنه ساحرٌ عظيم يُقال أنه سيصبح سيد برج السحر القادم.”
“أوه؟ حقًا؟ يبدو شابًا للغاية.”
شاب؟ هل قالت أن دانتي يبدو شابًا؟
مستحيل…..
دون وعي، التفتُّ بسرعة ونظرت إلى دانتي. ويبدو أن كاين راوده نفس الشعور، فقد ارتجف كتفه بخفة.
و شعرت بالحرج دون سبب واضح، فتنحنحت بتوتر.
“سحرة الإمبراطورية جميعهم من كبار السن، لم أعد حتى أذكر متى كانت آخر مرةٍ رأيت فيها ساحرًا بهذا الشباب.”
أومأتُ برأسي موافقةً على كلامها، ثم عدت ببطء لأبحث بنظري عن إيدن، لكنه لم يكن في مكانه.
إلى أين ذهب بهذه السرعة؟
نظرت حولي بحذر دون أن أثير الانتباه، لكن لم يكن له أي أثر. و في هذه المرحلة، بدأت أظن أنني ربما كنت أتوهم رؤيته.
بينما كنت أحدق في الاتجاه الذي كان يقف فيه، شاردًا،
بادرني كاين بالكلام.
“كونتيسة، هل هناك ما يشغلك؟”
لهززت رأسي سريعًا نافيةً وحاولت تغيير الموضوع.
“لا، لا شيء على الإطلاق. أنتما هنا من أجل طقوس التعزية، أليس كذلك؟”
“هذا جزءٌ من السبب، لكننا جئنا أيضًا للتحقق من كيفيّة وقوع الحادث.”
“آه…..أنا أيضًا فضوليةٌ جدًا بهذا الشأن.”
حتى الآن، لم يُكشف عن حقيقة ما حدث. قال البعض إن القبطان غفا، وقال آخرون إنه تعمد ذلك، لكن لم يكن هناك تفسيرٌ واضح من أحد.
ولم أرَ ضرورةً لذكر أن دانتي شعر بوجود سحر أسود.
صحيحٌ أن من لا يملكون موهبةً السحر لن يتمكنوا من كشف الحقيقة وحدهم، لكن إن تسرعتُ في قول شيء، فقد أبدو مشبوهًا.
‘أتمنى فقط ألا يكون هناك من يتعرض للظلم.’
ثم عادت المحادثة لتستمر من جديد. و انتقلنا من أحاديث عابرة إلى الحديث عن الأعمال، حتى مر الوقت دون أن نشعر.
ثم اقترب مساعدا كاين والأميرة إيغنييل من الشخصين اللذين يرافقانهما، وهمس كل منهما في أذن سيده.
عندها أومأ الاثنان في الوقت نفسه، وبدآ في الحديث.
“لدينا موعدٌ لاحق، لذا علينا إنهاء هذا اللقاء الممتع هنا. نأمل أن نلتقي مرة أخرى.”
“كان شرفًا لي، سموّك.”
غادرت الأميرة إيغنييل أولاً، وقد بدا واضحًا أنها فعلت ذلك إكرامًا لكاين، كي يتسنّى له توديعنا أيضًا.
“يبدو أن عليّ المغادرة أنا أيضًا.”
“احرص على سلامتكَ، سموّك.”
“بالطبع، وسأدعوكِ إلى القصر في المرة القادمة.
جلالة الملك تحسن حاله كثيرًا، وأراد أن يعبر عن امتنانه.”
“حقًا؟ هذا رائع! أتمنى دعوتي فعلًا، سأكون بانتظارها.”
ابتسمت أنا وكاين في الوقت ذاته. ثم غادر مباشرةً بعد ذلك.
وبعد أن تأكدتُ من اختفاء الأميرة إيغنييل وكاين تمامًا، بدأت أُمعن النظر في كل الاتجاهات من حولي.
فلاحظ دانتي تصرفي الغريب، ولم يستطع كتمان تساؤله.
“إيرفين، هل حدث شيءٌ أثناء غيابي؟”
عندها فقط أدركت أنه كان يقف إلى جواري، فتوقفت عن التحرك. و عندما استدرت، كان ينظر إليّ بوجه يملؤه القلق.
“آه، آسفة…..كنت شاردة الذهن قليلاً..…”
“عمّن تبحثين؟”
“آه…..كنتُ، لكن لا يبدو أن هناك شيئًا.”
دانتي الذي كان لا يزال ينظر إليّ بتعبير مريب، مرّر يده بين شعره.
لقد قررت ألا أخبره أنني رأيت إيدن بعد. فهو أمرٌ غير مؤكد، ولم أرد أن أقلقه دون داع.
“بالمناسبة، هل لا زلتَ تشعر بالسحر الأسود؟”
نظر دانتي إليّ بعينين ضيقتين وكأنه لاحظ محاولتي لتغيير الموضوع، ثم تنهد وتابع الحديث.
“أضعف من الأمس، لكنها لا تزال واضحة.”
“هكذا إذاً..…”
تجولت قرب رجال الإنقاذ لعل أحد الركاب يكون بينهم، لكن لم أجد شيئًا.
وهكذا، دون جدوى تُذكر، عدنا إلى نوكس.
***
بعد يومين من وقوع الحادث. وبما أن دانتي أبلغني أنه لن يستطيع الحضور بسبب انشغاله، قررت التوجه إلى قصر هايفن وحدي للبحث عن خيط يوصلني إلى الحقيقة.
بما أن إيدن كان في الميناء، فلا بد أنه كان يبحث عن شيء هو الآخر.
فتذكرتُ رؤية ابتسامته تلك من بعيد سببت لي شعورًا غريبًا، لكنني تجاهلته عمدًا.
ورغم ذلك، أرسلت رسالةً إلى دانتي أبلغه فيها أنني ذاهبة إلى قصر هايفن، تحسبًا لأي طارئ.
كان القصر قريبًا باستخدام الطريق المختصر، لذا وصلت بسرعة.
و بمجرد أن علم بقدومي، أسرع إيدن نحوي.
“إيرفين!”
وقد بدا في غاية السعادة.
وعندما رأيت إيدن يقترب مني مبتسمًا بوجهٍ مملوء بالبهجة، ابتسمت بدوري تلقائيًا.
“ما الأمر المفاجئ؟ لم أسمع أنكِ قادمة.”
شعرت وكأن هناك ذيلًا خلفه، يلوّح خلف ظهره.
“جئت لأسألكَ عن بعض الأمور. لست مشغولًا، أليس كذلك؟”
“أبدًا، الأمر على ما يرام. ثم إنكِ يا إيرفين مرحبٌ بكِ في أي وقت، حتى لو كنتُ مشغولًا.”
دخلت القصر مع إيدن ونحن نتبادل حديثًا بسيطًا وعاديًا. و كلما تحدثت معه أكثر، شعرت أن الابتسامة الباردة التي رأيتها بالأمس كانت مجرد وهم.
جلست في غرفة الاستقبال ومع أول رشفة من الشاي الدافئ شعرت أن التوتر ينساب من جسدي.
و كان إيدن يراقبني باهتمام، ثم بادر بالكلام.
“إيرفين، يبدو أنكِ قلقةٌ من شيء، ما الأمر؟”
رفعت فنجان الشاي ثم فزُعت وتوقفت في مكاني متجمدة.
كنت أحاول أن أبدو طبيعية، فكيف عرف بذلك؟ أشعر أحيانًا أنه يعرفني أكثر مما أعرف نفسي.
أيقنت أن الكذب لن ينطلي عليه، فقررت أن أقول الحقيقة.
“أنتَ سمعت ذلك أيضًا، أليس كذلك؟ عن أن السفينة برليانت اصطدمت بصخورٍ وغرقت.”
“آه، طبعًا. البلد كله ضجّ بالأمر. أمس حتى أميرة إمبراطورية تشيرتا جاءت للتحقّق بنفسها.”
“بالضبط، ولهذا أردت أن أسألكَ، هل ذهبت إلى ميناء ريكيل البارحة؟”
عندما سألته بشكل مباشر، اتسعت عينا إيدن بدهشة صغيرة ثم هز رأسه.
“لا؟ أنا كنت في القصر طول الوقت أمس. والدي كان مشغولًا بشؤون الفرسان، فكنت أساعده في أمور القصر.”
إذًا، الشخص الذي رأيته بالأمس لم يكن إيدن؟
صحيحٌ أن الشخص لم يكن يرتدي زي الفرسان، وكان من الجانب فقط، فربما أخطأت في رؤيته.
لكن رغم ذلك، حتى في هذا العالم، الشعر الفضي ليس شائعًا…..
كنت مترددةً في أفكاري حين بادرني إيدن بالسؤال.
“هل كنتِ أنتِ في ميناء ريكيل البارحة؟”
“أه؟ أ-أجل. يبدو أن أحد معارفي كان على تلك السفينة..…”
“حقًا؟ من هذا الشخص؟ زميلةٌ من الأكاديمية؟”
“لا، مجرد شخص أعرفه قليلًا. التقيت به مرةً واحدة فقط في الماضي، قبل وفاة والديّ، منذ زمن بعيد.”
نظر إليّ إيدن بعينين تلمعان بالفضول، ثم بدّل الموضوع كأنه تذكّر شيئًا.
“آه، صحيح، إيرفين.”
ولحسن الحظ، كان ذلك تغييرًا مرحبًا به. فأجبته بابتسامة مشرقة.
“هم؟ لماذا؟”
“وجدت بعض أغراضك في الغرفة التي كنتِ تستخدمينها. هل يمكنكِ أخذها معك اليوم إن أمكن؟”
“أغراضي؟ لم يكن لدي الكثير، وأخذت كل شيء عندما غادرت القصر.”
“كانت عالقةً تحت الدِرج. اكتشفتها إحدى الخادمات أثناء التنظيف بعد وقتٍ طويل.”
متى غادرتُ هذا المكان؟ ما الذي يمكن أن يكون حتى يُكتشف الآن فقط؟
“ما هو هذا الشيء؟”
“يبدو أنها رسالة. كانت داخل ظرف، لكني لم أجرؤ على فتحه.”
“أوه، حقًا؟ وأين هي الآن؟”
“تركتها في الغرفة. خفت أن تضيع.”
إن كنت لم أتذكرها حتى الآن، فلا بأس إن ضاعت. فنهضت من مكاني دون أن أعير الأمر أهمية كبيرة.
“إذًا سأذهب لأخذها الآن. كنت سأغادر قريبًا على كل حال لأنني سأمر على نوكس.”
“سأرافقكِ.”
نهض إيدن معي وسرنا معًا نحو الغرفة التي كنت أستخدمها عندما كنت أعيش في قصر هايفن.
لقد عشتُ هناك لعشر سنوات، لذا لا تزال آثار الحنين باقيةً في كل ركن.
وبينما كنت أسترجع الذكريات، كنا قد وصلنا إلى الغرفة دون أن أشعر.
____________________
خلاااااص واضحه ايدن له يد حتى راح يتطمن على الي سواه😂
المهم ليت دانتي جا معها
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 75"