أربكني اعتراف كاين.
لم يُظهر أبدًا أي علامة تدل على مشاعره، لدرجة أنني لم أشك ولو للحظة بأنه قد يُكنّ لي شيئًا. فأخذت أفكر مليًّا بكيفية الرد.
ولأنني التزمت الصمت طويلًا، لم يكن يُسمع سوى زقزقة العصافير في الخارج وصوت احتكاك أوراق الشجر بالريح.
وبعد طول تفكير، قررت أخيرًا ما سأقوله له.
“أنا……”
أخرجت الكلمات بصعوبة.
“لا أستطيع أن أبادلكَ المشاعر……يا سموّ الأمير.”
كتمت بقية عبارتي، ولم أستطع حتى النظر في عينيه.
و كان كاين يحدّق بي من الأعلا، ثم ضحك.
ضحكته كانت هادئة، وكأنها تتفتت بهدوء كالرمل تحت الأمواج.
“آه، قلبي يتمزق من أول ألم رفضٍ أعيشه……هذا حزينٌ جدًا، فليذهب مستقبلي إلى الجحيم!”
رفعت رأسي بسرعةٍ وقد صدمتني نبرة صوته الثقيلة، لكن ما واجهني كانت ابتسامةً صافية، وليست وجهًا غارقًا في الألم كما توقعت.
“أمزح فقط. هل أفزعتكِ؟”
“……طبعًا أفزعتني.”
نظرت إليه بطرف عيني بامتعاض، فضحك ضحكةً خفيفة مزعجة.
“هذا عقابكِ على رفض اعترافي.”
سرعان ما تبدّد التوتر الذي ظننته سيطول.
تصرفه هذا كان……نموذجيًّا تمامًا لكاين.
“لكن……كلامي الأخير لا يزال قائمًا.”
“هاه؟ ماذا تقصد……؟”
حينها، تغيّرت نظرة كاين وهو يحدق بي من جديد.
كأن عاصفةً عنيفة قد هبّت على سطح بحيرة هادئة، ناشرةً رذاذ الماء في كل اتجاه.
“كوني المخلصة التي أستطيع الوثوق بها، وابقَي إلى جانبي طوال حياتي. هذا ليس طلبًا، بل أول وأخر أمر أُصدره لك.”
ثم، بعد وقفة قصيرة، تابع،
“لأني إن فقدتكِ……سأندم على ذلك في كل لحظة، وأضرب الأرض حسرًا.”
كان الرد على ذلك في غاية السهولة. بل في الواقع، كنت قد قررت جوابي منذ لحظة قبل أن يتحدث.
“بالطبع. سأظل دائمًا إلى جانب سموّك.”
فارتسمت على وجه كاين ابتسامةُ رضا عميقة.
وفي تلك اللحظة، اقترب المساعد منه.
“سموّ الأمير، عليكَ المغادرة الآن استعدادًا للجدول التالي.”
“هل حان الوقت بالفعل؟ حسنًا، فهمت.”
أرسل المساعد في المقدمة، ثم التفت إليّ مجددًا.
“يبدو أن عليّ الرحيل الآن.”
“عملك شاق، لا تُجهد نفسكَ أكثر من اللازم.”
“شكرًا. إذًا أراكِ في الحفل القادم.”
ضغط كاين على شفتيه كأن قلبه يرفض الرحيل، ثم ابتسم وغادر بخطى بطيئة.
فنظرت إلى ظهره وهو يبتعد، ثم استدرت لأتابع طريقي.
وما إن خرجت مجددًا إلى الخارج حتى ظهرت أمامي فجأة يوريا، ابنة الفيكونت سيغرين.
“آه! لقد أفزعتني!”
ابتسمت يوريا بسخرية، وضحكت الفتاتان اللتان كانتا تقفان خلفها بخفة وسخرية.
‘من أين خرجتن أنتن الآن؟!’
“آنسة سيغرين، هل هناك ما تودين قوله؟”
تمدّدت شفتا يوريا بتصنّع، وأجابت بنعومة،
“لقد سُعدتُ بلقاء الكونتيسة بعد وقتٍ طويل، فقط جئت لألقي التحية.”
كانت تحدّق بي منذ قليل وكأن عينيها ستشتعلان من شدة الكراهية……فعن أي سعادة تتحدث؟
لم أجد في هذا الموقف ما يستحق حتى السخرية، فاكتفيت بالتحديق إليها بصمت.
“تقولُ زوجة الماركيز نيل أن اجتماعنا هنا قدَرٌ جميل، وتنوي إقامة لقاء بسيط للسيدات و الآنسات، فهل ستحضرين، كونتيسة؟”
“لا، لم أتلقَّ أي دعوة.”
“آه حقًا؟ يا للأسف……”
تظاهرت يوريا بالأسف، لكنها سخرت بخبث ظاهر.
غطّت فمها بظاهر يدها وأكملت وهي تُبالغ في تقويس عينيها المصطنع،
“اليوم بدايةٌ لسلسلة من الحفلات الراقصة وحفلات الشاي……فكم هو مؤسف أنكِ لم تتلقّي دعوةً من زوجة الماركيز نيل!”
كان في صوتها ما يشبه الاستمتاع، رغم نبرتها المتظاهرة بالشفقة.
كانت زوجة الماركيز نيل تحكم عالم الطبقة الراقية بقبضة من حرير وحديد؛ ثروةٌ هائلة، شبكة علاقات قوية، وجمالٌ آسر……لا ينقصها شيء.
وإن راق لها أحد، دعمتهُ بنفوذها، أو استمالته بحديثها الساحر.
حتى الملكة لم تسلم من نفوذها، وكان يُقال أنها وصلت حتى إلى العالم السفلي.
لذا، من يُدعَى إلى حفلها بمناسبة يوم تأسيس المملكة، يُعتبر من الوجوه الأكثر نفوذًا في الساحة الاجتماعية لذلك العام.
“وماذا في ذلك؟”
لكنني……لم أكن مهتمة بتلك الأمور على الإطلاق.
لأن النجاح في المجتمع الراقي لا يضمن نجاح الأعمال أو مستقبلي الزاهر.
صحيحٌ أن الأمور قد تصبح أسهل، لكنني الآن لا أملك وقتًا لأهدره في أماكن أخرى، فالبطلة على وشك الظهور.
نظرتُ إليّ يوريا بعبوس طفيف وهي تراني أجيب ببرود.
“كنتِ دائمًا هكذا.”
قالت يوريا ذلك بغيظ.
كنت أرى أنه لا داعي لانزعاجها طالما أنني بخير، لكنها فتاةٌ سيئة الطبع على أية حال، لذا لم أستغرب.
يبدو أن موقفي الفاتر أزعجها طوال الوقت، فقد تجهم وجهها فجأة وصاحت.
“هل وصلتِ إلى مدّ مخالبكِ حتى إلى سمو ولي العهد؟”
مخالب؟ ماذا فعلت لكاين أصلاً؟
نظرات يوريا الحادة نحوي جعلتني أشعر بالغبن.
الآنسات اللواتي كنّ يقفن خلف يوريا تبادلن الهمسات ونظرن بخفة، وكأنهن لم يتوقعن منها أن تقول هذا الحد.
تنهدتُ بقوة ونظرت إليهن.
“آنسة سيغرين، هل تدركين ما الذي تقولينه الآن؟”
“بالطبع، أنا أتحدث عن ازدواجية شخصيتكِ يا كونتيسة.”
“ازدواجيتي؟”
ما الذي تهذي به هذه الفتاة؟
“منذ زمن وأنت تتذرعين بضعف صحتك لتتطفلي على دوقية هايفن، والآن لا يكفيكِ ذلك، بل تطمعين حتى في العائلة المالكة؟ أليس من المحتمل أن كل ما قيل عن مرضكِ كان كذبًا؟ فأنتِ تبدين في صحة ممتازة.”
أي هراء هذا الذي تتفوه به؟
كنت أستطيع تحمل كل شيء، لكن كلماتها تجاوزت الحدود، وأثارت غضبي فجأة.
و بسبب انفعال يوريا وارتفاع صوتها في منتصف الحديث، توجهت أنظار من كانوا بالخارج إلى الداخل.
لم يكن من الممكن السماح للضجة بأن تتفاقم.
“هذا ليس صحيحًا، فلنُنهِ هذا الحديث.”
رغم أنني كنت أرغب بشدة في أن أُفرغ عليها سيلًا من الشتائم، إلا أنني تمالكت نفسي بسبب كثرة العيون التي تراقب.
لكن يبدو أن يوريا لا تملك نفس النية.
“يبدو أنكِ تخفين شيئًا، أراكِ تحاولين تغيير الموضوع.”
“الأمر ليس كذلك..…”
“من الأفضل أن تعترفي فحسب، في الحقيقة، كل شيء كان فقط لجذب الانتباه، أليس كذلك؟”
لم أعد أستطيع احتمال سماع المزيد.
و كنت على وشك أن أنفجر غضبًا، لكن فجأة، التفتت أنظار يوريا ومن معها جميعًا نحو شيء خلفي.
ثم سُمعت همسةً بصوت منخفض.
“إيرفين، ماذا تفعلين هنا؟”
حين التفتُّ، كان دانتي واقفًا هناك.
“وأنتَ دانتي…..ألم نتفق على أن نلتقي قبل الحفل مباشرة؟”
اقترب دانتي بخطواتٍ بطيئة وأجاب.
“لأني اشتقت لرؤيتكِ.”
و في لحظة، شعرت بوجهي يشتعل وكأن النار اشتعلت فيه.
كيف له أن يقول شيئًا كهذا بكل برود وسط هذا الجمع؟
وضعت يدي على وجهي الساخن ونظرت مجددًا إلى يوريا. بينما أطلقت هي ضحكة سخرية وكأنها لم تصدق ما تسمع.
“ومن هذا الآن؟ لا بد أنها كانت تمارس كل أنواع الأفعال القذرة خلف وجهها البريء. في الواقع، ربما لم تكن تدير متجرًا ولا شيئًا، ربما حوّلته فقط إلى البغي*!”
*مكان كفار يتجمعون فيه نسوان ويجي واحد يستاجرهم
حين يبلغ الغضب أقصى درجاته، يصبح الإنسان أكثر هدوءًا.
تقدمتُ نحو يوريا بابتسامة، وهمست بصوت لا تسمعه سواها.
“من الأفضل أن تحذري لسانك. كما قلتِ، السيد هايفن، وسمو ولي العهد، وحتى كبير سحرة برج السحر…..جميعهم في صفي.”
تراجعت يوريا خطوةً إلى الوراء ورفعت صوتها.
“ماذا…..!”
فقاطعتها مهددةً بنبرة حادة.
“التخلص منكِ من هذا العالم ليس بالأمر الصعب أبدًا. هل أطلب رميكِ في غابة عميقة لتكوني طعامًا للوحوش البرية؟ أم أضعكِ في سجن بيرياغيلس الذي لا يخرج منه أحد؟ أو ربما.…”
شحب وجه يوريا تمامًا، لكنها رفعت يدها عاليًا وكأنها ترفض أن تُهزم.
“أوه، هل ستضربينني؟ حسنًا، اضربي. على الأقل سأملك حينها سببًا علنيًا للرد عليكِ.”
كانت عينا يوريا تلمعان وهي تحدق بي بنية الضرب، لكنها فجأة أسقطت جسدها كليًا واستسلمت.
“ما الأمر الآن؟ ما الذي يحدث؟”
ثم فجأة، انحنت بعمق وقدّمت تحية.
“أعتذر، آنسة إيرفين.”
“مـ-ماذا؟”
“أعتذر، آنسة إيرفين.”
واصلت تكرار العبارة نفسها لوقت طويل. ثم استدارت فجأة، وتجاهلت من معها تمامًا، وبدأت تمشي مبتعدة بسرعةٍ دون تردد.
تصرفاتها بدت غير طبيعية على الإطلاق.
بينما كنت أتابع يوريا وهي تختفي وكأنها مسحورة، اقترب دانتي ووقف إلى جانبي.
و رأيته يحرّك إصبعه من الأسفل بحركة دائرية،
“هل…..ألقيتَ عليها تعويذةً سحرية الآن أو شيء من هذا القبيل؟”
عندها ارتجف دانتي بخفة وهو يهز كتفيه.
“حقًا؟! ماذا لو كُشفتَ؟ كيف تفعل شيئًا متهورًا كهذا؟!”
همست له بحدة وأنا أوبّخه. فردّ وهو يمسح شعره للخلف بهدوء.
“كانت تصرخ منذ قليل بصوتٍ مزعج جدًا.”
لكن استخدام تعويذة سحرية للتأثير على عقل شخص ما، داخل مكان فيه ساحر البلاط وقد أقام حاجزًا سحريًا؟
هذا النوع من السحر ليس محظورًا تمامًا في المملكة، لكنه مقيدٌ بقوانين، ويُعتبر من السحر الخاضع للمراقبة.
رغم ذلك، دانتي لم يبدُ عليه أي شعور بالذنب، بل هز كتفيه مجددًا وأكمل.
“ثم إنها تجرأت على محاولة الاعتداء على إيرفين جسديًا.”
آه. لا يمكن أن أمر على هذا مرور الكرام. عليّ أن أنبّهه ألا يفعل شيئًا كهذا مجددًا.
لكنني لم أستطع أن أغضب منه، وهو ينظر إليّ بتلك الابتسامة المشرقة.
‘لماذا هذا القلب لا يعرف كيف يقرأ الأجواء ويتوقف عن النبض؟’
__________________
اشوا رفضت كاين على طول عشان ماتعطيه امل😭
المهم دانتي رجاااااال شجااااع محزم مليااااان
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 70"