أمرٌ جلل. يبدو أنه لا يسمعني إطلاقًا.
“يا سموّ ولي العهد! أفق قليلًا!”
رفعت صوتي أكثر وناديته، لكن لم يأتِ أي جواب.
إن استمر الأمر هكذا، فعلاً سيحدث ما لا تُحمد عقباه قبل أن أستدعي أحدًا.
هممت بالنهوض لأستدعي أي شخص، لكنني لم أستطع. بسبب كاين الذي أمسك بطرف ثوبي بعينين فقدتا تركيزهما.
“سموّك……”
لكن يبدو أنه لم يستعد وعيه بعد.
“ما العمل؟ ألا توجد طريقةٌ ما؟”
وأنا أرى كاين يتصبب عرقًا باردًا، عضضت شفتاي بقلق.
كانت هذه أول مرةٍ أواجه فيها أمرًا كهذا، فعتم رأسي تمامًا. و لم أملك سوى أن أربّت على يده التي بالكاد كانت تمسك بياقتي.
ثم فجأة، خطر ببالي كلام كاين، كأنه خيطٌ من نور.
“لقد بقيتُ دومًا إلى جواركَ يا سموّ الأمير. ألم تقل أنكَ ستكون بخير ما دمتُ أمامكَ؟”
ارتجف جسد كاين بشدة في تلك اللحظة. فاغتنمت الفرصة وأكملت الحديث.
“أنا هنا الآن أيضًا. أمامكَ تمامًا.”
عندها توقف كاين عن التنفس لبرهة. و بدت عليه الدهشة للحظة، ثم أخذ يستعيد هدوءه تدريجيًا.
“سموّك. إنها أنا، إيرفين. أتراني؟”
أطلق كاين زفيرًا طويلاً ضعيفًا ورفع رأسه ببطء.
و كانت نظرته لا تزال ضبابية، لكنه كان يحدق بي مباشرة.
“……إيرفين؟”
بدت نبرته المنخفضة المتكسرة حزينة للغاية. فحاولت أن أبتسم بصعوبة وخاطبته.
“نعم. أنا هي. هل بات بإمكانكَ أن تراني الآن؟”
أغمض كاين عينيه ببطء ثم فتحهما. و رمش مرات عدة ببطء، ثم أومأ برأسه.
تنهدت براحة حين رأيته وقد بدا أنه عاد إلى حاله الطبيعي ولو قليلًا، رغم أن ملامحه ما زالت توحي بالقلق.
“يا للراحة. هل تستطيع النهوض؟”
نهضت أولًا ومددت يدي إليه. فحدّق كاين في يدي بذهول قليلًا، ثم أمسكها بحذر ونهض بصعوبة.
حين أمسك بيدي ليقف، بالكاد شعرت بثقل جسده.
‘ظننت أنه فقد قوته بالكامل، لكنه نهض بسرعة. هذا جيّد.’
وقف كاين صامتًا بوجه خالٍ من التعبير، على غير عادته تمامًا.
راقبت تعابيره قليلًا ثم نطقت بأي شيءٍ عله يخفف الأجواء.
“الطقس جميلٌ اليوم، أليس كذلك؟”
نظر كاين إلى النافذة مرة واحدة، ثم أعاد بصره إليّ. و حدق بي بشرود، ثم فتح شفتيه.
“أنا آسف.”
“……ماذا؟”
اعتذر فجأة، ثم انحنى برأسه وتابع.
“آسفٌ لأنني أقلقتكِ دون داعٍ. لا وجه لي أمامكِ.”
“لا، لا بأس! طالما أنكَ بخير، سموّك……”
لوحت بيدي سريعًا محاولة تهدئته، لكنه لم يرفع رأسه.
كنت أظن أننا تجاوزنا الموقف بسلام، لكنه على ما يبدو كان يشعر بذنب لا داعي له.
راقبت كاين مليًّا ثم صفقت بيدي أمام وجهه.
و عندما دوّى الصوت عالياً، انتفض كاين ورفع رأسه بسرعة.
“كونتيسة، ما الذي……فجأة……؟”
انفلتت مني ضحكةٌ لرؤية تعبيره المندهش وهو ينظر إليّ بحيرة. أما كاين، فلم يفعل سوى إمالة رأسه باستغراب، يجهل السبب تمامًا.
فابتسمت له بود.
“هل بات بمقدوركَ أن تراني الآن؟”
“……ماذا؟”
كرر كاين كلمتي في رأسه قليلًا، ثم فهم قصدي وأجاب بابتسامةٍ محرجة.
“نعم. أراكِ جيدًا. حتى خصلات شعركِ المتموجة، وغمازتكِ الظريفة تحت عينيكِ حين تبتسمين.”
يبدو أنه تعافى تمامًا. فهو يقول كلامًا مُحرجًا كهذا وكأن لا شيء فيه.
فحككت خدي بخجل.
“هذا مطمئن. يبدو أنكَ أصبحت بخيرٍ فعلًا.”
“وكل ذلك بفضلكِ. لا أعلم كيف أرد لكِ جميلك.”
“لا داعي لذلك. لقد فعلت ما ينبغي عليّ فعله وحسب.”
قهقهت قهقهةً مبالغًا فيها وكأنني أتخلص من الحرج، ثم أخذت أتلفت من حولي وسألته.
“لكن، لماذا لا يوجد أحدٌ في الممر؟ حتى قبل قليل، صرخت بصوت عالٍ، ولم يأتِ أحد.”
“لقد أمرت بألّا يتبعني أي شخص حين أدخل إلى القصر. وطلبت منهم أن يمنعوا دخول أي كان قدر المستطاع.”
“آه. وماذا عني؟ لا أظن الحراسة كانت ضعيفةً حتى أتخطاها……”
سألته وأنا أميل برأسي بحيرة، فارتسمت على شفتيه ابتسامةٌ خفيفة.
“لقد استثنيت الكونتيسة كوينيارديل من ذلك. فقد توقعت أنكِ ستأتي.”
قال كاين ذلك مبتسمًا بلطف، ثم شرع في السير. فسرت خلفه أراقب خصلات شعره التي تتمايل مع خطواته.
وبينما كنا نسير في الممر الهادئ، قطع كاين الصمت فجأة،
“حين وقفت على المنصة، شعرت كأن العشرات من العيون التي تحدق بي أفرغت رأسي تمامًا، فلم أعد أرى شيئًا.”
كنت أتوقع هذا، لكن التفكير في مدى ما تحمله منذ ذلك الوقت جعل قلبي ينقبض أسىً عليه.
تابع كاين كلامه دون أن يتوقف عن السير.
“لم أعد أعرف حتى ما الذي أقوله. ولا حتى أين كنتِ أنتِ.”
“سموّك……”
“وحين أنهيت الكلام ونزلت، بات تنفسي في غاية الصعوبة. لا أذكر حتى كيف وصلت إلى هناك.”
لقد كان يعاني أكثر مما تخيلت.
كم آلمني أن أتخيل كم حمل من أعباء بمفرده منذ صغره.
توقف كاين فجأة، فتوقفت معه في مكاني. و بدا لي ظهره حينها موحشاً للغاية.
“أتظنين أنني سأكون بخير؟”
همس كاين بصوت منخفض يكاد لا يُسمع.
“هل يمكن لشخصٍ مثلي، يعجز حتى عن الكلام أمامهم، أن يتحمل مسؤولية أمةٍ بأكملها؟”
بالطبع. فهو سيغدو ملكًا عظيمًا يُخلّده تاريخ مملكة وينستاليا.
وحتى لو تبدلت الحكاية وصار طريقه مليئًا بالأشواك، فلن يتغير مصيره.
أنا واثقةٌ من ذلك تمامًا.
لأن كاين أهلٌ لذلك.
حدّقت مطولًا في شعره الكثيف الناعم ثم تحدثت.
“هممم، من يدري؟ لا أحد يستطيع الجزم بهذا.”
التفت إليّ كاين بسرعة، وقد ارتسمت على وجهه ملامح امتعاض واضحة.
“يا كونتيسة، أليس من المفترض في مثل هذه اللحظات أن تقول لي كلمات مثل: سيكون الأمر بخير، أو كن واثقًا بنفسكَ؟”
هززت كتفيّ بخفة وتقدمت متجاوزةً إياه.
“لكني حقًا لا أستطيع أن أضمن ذلك.”
سمعت وقع خطواته خلفي، متبوعًا بضحكةٍ صغيرة مندهشة.
ثم خطوت ثلاث خطوات أخرى و استدرت نحوه فجأة.
“لكن، ما رأيكَ أن تحاول مع ذلك؟ أعتقد أن مواجهة الأمر أفضل بملايين المرات من أن تهرب خوفًا منه.”
ابتسمت له برفق، فراح ينظر إليّ بصمت، قبل أن يطلق ضحكةً قصيرة ويهز رأسه ببطء.
“هل تدركين ماذا فعلتِ للتو؟”
“ها؟ ماذا تعني؟”
تألقت عيناه المستديرتان مثل هلال مضيء حين ابتسم.
“كلماتكِ الآن جعلت الحمل الثقيل الذي كان يعذبني طيلة خمسة عشر عامًا يبدو تافهًا في لحظة.”
اقترب مني خطوةً أخرى، ووجهه يشرق كما لو أنه ارتوى للتو من دفء الشمس التي تنهمر فوق رؤوسنا.
ثم تحدث مجددًا بصوت بدا وكأنه يلومني، لكن بنبرةٍ عذبة للغاية.
“ماذا فعلتِ بي يا ترى؟”
كان صوته جميلًا جدًا، وتعبيره الوادع جعلني أشعر أن حتى الثلوج الأبدية قد تذوب قربه.
فهممت أن أرد عليه، لكن كاين سبقني.
“في حفلة الغد، هل سترقصين مع السيد هايفن؟”
“آه……لا. لن أرقص مع إيدن.”
“وهل لديكِ شريكٌ محدد إذاً؟”
لِمَ……لِمَ يسألني هذا السؤال؟ هل يعقل أنه يود أن يطلب مني الرقص معه؟
مستحيل. لا وقت لديه حتى ليشارك في الرقص. لا، بالتأكيد ليس هذا.
“سأرقص مع السيد الساحر.”
يا ترى، هل سيقول لي ألّا أحضره لأنه غير مدعو……؟
لكن كاين مال برأسه باستغراب، ثم ابتسم بخفة.
“إذاً، سيحضر الساحر الحفل أيضًا؟ لقد أرسلت دعوةً إلى برج السحرة، لكني خشيت أن يلقوها جانبًا حين يرون ختم العائلة المالكة.”
لقد أرسل دعوةً رسمية إلى برج السحرة؟ وباسم العائلة المالكة مباشرة؟
فُتح فمي دهشةً من أمرٍ لم أكن لأتخيله قبل بضعة أشهر فقط.
“لم أكن أعلم بهذا مطلقًا.”
“……ألَم يأتِ لأنه تلقّى الدعوة إذاً؟”
لكن. دانتي لم يذكر أي شيء عن الدعوة.
من المؤكد أنه إما مزقها دون أن يقرأها، أو أن أحد أتباعه تخلّص منها قبل أن تصله أصلًا.
ولم أشأ أن ألوث تلك اللحظة التاريخية التي مدت فيها الأسرة المالكة يدها إلى برج السحرة بهذا الإحراج.
“حقًا لم أكن أعرف أن الدعوة جاءت من العائلة المالكة. ظننته مجرد أمر شخصي منكَ يا سموّك. وحين تلقاها دانتي، غمره الفرح……”
حتى أنا لم أصدق ما خرج من فمي، فضغطت على لساني بأسناني كي لا أطلق مزيدًا من هذا الكلام الفارغ.
لا أعلم إن كان صدقني أم لا، لكنه ضيّق عينيه قليلًا ثم ابتسم بسخرية.
“أتطلع إلى حفل الغد.”
كاذب. فملامحه لا تظهر أي شوق أو ترقب.
زفرت سرًا وأنا أراقب كاين الذي يتظاهر بالشجاعة بالكلام فقط. ثم خطر في بالي فجأةً حلّ ما، فبدأت أفتش في حقيبتي.
“كونتيسة؟ ماذا تفعلين فجأة؟”
“انتظر قليلًا! أظنها هنا في مكان ما……آه، وجدتها!”
أخرجت من أعماق حقيبتي فاصل كتاب صنعتُه بزهرةٍ مضغوطة، وثبتّه بخيط كي لا أضيعه. و ناولته لكاين.
“ما هذا؟”
مال برأسه مستغربًا، فابتسمت له بصفاء وقلت.
“همم، ربما هو تميمةٌ ستحميك يا سموّ ولي العهد؟”
_____________________
كاين مسكييييييين
والمؤلفه جالسه تخلينا نحبه غصب😭
المهم شكل دانتي حرق الدعوة حتى قبل يشوف وش فيها😂
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 68"