فجأةً انطلقت شهقةٌ مني حين سمعت صوت دانتي من خلفي.
ظننتُ أنه لم يأتِ بعد، فإذا به كان طوال الوقت في المخزن؟
رحّب كايدن بدانتي وخاطبه.
“سيدي دانتي! جئتَ في الوقت المناسب!”
“ما الأمر؟”
السؤال وجههُ لكايدن، لكن دانتي ثبت نظره عليّ وهو يسأل.
مع ذلك لم يأبه كايدن وشرع يتحدث بحماس.
“السيدة إيرفين يجب أن تحضر حفلة ذكرى تأسيس المملكة، لكنها لم تختر بعد شريكًا للرقص! ما رأيكَ أن ترافقها أنت يا سيدي؟ فأنت لو حضرتَ حفلةً ملكية فلن يجرؤ أحد على الاعتراض.”
لم يكن سيئًا لو رفض دانتي، لكن لا أدري لماذا صرت متحمسةً لمعرفة جوابه.
راقبتُ دانتي وهو يميل رأسه متسائلًا، وابتلعت ريقي خلسةً دون أن ينتبه أحد.
و قد طال صمته قبل أن يتحدث أخيرًا بعد وقت بدا طويلًا.
“لا مانع عندي من الحضور…..لكن..…”
أنهى عبارته بنبرة مترددة ومسح أنفه بخجل، على غير عادته.
رؤيتي له خجولًا هكذا لأول مرة بدت لي غريبة.
“لم يسبق لي مطلقًا حضور حفل كهذا، ولا أعرف كيف أرقص.”
ثم اشتعلت أذنا دانتي حمرةً. و بدت ملامحه مضحكةً قليلًا، بل وربما…..لطيفةً بعض الشيء.
قبل أن أنبس ببنت شفة، بادر كايدن بالكلام.
“هيه، سيدي دانتي! لماذا تقلق بشأن ذلك؟ السيدة إيرفين خبيرةٌ في الحفلات وستقودك بخطواتها بكل براعة!”
عندها ارتكزت عينا دانتي عليّ. و بينما كنت أحدق في أطراف أذنيه الحمراء فوجدت نفسي فجأةً أصطدم بنظراته.
“هل يروقكِ ذلك؟”
“ماذا..…؟”
“كنت أسألكِ إن كنتُ شخصاً يناسبكِ.”
سأجعل ذلك الرجل يغيّر أسلوب حديثه يومًا ما مهما كان الثمن. لماذا دائمًا يختار عباراتٍ مليئة بسوء الفهم؟
تنحنحتُ مرتين متعمدةً قبل أن أجيبه.
“بالطبع، لا مشكلة أبدًا.”
لم يكن يهمني إن كان الطرف الآخر يجيد الرقص أم لا. فالرقص إن لم يحدث فلا بأس، وأنا أولويتي أن أتجنب تلك الأسطورة السخيفة قبل كل شيء.
ابتسم دانتي وكأنه راضٍ عن الجواب.
“حسنًا، سأذهب معكِ إذاً.”
***
بعد ذلك توالت الأيام المزدحمة بلا هوادة.
ويبدو أن الأدوية الجديدة التي أضفت إليها أعشابًا طبية قد أثمرت، إذ بدأت حالة الملك تتحسن تدريجياً.
فكنت مضطرةً للذهاب إلى القصر الملكي يوميًا للاطمئنان عليه، وفي أثناءٍ أخرى أصنع أدوية نوكس أيضًا.
ولم أستطع إهمال شؤون المقاطعة، فكنت أقضي الليالي في إنجاز أعمالها.
حقًا كانت أيامًا عاصفة بكل معنى الكلمة.
وهكذا مر الوقت سريعًا حتى أشرق صباح اليوم الذي يسبق ذكرى تأسيس المملكة.
‘غريبٌ أن آتي وحدي بعد مدة طويلة، أشعر بحرج قليل.’
منذ المرة الأولى التي رافقني فيها دانتي، لم يغِب قط عن المجيء معي إلى القصر، لكنه اليوم اعتذر لوجود ما يلزمه في البرج.
وفي طريقي المعتاد إلى غرفة الملك صادفت كاين. ولأنه كان منشغلًا حتى أذنيه في الاستعدادات لذكرى التأسيس، فلم نلتقِ منذ أربعة أيام تقريبًا.
“كونتيسة كوينيارديل. مضى وقتٌ طويل لم أركِ فيه.”
“سموك، هل كنتَ تنام جيدًا في هذه الفترة؟”
كان وجه كاين الذي أراه بعد مدةٍ طويلة شاحبًا إلى حد بدا وكأنه خالٍ من الدم.
لعل اقتراب يوم ذكرى تأسيس المملكة، الذي لم يتبقَّ عليه سوى يوم واحد، جعله مشدود الأعصاب إلى هذا الحد.
ومع ذلك، ابتسم كاين وأجابني.
“أليس لديكِ ما تقولينه لي غير هذا كلما رأيتني؟ أشعر أنك تسألينني ذات السؤال في كل مرة نلتقي فيها.”
لو كان في الأحوال العادية، لكنت قابلت مزاحه بضحكة. لكن حالته اليوم كانت أسوأ من المعتاد، فلم أستطع مجاراته.
“هذا لأنك تبدو متعبًا في كل مرة أراك فيها. أخشى أن تسوء حالتكَ فجأة.”
“جميلٌ جدًا. يعجبني أنكِ تقلقين عليّ.”
هذا الوغد…..شخصٌ يعبّر له بصدق عن قلقه فيرد عليه بابتسامة مستهترة كهذه!
لكن طالما أنه قادر على المزاح، يبدو أنه ما زال في حال لا بأس بها.
“ليس أنا وحدي من يقلق، كل الشعب يفعل، لذا أرجوكَ اعتنِ بصحتكَ.”
“حسناً حسناً. لديكِ نزعةٌ واعظة لا بأس بها، كونتيسة.”
تنهدت في داخلي وأنا أنظر إلى كاين الذي يحاول التهرب من أي كلام جاد بمزاحه المعتاد.
ولم أنتبه إلا الآن، إذ كنت منشغلةً بتفحص لون وجهه، أنه كان يرتدي اليوم زيّه العسكري الرسمي.
فقد اعتدت رؤيته بملابس فضفاضة مهملة، لذا بدا مظهره اليوم غريبًا عليّ.
“تبدو رائعًا جدًا اليوم. هل لديكَ موعد ما؟”
“هل أنا رائعٌ هكذا؟”
قال كاين ذلك وهو يصلح بلا داعٍ ياقة سترته وأكتافه المزينة بابتسامة مشرقة.
حتى عيناه اللتان كان يغلب عليهما الإرهاق قبل قليل، صارتا تلمعان.
كان حقًا وسيمًا لا يقل عن دانتي أو إيدن.
“بالطبع. سموك دائمًا رائع.”
قلت ذلك وأنا أهز كتفي، ففتح كاين عينيه بنظرة ماكرة.
“لكن لا يبدو كلامك كأنه مديحٌ صادق إطلاقًا.”
“يا إلهي، لا تقل هذا. إنه مديحٌ صادق من أعماق قلبي.”
“حقًا؟”
وضعتُ يدي فوق صدري الأيسر وأومأت برأسي. عندها انفجر كاين ضاحكًا قليلًا،
“هناك بروفةٌ الآن لمسيرة ذكرى تأسيس المملكة غداً.”
“بروفة؟ أي أنك ستركب المحفّة كما في الحفل الفعلي؟”
*المحفة هي العربة الي يشيلونها ناس مالها عجلات
في مسيرة ذكرى تأسيس المملكة، يقود الملك والملكة الموكب بركوبهما محفات مفتوحة من كل الجهات، يتبعهم بقية العائلة الملكية بنفس الطريقة.
يبدأ الموكب من القصر الملكي ويعود إليه في النهاية، ليتوقف عند منصةٍ عالية مخصصة للخطب. وهناك يلقي الملك أو ولي العهد كلمةً معدة مسبقًا، وبانتهائها يبدأ الاحتفال رسميًا.
لكن الآن، الملك طريح الفراش والملكة في بلادها الأصلية، مما يعني أن كاين سيتحمل وحده نظرات الجموع كلها.
‘أتمنى أن ينتهي كل شيء دون مشاكل…..’
هز كاين رأسه مجيبًا على سؤالي.
“ليس كذلك. خوفًا من ازدحام الناس، سنستقل عربةً صغيرة لا تحمل ختم العائلة الملكية. لكن عند وصولي إلى منصة الخطابة، سأضطر للنزول منها.”
صوته بدا عاديًا، لكنه كان يرتجف قليلًا.
ولأخفف عنه توتره، شرعت أجرّه إلى أحاديث تافهة. إلى أن جاء مساعد كاين يبحث عنه.
“سموك. أتممنا جميع الاستعدادات. هناك بالفعل بعض الناس يتجمعون عند منصة الخطابة، لذا من الأفضل أن نسرع.”
“حسنًا. سننطلق حالًا..…”
تقدم كاين خطوةً مستعدًا للتحرك، لكنه توقف فجأة.
“دع الجميع يبتعد قليلًا.”
“لكن، سموك..…”
“لن يأخذ الأمر وقتًا طويلًا. فقط للحظاتٍ لا غير.”
“حسنًا. سننتظر هناك.”
قال مساعده ذلك ثم مضى وهو يلتفت بين الفينة والأخرى، حتى وقف عند زاوية الممر ينتظر كاين.
بينما كان كاين يراقب ظهره، التفت إليّ فجأة وخاطبني.
“لدي طلب…..هل يمكنكِ أن تلبيه لي؟”
“أنا؟ إن كان في مقدوري، فسأفعل مهما يكن.”
ابتسمت له لأهدئ من توتره، فارتسمت على شفتيه أيضًا ابتسامةٌ صغيرة.
“هل يمكنكِ أن تنتظريني أمام منصة الخطاب؟ أشعر أنني لن أرتعش لو رأيتكِ هناك.”
نظرت إلى كتفيه المرتجفين قليلًا، ثم أومأت برأسي.
“سأفعل. سأنتظركَ هناك حتمًا.”
***
اقترب الوقت الذي يصل فيه موكب كاين إلى هنا، وجهته الأخيرة.
وكأنهم علموا بموعده مسبقًا، إذ امتلأ المكان بالناس حين حان الوقت. وبعد نحو عشر دقائق، علت همهمات في الأرجاء حين دخلت عربته إلى الساحة.
“أليست هذه عربة سمو الأمير؟”
“هيه، لكنها بلا شعار العائلة الملكية. أظنها ليست له.”
“أهكذا تعتقد؟”
وبين الهمسات فُتح باب العربة. ومدّ الجميع أعناقهم يترقبون حتى ظهر كاين بخطوات ثابتة و أنيقة.
وما إن خرج حتى علت هتافات الناس تصفق وتبتهج.
اعتدل كاين في وقفته وسار بخطى واثقة حتى بلغ منصة الخطابة.
لكنني وحدي استطعت أن ألاحظ.
‘إنه يرتجف.’
كانت يداه المخفيتان أسفل ردائه ترتعشان بوضوح. ومع ذلك، تماسَك وفتح فمه متحدثًا بكل شجاعة.
“تحيةٌ طيبة لكم جميعًا.”
كانت منصة الخطاب قد زُوّدت بسحر تضخيم الصوت من قِبل ساحر البلاط، فترددت كلمات كاين في أرجاء الساحة.
فنظرت مئات الأعين إليه ممتلئةً بالتوقع والاهتمام. لكن حين همّ كاين بأن يتابع حديثه، توقف فجأة.
‘ما الذي جرى له؟’
تردد قليلًا، ثم أخفى يده المرتعشة أسفل المنصة وأخذ يتحدث.
وكان ما قاله بعد ذلك مفعمًا بخفة ظله المعتادة وروحه المرحة.
“إذاً، ترقبوا الحفل الرئيسي غدًا.”
أنهى كاين خطبته القصيرة بانحناءةٍ خفيفة ثم نزل عن المنصة.
و رغم أنني شعرت بالقلق في البداية، لكن ما دامت الأمور سارت على خير ما يرام، فهذا يكفي.
بدأ الناس يغادرون الواحد تلو الآخر بوجوه يعلوها الرضا. ثم سرت خلف كاين الذي دخل عائدًا إلى القصر.
“سموك!”
يبدو أن الأمر أرهقه قليلًا، فقد رأيته يسير مستندًا بخفة إلى الجدار، فناديته بفرح.
لكنه لم يتوقف.
‘ألم يسمعني؟’
فأسرعت الخطى حتى اقتربت منه أكثر.
“سموك! لقد أبدعت اليوم حقًا! كنتَ قلِقًا قليلًا في البداية لكن…..سموك؟”
كنت أتكلم بحماس إلى جواره حتى مشيت أمامه. غير أن كاين ظل يسير للأمام دون أن يتوقف.
فتراجعت إلى الخلف أراقبه، و رأيت في عينيه نظرات زائغة خالية من التركيز، وكان يتنفس بصعوبة شديدة.
“سموك…..ألا تسمعني؟”
ناديت عليه مراتٍ ومرات، لكنه لم يجب. كأنه لم يشعر بوجودي أصلًا.
ومع مرور الوقت صار تنفسه يزداد اضطرابًا وحدة.
ثم توقف كاين فجأة عن السير. فاقتربت منه بقلق ومددت يدي لأمسك بذراعه بحذر، فإذا به يهوي جالسًا على الأرض.
“سموك!”
انتفضتُ رعبًا وجثوت إلى جواره لألتقي بعينيه.
كانت عينا كاين غارقتين في ظلمةٍ تشبه أعماق البحر. ثم أخذ جسده كله يرتعش، وأنفاسه تتلاحق كمن يلفظها قسرًا مع دموعٍ انهمرت من عينيه.
“سموك! هل أنتَ بخير؟ انظر إلي…..نعم؟ كاين سمو الأمير!”
كان كاين يتشبث بالجدار بأنامل مرتعشة، يلهث بشدة والدموع تسيل على وجنتيه.
________________
يمه شفيه شكله صيق تنفس من اصطراب او شي يا عمري
بدايه الفصل استنى ايرفين تعلم دانتي كيف يرقص بس ماتوقعت ذاه اصبروا شوي شوي😭
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 67"