كيف نسيتُ ذلك؟ ما الذي حدث لحسّ التواريخ لديّ؟
أين بعتُ عقلي يا ترى؟
لم أصدق أنني نسيت تمامًا أهم يوم على الإطلاق.
و حين توقفت فجأة عن الكلام وزفرت بقوة، اقترب هيوز مني وعلى وجهه علامات القلق.
“أممم……سيدتي الكونتيسة، هل أنتِ بخير؟”
‘هاه.’
صوته أعادني إلى رشدي.
صحيح، أنا دائمًا غائبة الذهن بهذا الشكل، فكيف لي أن أعرف؟
ثم سارعت بسؤاله.
“كم تبقى على يوم تأسيس المملكة؟”
“إذا لم يحدث شيءٌ غير متوقع، فحوالي أسبوع.”
معقول؟ ألم أكن أعلم أن الوقت مرّ لهذه الدرجة؟
حين كنت على وشك أن أوبّخ نفسي مجددًا، تحدث هيوز،
“يبدو أن دواء الأمس قد نفع، فجلالته في حالة صحية أفضل بكثير.”
كلامه هدّأ ذهني المشتت وطمأن قلبي القلق. لتنفست بارتياح وأخرجت من الحقيبة الدواء الجديد الذي صنعته وسلمته لهيوز.
“هذا الدواء سيكون أكثر فعاليةً من دواء الأمس. هل يمكن إعطاؤه لجلالته الآن؟”
“آه، سلّميه لي، سأقوم بالأمر بنفسي.”
أخذ هيوز القارورة، و فتح الغطاء واستنشق الرائحة. ثم كأنه شعر بنظراتي، سعل بخفة وهمهم معتذرًا.
“عذرًا، لم أقصد ذلك……هذا مجرد تصرفٍ تلقائي……”
تذكّرت كاين الذي تصرف بنفس بالطريقة، فضحكت بهدوء وهززت كتفي.
“لا بأس، أفهمكَ.”
“شكرًا لكِ، سيدتي الكونتيسة.”
ثم مثل كاين تمامًا، سكب قليلًا من الدواء على ظاهر يده ولعقه بلسانه.
و الفرق الوحيد هو أن كاين كان قد مازحني قائلاً إنه مرّ، أما هيوز فراح يتذوقه بهدوء.
وفجأة، وكأنه استشعر شيئًا، اتسعت عيناه،
“لا يمكن……هل أضفتِ جذور شجرة الرياح؟”
“كيف عرفت؟”
“لأن نكهة شجرة الرياح المميزة واضحةٌ جدًا! إنها من المواد النادرة التي لا تتوفر بسهولة في الأسواق، من أين حصلتِ عليها؟”
شجرة الرياح، على عكس ما يوحي به اسمها، لم تكن شجرةً فعلًا، بل نبتةً حولية يصعب العثور عليها أو زراعتها لأنها تحتاج لظروف معقدة: أن تكون جافةً ورطبة في الوقت نفسه، جيدة التهوية لكنها تفسد بسهولة عند التعرض للرياح.
وكان مذاقها فريدًا، تُعرف بكونها تحتوي على الطعم القابض، الحامض، الحار، الحلو، والمالح معًا.
لدرجة أن الناس يعتبرون من يصادفها ولو مرةً واحدة في حياته محظوظًا.
وفوق ذلك، الجزء الوحيد القابل للاستخدام كدواء منها هو الجذر فقط. و جذرها لا ينمو في العام الواحد سوى بطول عقلة الإصبع أو اثنتين.
“لم أرَ هذا المكوّن منذ عشر سنوات! آخر ما سمعت أنه تحت إدارة برج السحر، حيث يتم التحكم في أنواعه حول العالم……”
أها، إذًا كان هذا ما أحضره دانتي.
كلام هيوز جعل مشاعري تجاه دانتي تنقسم إلى شقين. الأول كان الامتنان لأنه جلب مثل هذه الأعشاب النادرة، والثاني انزعاجٌ طفيف من أنه اختار عن قصد أغلى وأندر المكونات.
لكن طالما أنها يمكن أن تشفي جلالة الملك، فما المشكلة؟
“آمل أن يكون مناسبًا لجلالته.”
ومع ذلك، فحتى أغلى المكونات لا تكون نافعةً دائمًا، فلكل شخص ما يناسبه من الأعشاب.
أومأ هيوز برأسه موافقًا، ثم سكب الدواء برفق في فم الملك.
وبعد أن أفرغ القارورة تمامًا، التفت إليّ،
“أمم……سيدتي الكونتيسة.”
حرك أصابعه بتوترٍ وأخذ يرمقني بنظراتٍ مترددة، فابتسمت له ابتسامةً مشرقة.
“تحدث براحتكَ.”
“….إن لم يكن في الأمر حرج، هل يمكنني رؤية جذور شجرة الرياح……؟ لن أطلبها لنفسي! فقط أريد رؤيتها وحسب……”
أومأت برأسي لهيوز الذي كان ينظر إليّ بعينين مليئتين بالرجاء. فاندفع نحوي راكضًا، ضامًا يديه، يشكرني بحماسٍ صادق، وكان يبدو سعيدًا للغاية.
“شكرًا جزيلًا! شكرًا لك، سيدتي الكونتيسة! سيكون هذا اليوم، وذلك اليوم، من الأيام التي لا تُنسى في حياتي!”
لا يزال لدي اثنتان مما أعطاني إياه دانتي، وعلى الرغم من أنها ثمينة، فلا بأس بإهدائه واحدةً سرًا.
وحين بدا أن هيوز على وشك أن يرقص من شدة الفرح، تحدثت بسرعه،
“سأخرج قليلًا ريثما يبدأ مفعول الدواء. إذا حدث شيءٌ قبل عودتي، أو ظهرت أي استجابة، فأرجو أن تستدعيني فورًا.”
“بالطبع! استريحي في مكانٍ مريح، وسأركض إليكِ في الحال!”
راقبته وهو يحييني بأداء التحية العسكرية، ثم غادرت الغرفة.
ولكن، منذ المرة الماضية، شعرت بشيء غريب……الملك لا يستيقظ حتى إن كان هناك صخبٌ بجواره.
‘حسنًا، ربما لأنه مريض.’
هززت رأسي لأطرد تلك الأفكار، ثم خرجت.
وفي هذا القصر الملكي، الذي لا ملاذ فيه تقريبًا، لم يكن هناك سوى مكان واحد يمكن التوجه إليه.
“يبدو أن إيرفين تحب هذا المكان.”
“هاه؟”
قال دانتي ذلك، الذي كان لا يزال يتبعني، فجأة. فرفعت رأسي أنظر إليه متسائلةً عما يعنيه، فأجاب ببرود.
“كلما جئتِ إلى هذا المكان، تبدو الحمرة على وجهكِ.”
هل كنتُ حقًا كذلك؟
كنت أشعر بالراحة هنا، لكن هل كنتُ أبدو سعيدةً إلى هذا الحد؟
إن كان حتى دانتي، بجموده المعتاد، قد لاحظ ذلك، فلا بد أن الأمر كان واضحًا جدًا. فشعرت ببعض الخجل.
وبينما كنت أفكر بالأمر مليًا، أجبته،
“ربما.”
“ربما؟”
“لم أكن أعلم ذلك عن نفسي، لكن يبدو أنني أحب الأزهار أكثر مما كنت أظن.”
لطالما كنت منشغلةً بالنجاة لدرجة أنني وضعت كل شيء جانبًا، سواءً كان زهورًا أو مناظر طبيعية. و كنت أكتفي بالتفكير: آه، إنها جميلة، ولا شيء أكثر.
كانت حياتي تفتقر حتى لما يمكن أن يُسمى هوايةً أو حب.
وإن اضطررت لاختيار شيء أحبه، فسيكون الطعام. لأنني كنت بحاجةٍ للأكل لأواصل العيش.
‘يا ترى……هل كانت حياتي أكثر بؤسًا وظلمةً مما كنت أعتقد؟’
لكن الآن، أصبح لديّ شيءٌ أحبه.
“نعم، أحب الأزهار.”
حين أعود إلى القصر، سأزرع المزيد من الزهور وأهتم بالحديقة أكثر.
و لدي بستانيٌ ماهر، يجب أن أستفيد منه لأقصى حد.
مجرد التفكير في تزيين المنزل جعل الابتسامة ترتسم على وجهي.
أن يكون لديكَ شيءٌ تحبه……يجعل الحياة أفضل قليلًا.
“هذا جيد، لأنكِ تبدين سعيدة.”
“نعم؟”
“قبل قليل، كان يبدو على وجهكِ وكأن كارثةً قد وقعت.”
“قبل قليلٍ تقصد……”
في تلك اللحظة، تذكّرت الحديث الذي دار بيني وبين هيوز.
هل أنا غبيةٌ فعلًا؟ لماذا أستمر في نسيان الأمور؟
تنفست بعمق محاوِلةً تهدئة نفسي. فلولا ذلك، لكنت شعرت أن قلبي سيقفز خارج صدري في أي لحظة.
‘تماسكي. فكّري بهدوء.’
دانتي لم ينظر إليّ باستغراب، بل نظر إليّ بعينين مليئتين بالقلق. لكن الآن لم يكن الوقت المناسب للالتفات إليه.
تبقى أسبوعٌ واحد فقط على يوم تأسيس المملكة. وبعد أسبوعٍ من يوم التأسيس، ستظهر البطلة لأول مرة.
‘أمامي أسبوعان قبل ظهور البطلة. إن تمكنتُ خلالهما من عدم لقاء إيدن أو لفت انتباهه، فسأبتعد عن مجرى القصة الأصلية.’
ثم سأتابع القصة كمتفرجةٍ هادئة، أشجّع حب البطلة وإيدن من بعيد، إلى أن تصل القصة إلى نهايتها.
وحينها، سأعيش بسلامٍ كإيرفين، أتمتع بالصحة وأبلغ من العمر عتيًّا!
رسمت ابتسامةً تلقائية على وجهي من جمال الخطة وكمالها. لكن كان هناك أمرٌ واحد يزعجني.
‘في القصة الأصلية، لم يكن الملك مريضًا أبدًا……’
أتذكّر أن الملك هو من كان يحضّر فعاليات يوم التأسيس بنفسه……هل تسبب ابتعادي عن مجرى القصة في حدوث تأثير الفراشة*؟
* التغييرات الصغيرة في الظروف الأولية لنظام معقد، مثل حالة الطقس، يمكن أن تؤدي إلى نتائج غير متوقعة وكبيرة على المدى الطويل. بمعنى آخر، قد تتسبب حركة بسيطة مثل رفرفة جناح فراشة في إحداث سلسلة من الأحداث التي تؤدي إلى إعصار في مكان آخر.
لكن، بما أن القصة لم تبدأ بعد، فلا بأس، أليس كذلك؟
فكرت بتهاون وعدت برفقة دانتي إلى غرفة الملك. وهناك، التقينا بكاين الذي كان واقفًا أمام الباب.
“سموك، هل نلتَ قسطًا من النوم اليوم؟”
“آه مرحباً، يبدو أنني لم أرَ الساحر منذ زمن.”
يبدو أنه يحاول تحويل الحديث بلطف……و لا بد أنه لم ينم جيدًا اليوم أيضًا.
لقد اعتبر ثلاث ساعات من النوم المتقطع كافية، ولم يتناول حتى حبوب النوم.
‘ماذا لو تدهورت صحته بهذا الشكل؟’
نظرت إليه خلسة بينما كان دانتي يتجاهله، ولم أتمالك نفسي من التذمر في داخلي.
فالصحة تأتي أولًا من طعام جيد ونوم كافٍ.
“سمعت من هيوز أنكِ جلبتِ دواءً مصنوعًا من مكونات نادرة للغاية.”
“آه، نعم. بما أن دواء الأمس بدا فعّالًا، استخدمت نفس طريقة التحضير، لكن أضفت مكوّنًا جديدًا.”
فأخرجت القارورة بسرعة من الحقيبة وأريتها لكاين.
وبينما لم يكن يفقه الكثير في الأعشاب، تمتم بإعجاب، “هوو……” وكأنه مهتمٌ جدًا.
ثم خشيت أن يُنسب الفضل بالخطأ إليّ وحدي، فأضفت بسرعة،
“دانتي هو من أرشدني. قال أن المكوّن سيكون فعّالًا. إنه نادرٌ جدًا، ولا يمكن لأي أحد الحصول عليه.”
أخذ كاين يُقلّب القارورة بحثًا عن الفروق بينها وبين دواء الأمس، ثم ابتسم ابتسامةً لطيفة.
“أرى……أشكركِ على بذل هذا الجهد من أجل صحة جلالته.”
“كل ما في الأمر أنني أديت واجبي، لا أكثر.”
رفعت كتفيّ بفخر، ثم نظرت إلى كاين بنظرةٍ مطوّلة.
بالأمس، كان يتحدث عن نفسه بعيون دامعة، أما الآن، فوجهه صافٍ وكأن شيئًا لم يحدث.
فشعرت بالقلق من داخلي. هل تتفاقم آلامه النفسية بينما يبدو ظاهريًا بخير؟
“وإذا احتجت لشيء، كاين، أخبرني. ليس فقط دواءً……بل حتى إن كنت تحتاج لمن يسمعك، فأنا هنا دائمًا.”
رغم أنني قضيت الليل أفكر وأحضّر الدواء، لم أجد طريقةً أفضل من هذه الجملة البسيطة لأقدم له يد العون.
____________________
كاين طايح اصلا مب لازم تطرحينه زياده المسكين😭
دانتي يجنننن ماغير يلاحظ اي تفصيله صغيره لإيرفين🤏🏻
Dana
التعليقات لهذا الفصل " 65"